آخر الأخبار

أجراس حزينة وأمنيات بالسلام.. مسيحيو غزة يستقبلون الميلاد بقلوب مثقلة بآثار الحرب والحصار

شارك

في حي الزيتون العريق جنوب شرق مدينة غزة، يخيم الصمت المطبق على منزل ليزا الصوري، حيث تغيب شجرة الميلاد وزينتها للعام الثالث توالياً. لقد اغتال الاحتلال الإسرائيلي ليزا وزوجها طارق وطفلهما عيسى بصاروخ غادر استهدف كنيسة القديس بيرفيريوس، ليحيل فرحة العائلة إلى مأساة أبدية.

لم يكتفِ العدوان بشطب اسم عائلة ليزا من السجلات المدنية فحسب، بل أطفأ مع رحيلهم أنوار الأعياد التي كانت تتلألأ في منزلهم كل عام، حاملة معها ترانيم السلام والمحبة التي وأدتها آلة الحرب الإسرائيلية.

تحل مواسم الأعياد مثقلة بالأحزان على المسيحيين في قطاع غزة، الذين دأبوا في الماضي على تدشين احتفالاتهم منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر بقرع أجراس الكنائس في البلدة القديمة، إيذانًا ببدء الطقوس للطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.

غير أن الحرب الشعواء التي شنها الاحتلال على غزة اغتالت الفرحة في المهد، وخلفت ندوباً غائرة في النفوس والذاكرة يصعب محوها أو تجاوزها بسهولة، تاركة العائلات تتلمس طريقها نحو الفرح وسط الركام.

وسط هذا الدمار، تسعى السيدة مي عياد جاهدة لاستعادة بعض من طقوس الميلاد داخل منزلها، بعد غياب قسري استمر لعامين عاشت خلالهما ويلات القصف والتجويع ومرارة النزوح المستمر.

تروي مي، وهي أم لثلاثة أطفال، بمرارة كيف أن طفلتها الصغيرة مريم لا تدرك ماهية شجرة الميلاد، إذ اندلعت الحرب وهي لم تتجاوز عامها الثاني، مما غيب عنها مظاهر العيد الحقيقية ومعانيه.

وتؤكد الأم عزمها هذا العام على مرافقة صغارها إلى الكنيسة لحظة إضاءة الشجرة، في محاولة لتعويضهم عما فقدوه من طقوس روحانية واجتماعية بسبب العدوان المدمر الذي استهدف كل مناحي الحياة في القطاع.

وتلفت عياد إلى أن ابنتها تعرفت على شخصية "بابا نويل" فقط عبر شاشات الهواتف ومقاطع الفيديو المتداولة، وباتت تطرح تساؤلات بريئة عن موعد قدومه، وهي أسئلة لم تكن تملك الأم إجابات لها تحت وطأة القصف، آملة أن يحل العيد حاملاً معه السلام ولم شمل عائلتها المشتتة بين غزة والضفة الغربية.

وفي سياق الحصار المستمر، تواصل سلطات الاحتلال للعام الثالث إغلاق حاجز بيت حانون (إيرز)، مانعة المسيحيين الفلسطينيين من ممارسة حقهم الديني في الوصول إلى مدينة بيت لحم والحج إلى كنيسة المهد، ضمن سياسة العقاب الجماعي الممنهجة ضد أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في القطاع.

وحتى في السنوات التي سبقت العدوان الحالي، كان الاحتلال يضع العراقيل أمام سفر مسيحيي غزة إلى محافظات الضفة المحتلة، مقتصراً في تصاريحه على فئات عمرية محددة ككبار السن والنساء، إلا أن المنع بات اليوم شاملاً وكاملاً، حارماً الجميع من حق العبادة والتنقل.

لقد اتخذت عياد وعائلتها من الكنيسة ملاذاً آمناً طيلة فترة العدوان الإسرائيلي، وكتبت لهم النجاة بأعجوبة مرات عدة حينما كانت حمم القذائف تتساقط بكثافة على البلدة القديمة، المعقل التاريخي للوجود المسيحي وتمركز الكنائس في غزة.

وقد طال الاستهداف الإسرائيلي المباشر ثلاث كنائس رئيسية خلال الحرب، تعرض بعضها للقصف المتكرر، ما أسفر عن دمار واسع في مبانيها الأثرية وتخريب مرافقها الحيوية التي كانت تقدم الخدمات للمواطنين.

وتشير الإحصائيات الرسمية إلى تناقص أعداد المسيحيين في غزة ليصل إلى 667 شخصاً فقط، بعد ارتقاء أكثر من 20 شهيداً بنيران الاحتلال خلال حرب الإبادة، ما يمثل نسبة تتجاوز 3% من إجمالي عددهم، فضلاً عن اضطرار المئات للهجرة والنزوح خارج القطاع في الأشهر الأولى للحرب هرباً من الموت.

لا نزال نشعر بالحزن لما خسرناه طوال الحرب من الأفراد والأبنية كحال أهالي القطاع المكلومين، ومع ذلك ننظر بعين الأمل لما هو قادم لتتغير الأجواء وتعود الحياة.

وفي مشهد آخر من معاناة الشتات، تكابد السيدة عبير متّى ألم الغربة القسرية، حيث غادرت غزة مرافقة لمريضة للعلاج في مصر، لتجد نفسها عالقة دون قدرة على العودة إلى القطاع بسبب استمرار احتلال وإغلاق معبر رفح البري.

وكانت عبير تعتمد في السنوات الماضية على التكنولوجيا لمشاركة عائلتها في الضفة المحتلة احتفالات العيد، نظراً للرفض الإسرائيلي المستمر لمنحها تصاريح الزيارة والتنقل للوصول إليهم.

وتستذكر عبير بحسرة تلك الأيام قائلة: "اعتدنا أن نضيء شجرة الميلاد هنا في غزة، بالتزامن مع إضاءة شقيقتي لشجرتها في رام الله، لنحتفل سوياً عبر الأثير رغم الحواجز والمسافات".

وتعود بذاكرتها إلى الأيام التي كانت والدتها الراحلة تتمكن فيها من زيارة بيت لحم وجلب الهدايا للأحفاد، وهي طقوس باتت اليوم حلماً بعيد المنال في ظل الحرمان الإسرائيلي المطبق.

ورغم أن المسافة الجغرافية بين مدينتي غزة ومهد المسيح في بيت لحم لا تتعدى 75 كيلومتراً، إلا أن الحواجز العسكرية والسياسات الاحتلالية جعلت منها مسافة شاسعة تقطع أوصال الوطن الواحد وتفرق العائلات.

من جانبه، يرى إلياس الجلدة، عضو مجلس وكلاء الكنيسة الأرثوذكسية بغزة، أن عيد الميلاد يحل هذا العام في ظل هدوء نسبي للعمليات العسكرية، معرباً عن ترقبه لأجواء جديدة تتيح لهم الفرح بالنجاة من أهوال هذه الحرب المسعورة.

ويؤكد الجلدة أن مشاعر الحزن لا تزال تخيم على القلوب بسبب فقدان الأحبة والدمار الهائل الذي طال البشر والحجر، حالهم كحال كافة أبناء القطاع المكلومين، مستدركاً بأن الأمل يبقى موجوداً لتغير الأحوال وعودة نبض الحياة إلى غزة.

وبين أن الكنيسة ودعت قرابة 27 شهيداً من أبنائها قضوا بصواريخ الاحتلال التي استهدفت مباني الكنيسة، لافتاً إلى أن العدوان الإسرائيلي حرم المسيحيين من إحياء طقوس إضاءة شجرة الميلاد لموسمين متتاليين.

واستعرض الجلدة المحطات المؤلمة، حيث غابت إضاءة الشجرة لأول مرة في ديسمبر/كانون الأول 2023 بسبب حصار الدبابات للكنيسة في مدينة غزة واقتراب جيش الاحتلال منها، وارتقاء نحو 18 شهيداً قبل العيد بأسابيع قليلة، بينما حل العيد الثاني عام 2024 وسط شبح المجاعة والقصف المتواصل.

وأعلن أن الكنيسة تعتزم هذا العام إضاءة شجرة الميلاد داخل أسوارها، في رسالة تحدٍ للألم ومحاولة لبث روح الأمل والفرح في نفوس الأطفال والعائلات، وللتأكيد على أن الحياة ستستمر وأن كابوس الحرب سينجلي.

ونوه إلى القيود التاريخية، حيث كان الاحتلال يسمح قبل الحرب لعدد محدود لا يتجاوز 400 مسيحي بزيارة المقدسات في الضفة الغربية والقدس للمشاركة في الأعياد، بينما يُحرم السواد الأعظم تحت ذرائع أمنية واهية.

ويختتم المسؤول الكنسي حديثه بتلخيص أمنيات مسيحيي غزة في هذا العيد، والتي تتمحور حول الوقف التام للحرب، وإعادة إعمار ما دمره العدوان، والعيش باستقرار بعيداً عن حياة النزوح في الخيام وساحات الكنائس، آملين أن تضاء شجرة العام القادم في ظروف يسودها السلام والحرية.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا