تتقلص الجغرافيا ويتراجع الأفق مع كل يوم يمضي منذ بدء العمل بالمرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، في حين تتكثف الأسئلة بشأن مصير قطاع يعيش تحت وطأة الخرائط المتبدلة والقيود المتصاعدة.
بينما تحاول غزة التقاط أنفاسها وسط هدنة هشة تبدو الوقائع على الأرض بعيدة عن أي استقرار مع استمرار الخروقات وتوسع المناطق التي بسطت إسرائيل سيطرتها عليها وتضييق الخناق على حياة أكثر من مليوني إنسان.
ويورد تقرير مراسل تفاصيل هذا المشهد المعقد، مستندا إلى معطيات رسمية وشهادات ميدانية تكشف حجم الفجوة بين ما نص عليه الاتفاق وبين ما تحقق فعليا على الأرض.
وخلال 50 يوما فقط رصد مكتب الإعلام الحكومي عشرات الخروقات التي تركزت في منع دخول المساعدات وتعطيل حركة النازحين، إضافة إلى تمسك الجيش الإسرائيلي بالبقاء في المنطقة الصفراء ومحاولة توسيعها.
وتُظهر التفاصيل أن خريطة السيطرة المعلنة في الاتفاق لم تصمد سوى أيام قليلة أمام التغييرات المتسارعة، فبين نصوص الاتفاق وحدود الخرائط برزت معادلة مغايرة.
إذ أخذت أرض غزة تنكمش شيئا فشيئا، وتراجعت المساحات الآمنة أمام السكان.
الخط الأصفر -الذي شُكّل ليكون الحد الفاصل بين مناطق السيطرة الإسرائيلية والمناطق المخصصة للغزيين- كان من المفترض أن يتراجع تدريجيا مع الانتقال إلى المرحلة الثانية، لكنه اتجه بالعكس تماما.
في البداية، قُدّرت السيطرة الإسرائيلية خلف الخط الأصفر بنحو 53% من مساحة القطاع على أن تنخفض لاحقا، لكن الوقائع الميدانية -وفق حركة حماس– أظهرت أن الجيش تجاوز هذا الخط مرارا.
ونفذ ما يقارب 600 خرق بين غارات وقصف مدفعي وتوغلات وإطلاق نار مباشر.
هذه الخروقات -كما تؤكد الجهات الحكومية في غزة- خلفت أكثر من 350 شهيدا ونحو 900 جريح، في حصيلة تعكس اتساع نطاق العمليات رغم سريان الاتفاق.
ولم يكتف الجيش بذلك، بل بدأ بدفع الخط الأصفر غربا لابتلاع مزيد من الأراضي، خصوصا في أحياء غزة وشمالها.
وبعد 50 يوما من دخول الاتفاق حيز التنفيذ وصلت السيطرة الفعلية للجيش الإسرائيلي إلى ما يقارب 58% من مساحة القطاع.
وهو ما جعل تغير الخرائط واقعا يوميا لا مجرد تقديرات، وتجاوزت تداعيات ذلك حدود الجغرافيا لتنعكس بشكل مباشر على حياة السكان.
واليوم، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في شريط ضيق بمحاذاة الساحل، وسط كتل هائلة من الركام التي تحيط بالمخيمات والمساكن المؤقتة.
ويشكل النازحون نحو نصف هذا العدد، في حين تتكدس عشرات الآلاف من الأسر في مخيمات متهالكة تفتقر إلى أبسط مقومات البقاء.
وفي هذا الشريط الضيق المحصور باتت الحياة شبه مستحيلة، فلا طرق صالحة، ولا شبكات مياه أو كهرباء، ولا بنى تحتية للصرف الصحي.
أما المرافق الطبية فانهارت قدرتها على تقديم الحد الأدنى من الرعاية لعشرات الآلاف من المرضى والجرحى، في ظل انعدام الموارد وغياب الإمدادات.
وأجبر هذا الواقع القاسي مئات الآلاف من النازحين على التشارك في مرافق بدائية، والوقوف في طوابير طويلة للحصول على ما يحول دون الموت جوعا أو عطشا.
وتحولت المساعدات الإنسانية إلى شريان الحياة الوحيد، لكنها تخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة تتحكم في كمياتها ومحتوياتها ونقاط دخولها والجهات المسموح لها بتسلمها.
ورغم أن الاتفاق نص على دخول 600 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود يوميا فإن الجهات الفلسطينية تؤكد أن العدد الفعلي لم يتجاوز في أفضل حالاته 220 شاحنة يوميا.
أي أقل من ثلث العدد المتفق عليه، ويؤدي هذا التراجع الحاد إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتسريع انهيار ما تبقى من الخدمات.
وبين ضغوط النازحين وصعوبة وصول المساعدات تبدو غزة كما لو أنها تعاد صياغتها قسرا وفق خرائط جديدة وحقائق ميدانية قاسية.
ويجد السكان أنفسهم محاصرين بين اتفاق لم يُحترم وواقع يزداد هشاشة ومعركة يومية من أجل البقاء.
المصدر:
القدس