في خضم الترتيبات المعقّدة التي أعقبت اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار، تبرز ظاهرة سياسية واضحة في المشهد الشرق أوسطي لعام 2025، وهي تحول الدور الأمريكي من شريك استراتيجي للاحتلال الإسرائيلي إلى ما يشبه الوصي الإداري.
هذا التحول لم يعد مجرد استنتاج تحليلي، بل أصبح واقعا تبرزه استطلاعات الرأي داخل كيان الاحتلال، وتتحسب له الأروقة السياسية الفلسطينية والإقليمية، مما يشكل مشهدا تتداخل فيه السيادة بالتبعية، والضمانات بالفخاخ السياسية.
عقدة "المحمية الأمريكية" وأزمة السيادة في كيان الاحتلال لعل المفارقة الأبرز في المشهد الإسرائيلي الراهن هي تلك الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الشعبي، فحينما يُظهر استطلاع لـ"القناة 12 الإسرائيلية" أن 69 في المئة من الإسرائيليين يرون أن كيانهم بات تحت الوصاية الأمريكية، وأن قرار الحرب والسلم يُطبخ في واشنطن لا في "الكرياه"، فإننا أمام أزمة ثقة عميقة تضرب صلب العقيدة الصهيونية القائمة على الاعتماد على الذات.
نتنياهو، الذي يحاول عبثا نفي صفة المحمية الأمريكية عن حكومته، يجد نفسه محاصرا بتناقضات خطابه؛ مرة يصف التدخل الأمريكي بالهراء، ومرة أخرى يؤكد التنسيق الكامل لتبرير العجز عن اتخاذ قرارات منفردة بشأن القوات الدولية.
أما المعارضة الإسرائيلية، بقيادة لابيد وغانتس، فتمارس لعبة مزدوجة؛ فهي تبارك الوصاية كوسيلة لإنقاذ الأسرى وجثث الجنود ووقف النزيف، لكنها تحذر بخجل من تآكل الردع المستقل.
وكما وصفت صحيفة "هآرتس"، فإن السيادة الإسرائيلية في عهد نتنياهو تحولت إلى سيادة خطابية ورمزية، بينما تمارس واشنطن السيادة الفعلية عبر ضباطها ومستشاريها الذين باتوا جزءا من أثاث غرفة العمليات الإسرائيلية.
المأزق الفلسطيني.. بين مطرقة الاحتلال وسندان الضامن المنحاز فلسطينيا، لا يُنظر إلى هذه الوصاية الأمريكية بعين الرضا أو الاطمئنان، بل بعين الريبة المشوبة بالضرورة.
تدرك حركة المقاومة الإسلامية "حماس" والفصائل الفلسطينية أن الانخراط الأمريكي القوي هو الرافعة الوحيدة المتاحة حاليا لإلزام الاحتلال ببنود اتفاق شرم الشيخ، خاصة بعد تسليم ورقة الأسرى.
ومع ذلك، فإن القراءة الفلسطينية العميقة ترى في هذا الدور فخا استراتيجيا، فواشنطن، التي تقدم نفسها كضامن، تتماهى عمليا مع الرؤية الأمنية للاحتلال الإسرائيلي الهادف لهندسة قطاع غزة ديمغرافيا وأمنيا عبر مقترحات القوات الدولية أو إعادة الإعمار الانتقائي.
الخشية الفلسطينية تكمن في أن تتحول الوصاية الأمريكية إلى غطاء شرعي لتقسيم القطاع وظيفيا وتكريس الاحتلال تحت مسميات إنسانية، مما يفرغ الاتفاق من أي أفق سياسي حقيقي للدولة الفلسطينية، ويحصر القضية في تحسينات معيشية تحت حراب الرقابة الدولية.
الاستراتيجية الإقليمية.. التحوط وبناء "شبكة الأمان" أمام هذا المشهد الضبابي، لم يقف الوسطاء الإقليميون (تركيا ومصر وقطر) موقف المتفرج، بل دشنوا استراتيجية التحوط النشط.
تدرك هذه الدول أن الرهان على الجدية الأمريكية وحدها هو مقامرة غير محسوبة، نظرا للتقلبات الداخلية في واشنطن ولتداخل المصالح العضوية بين الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي.
لذا، نشهد حراكا لافتا نحو بناء كتلة إقليمية صلبة، تتجلى في التقارب المصري التركي، وتفعيل دور السباعية الإسلامية، وتعزيز التعاون العسكري والاقتصادي بين دول المنطقة.
هذه التحركات تهدف لغرضين، الأول، محاصرة نتنياهو سياسيا وقانونيا، كما فعلت المحاكم التركية لتقليم أظافره إذا ما قرر الانقلاب على الاتفاق، والثاني، تقديم بدائل إقليمية لمقترحات التدويل الأمريكية، عبر الإصرار على أن تكون أي قوات لحفظ السلام تحت مظلة أممية واسعة لا تحت عباءة النفوذ الأمريكي المنفرد.
ختاما.. إن الوصاية الأمريكية على الاحتلال الإسرائيلي، وإن بدت في ظاهرها قيدا على جنون اليمين المتطرف، إلا أنها في جوهرها قد تكون أداة لإعادة إنتاج الاحتلال بصيغة أكثر استدامة وقبولا دوليا، لذا، فإن المعركة الحقيقية في المرحلة المقبلة لن تكون في الميدان العسكري فحسب، بل في ميدان التفاوض السياسي، حيث سيتعين على الفلسطينيين وحلفائهم الإقليميين تفكيك الألغام السياسية التي تزرعها واشنطن تحت غطاء الضمانات، لضمان ألا يتحول وقف إطلاق النار إلى وقف للمشروع الوطني الفلسطيني.
المصدر:
القدس