في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلنت المحكمة الوطنية الإسبانية وهي أعلى سلطة قضائية جنائية في البلاد، فتح تحقيق رسمي ضد مسؤولين تنفيذيين في شركة الصُلب الإسبانية، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية، على خلفية تعاملهم مع شركة أسلحة إسرائيلية.
خلفية هذا الحدث تأتي من أن حظر توريد الأسلحة إلى إسرائيل بات قانونا في إسبانيا، ودخل حيز التنفيذ، وذلك في إطار التدابير الرامية إلى وقف ما وصفه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بالإبادة الجماعية في قطاع غزة.
هل من موقف عربي أو إسلامي يوازي هذا الموقف؟ أشاع الموقف الإسباني الرسمي والشعبي من الحرب على غزة، ارتياحا كبيرا في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية، لكنه أحرج الكثير من الأنظمة والحكومات أيضا.
وبغض النظر عن هذا وذاك، فقد كان موقف إسبانيا متلائما تماما مع القانون الدولي ومع القيم الإنسانية.
وهنا يمكن القول إن الدوافع التي تقف وراء هذا الموقف هي على مستويين، خارجي وداخلي.
أما على المستوى الخارجي، فهو سعي مدريد لتكثيف حضورها الإقليمي والدولي، سواء داخل منظومة الاتحاد الأوروبي، أو على الصعيد الدولي ككل.
فهي ترى أن العواصم الأوروبية تواجه تحديات شتى وانقسامات سياسية كبيرة، بشأن الأحداث التي يمر بها العالم، بالتالي هي تحاول أن تطرح نفسها حلقة وصل بين دول الشمال ودول الجنوب، من خلال اتخاذها مواقف تتلاءم مع القانون الدولي الإنساني.
وأن ما يعزز نجاح هذه الاستراتيجية هو العناصر التي تمتلكها مدريد بيدها، فإسبانيا هي رابع قوة اقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ذلك وزنها الديموغرافي.
أما الدوافع الداخلية للموقف الإسباني الإيجابي من الحرب على غزة، فمرده إلى أن الحزب الحاكم هو الحزب الاشتراكي، المتحالف مع أحزاب أقصى اليسار.
وكل من يراقب الحالة السياسية في الدول الأوروبية يعرف تماما، أنه عندما تكون هنالك أحزاب متحالفة وحكومات ائتلافية، فإن الأحزاب حتى إن كانت صغيرة وقليلة القاعدة الشعبية، لكنها تستطيع أن تفرض مواقفها وأجندتها على الحزب الحاكم.
فالحزب الاشتراكي الحاكم في إسبانيا على مدى خمس عشرة سنة، كان ضمن برنامجه الانتخابي، الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكنه على الرغم من أنه حكم إسبانيا منفردا من دون وجود تحالف مع أقصى اليسار، فإنه لم يُطبّق شعاره الانتخابي، وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية على أرض الواقع.
أما الآن فالوضع السياسي الداخلي في إسبانيا مختلف تماما.
فأحزاب اليسار موجودة في الحكومة الإسبانية الحالية، ولدى حزب سومار اليساري خمسة وزراء فيها.
وهذه الأحزاب هي التي تفرض على الحزب الاشتراكي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتضغط من أجل فرض العقوبات على إسرائيل، سواء العسكرية منها أو الاقتصادية.
لذلك بروز هذا الموقف الإسباني المؤيد لفلسطين داخل الاتحاد الأوروبي، مرده بالدرجة الأولى إلى أحزاب اليسار.
ويبدو واضحا أن هذه الأحزاب اليسارية في كل دول الاتحاد الأوروبي هي التي تتخذ الموقف نفسه المؤيد للحق الفلسطيني، وترفض الاحتلال الإسرائيلي، كما رفضت بشكل واضح المقتلة التي جرت وتجري في غزة.
حتى إن ممثلي هذه الأحزاب في البرلمان الأوروبي، قاموا بزيارة لقوافل الصمود، التي حاولت كسر الحصار على غزة.
يقينا أن المصالح تلعب دورا كبيرا في مواقف الدول، ومن المؤكد أن السلوك السياسي لمدريد لن يحيد عن هذه السياسة.
وإذا كان الموقف الإسباني بخصوص الحرب على غزة لافتا ومُغايرا عن المواقف الأوروبية، فإن خلفياته تقوم على رغبة إسبانية بالتفرّد داخل الاتحاد الأوروبي.
فمدريد ترى أن القوى الأوروبية الثلاث، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، بشكل أو بآخر هي تؤيد إسرائيل، في ما تقوم به من إبادة جماعية في غزة، لذلك وجدت الفرصة سانحة لإيجاد نوع من التوازن في الموقف الأوروبي.
فاستغلتها، سواء في العقوبات التي فرضتها على إسرائيل، أو في التضامن والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
إذن هي استثمرت في القضية الفلسطينية، كما فعلت ذلك أيضا في نزاعات أخرى في الساحة الدولية.
لكن في المقابل هي لم تخرج تماما عن سياق المواقف الأوروبية، فموقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، على سبيل المثال، ما زال يتساوق مع الموقف الأوروبي الموحّد الداعم لكييف، سواء ماليا أو عسكريا، والمُناهض للموقف الروسي.
من المؤكّد أن الأزمة الأوكرانية تختلف عن موضوع الحرب في غزة، فأحزاب اليسار الموجودة داخل الحكومة الإسبانية، كانت دائما تُعرقل حكومة الحزب الاشتراكي، كي لا يتخذ مواقف شبيهة بمواقف فرنسا وألمانيا على سبيل المثال.
ففي حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، كانت إسبانيا متقدمة جدا في موقفها عن كل دول الاتحاد الأوروبي، لكن في موقفها من الحرب في أوكرانيا كان لا يتقدّم على الموقف الأوروبي.
لأن أحزاب أقصى اليسار الموجودة في حكومة مدريد، تُعارض أن تلعب مدريد دورا مُغايرا، أو تتدخل في الأزمة بشكل كبير، كما ترفض تقديم عتاد عسكري إلى كييف.
ومن الواضح أن هذا الموقف هو موقف جماعي لأحزاب اليسار في أوروبا، فهي ترفض العسكرة وتقديم الدعم العسكري، لكنها تدعو إلى الحوار سبيلا لحل الأزمة الأوكرانية.
إن الروابط التاريخية والجغرافية المتفردة عن بقية الدول الأوروبية، قد جمعت بين إسبانيا والعالم العربي والإسلامي، حيث وجود العرب والمسلمين في إسبانيا حوالي 800 عام، مُضافا إليه اليوم الموقف الإسباني الأخلاقي والإنساني من الحرب على أهلنا في غزة.
لكن هذه العوامل لا تدفع باليقين المؤكد لدور إسباني كجسر بين أوروبا والعالمين العربي والإسلامي.
صحيح أن هناك مقبولية وارتياحا كبيرين على المستوى الشعبي لدى الرأي العام العربي والإسلامي لمواقف إسبانيا.
لكن المُراهنة على اندفاعة إسبانية كُبرى في هذه المواقف غير واقعي على الأقل في الوقت الحاضر، فهي لديها تحديات كُبرى وأمامها ملفات معقدة جدا في الاقتصاد والطاقة والأمن والهُجرة.
وكل هذه تفرض على صانع القرار الإسباني قيودا في عدم التمادي في صياغة قرارات باستقلالية تامة.
فعلى سبيل المثال خسرت مدريد ورقة تعويض الغاز الروسي إلى أوروبا بالغاز الجزائري، بعد الأزمة بينها وبين الجزائر على خلفية موقفها من الصحراء الغربية.
وفي موضوع الأمن فإن موقعها الجغرافي يفرض عليها سياسات والتزامات، أكثر من بقية دول أوروبا، لأنها بوابة الهجرة، سواء من الجنوب أو من الشمال.
وهي تحاول الالتزام بمعايير الاتحاد الأوروبي وعدم التساهل مع أحزاب اليسار التي تؤيد المهاجرين.
وهذه معادلة صعبة جدا في الموازنة بين الطموح الأوروبي والضغوط الداخلية.
المصدر:
القدس