مع الدعوات إلى تغيير العلم السوداني وطرح إحياء علم الاستقلال، لا بدّ أن نتذكر موجة أوسع شهدها العالم العربي خلال العقود الأخيرة.
فقد أعادت دول مثل العراق وليبيا وموريتانيا وسوريا والبحرين وغيرها تعديل أعلامها أو تغييرها بالكامل، سواء بعد سقوط أنظمة أو عقب إصلاحات دستورية أو تحولات سياسية حادة.
فما الذي يدفع دولاً إلى إعادة تعريف راياتها؟ وكيف ينعكس ذلك على صورة الهوية الوطنية اليوم؟
عند استقلال السودان عن بريطانيا عام 1956، اعتمدت البلاد علماً تألف من ثلاثة أشرطة أفقية بألوان الأزرق فالأصفر فالأخضر. رمز اللون الأزرق إلى نهر النيل، والأصفر إلى الصحراء، والأخضر إلى الزراعة وأرض السودان الخصبة.
ظلّ هذا العلم مستخدماً حتى عام 1970 في عهد جعفر النميري بالعلم الحالي، فتغير وجاءت ألوانه كالتالي: الأحمر والأبيض والأسود مع مثلّث أخضر عند السارية، بدلالات ترتبط بالفكر القومي العربي، فالأحمر يرمز للدماء والتضحيات، والأبيض للسلام، والأسود إشارة إلى اسم البلاد وإلى محطات تاريخية صعبة، فيما يشير الأخضر إلى الإسلام والرخاء والزراعة.
في خضم الحرب الأهلية الدائرة منذ عام 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، برز توجه لإعادة الرمزية الوطنية إلى جذورها الأولى.
ومطلع الشهر الحالي، طرح قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان مطلع ديسمبر/كانون الأول 2025 اقتراحاً بإعادة علم الاستقلال القديم، معتبراً أنّه خطوة لإحياء معاني الوحدة الوطنية. وتحدّث البرهان عن ضرورة "تحريك الرموز الوطنية من جديد" والعودة إلى الراية الثلاثية الألوان التي "رفعها أجدادنا وآباؤنا في زمن الاستقلال".
لم يكن العراق بمنأى عن مراجعة رموزه بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003. فمنذ عام 1963 رفع علم بألوان الأحمر والأبيض والأسود تتوسطه ثلاث نجمات خضراء، ارتبطت أولاً بمشاريع الوحدة مع مصر وسوريا، ثم اكتسب لاحقاً دلالة مرتبطة بحزب البعث. وفي يناير/كانون الثاني 1991، خلال حرب الخليج الثانية، أضيفت عبارة "الله أكبر" بخط يدوي منسوب لصدام حسين في سياق تعبوي.
بعد 2003 أصبح العلم محور خلاف، خصوصاً لدى الأكراد الذين ربطوه بسنوات القمع وحملة الأنفال. وفي 2004 طرحت سلطة الحكم الانتقالي تصميماً بديلاً بالكامل، لكنه لم يحظَ بقبول شعبي، فيما استمر الاعتراض الكردي إلى أن توقف إقليم كردستان عن رفع العلم الاتحادي عام 2006.
ومع اقتراب استضافة أربيل لاجتماعات الاتحاد البرلماني العربي عام 2008، برزت الحاجة إلى صيغة توافقية تظهر عراقاً موحداً أمام الوفود العربية. وفي يناير/كانون الثاني من ذلك العام صوت البرلمان العراقي على إزالة النجوم الثلاث نهائياً والإبقاء على عبارة "الله أكبر" بخط كوفي بدلاً من الخط اليدوي السابق. عد التعديل خطوة لطي صفحة البعث واستجابةً لمطلب كردي قديم.
ورغم تقديم تعديل 2008 كحل مؤقت، فإنه بقي العلم الرسمي للعراق حتى اليوم.
شهدت ليبيا تغييراً واضحاً في رمزها الوطني خلال أحداث عام 2011، مع التخلي عن الراية الخضراء التي ارتبطت بحكم معمر القذافي. فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 1977، استخدمت البلاد علماً أخضر بالكامل، في حالة نادرة عالمياً لأنه لا يحمل أي شعار أو رسم. اختير اللون الأخضر انسجاماً مع خطاب القذافي عن "الثورة الخضراء" و"الكتاب الأخضر"، وباعتباره لوناً ذا دلالات دينية وتقليدية في ليبيا. ومع مرور الوقت صار العلم الأخضر مرتبطاً بمرحلة القذافي وسياساته.
عند اندلاع الانتفاضة في فبراير/شباط 2011، رفعت قوى المعارضة علم المملكة الليبية الذي كان معتمداً عند الاستقلال عام 1951: ثلاثة أشرطة أفقية بالأحمر والأسود والأخضر، يتوسط الشريط الأسود هلال ونجمة بيضاء. تحول هذا "علم الاستقلال" سريعاً إلى رمز للثورة وبديل للعلم المرتبط بالنظام القائم. ومع تقدم المعارضة ودخولها طرابلس في أغسطس/آب 2011، اعتمد المجلس الوطني الانتقالي هذا العلم رسمياً، وأقر دولياً بوصفه علم ليبيا الجديد، منهياً استخدام الراية الخضراء بعد أكثر من ثلاثة عقود.
رفع السوريون علم الاستقلال لأول مرة عام 1932، ثم أصبح العلم الرسمي للجمهورية السورية بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946. يتكون هذا العلم من ثلاثة أشرطة أفقية بالأخضر والأبيض والأسود تتوسطها ثلاث نجمات حمراء.
في عام 1963، وبعد وصول حزب البعث إلى الحكم، تغيّر العلم فأصبح بثلاثة أشرطة بالألوان نفسها لكن مع ثلاث نجمات خضراء. وبعد ذلك، وخلال اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا من عام 1972 إلى 1980، رفع علم الاتحاد الذي يتوسطه صقر قريش الذهبي.
وفي عام 1980 اعتمدت الحكومة العلم المؤلف من الأحمر والأبيض والأسود مع نجمتين خضراوين، استعادةً لعلم الوحدة مع مصر عام 1958. وبقي هذا العلم هو الرسمي حتى سقوط نظام بشار الأسد عام 2024.
بعد عام 2011 ظهر انقسام حول الرمز الوطني. المعارضة تبنت علم الاستقلال، بينما احتفظت الحكومة بعلم النجمتين. ومنذ عام 2012 وحتى 2024 استخدمت مناطق مختلفة من البلاد علمين مختلفين تبعاً لخرائط السيطرة.
ومع انهيار النظام عام 2024، عاد علم الاستقلال للظهور في مؤسسات المرحلة الانتقالية، بانتظار حسم دستوري يحدد العلم الوطني المقبل.
على خلاف دول عربية تغيرت أعلامها بعد سقوط أنظمة أو حروب أهلية، جاء تعديل علم موريتانيا عبر مسار سياسي هادئ نسبياً ركز على إبراز بعد تاريخي في رمز الدولة.
فمنذ أواخر الخمسينيات، ومع الاستقلال عن فرنسا عام 1960، استخدمت موريتانيا علماً أخضر يتوسطه هلال ونجمة باللون الذهبي، في دلالة على الإسلام والصحراء وثروات البلاد، وبقي هذا العلم بلا تعديل قرابة سبعة وخمسين عاماً.
في عام 2016 طرحت فكرة إدخال تعديل رمزي على العلم في إطار حوار وطني بمبادرة من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بهدف تكريم تضحيات الموريتانيين في حروب الاستقلال والدفاع عن الوطن. تقرر إضافة شريطين أفقيين باللون الأحمر في أعلى العلم وأسفله، يرمزان إلى الدماء والتضحيات في سبيل حماية البلاد.
أدرج التعديل ضمن حزمة إصلاحات دستورية شملت أيضاً تغيير النشيد الوطني، وعرضت على استفتاء شعبي في 5 أغسطس/آب 2017، وافق فيه نحو 86 بالمئة من المصوتين، مع نسبة إقبال قاربت 54 بالمئة، رغم مقاطعة جزء من المعارضة.
اعتمد البرلمان الصيغة الجديدة لاحقاً، ورفع العلم المعدل رسمياً لأول مرة في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 في ذكرى الاستقلال. حافظت الراية على خلفيتها الخضراء والهلال والنجمة باللون الذهبي، لكنها اكتسبت إطاراً أحمر يخلد في الخطاب الرسمي تضحيات"الشهداء" والمقاومين ضد الاستعمار.
لم يرتبط تعديل علم مملكة البحرين بانقلاب أو حرب أهلية، بل جاء عام 2002 في إطار تعديلات هدفت إلى توحيد شكل العلم ومنح رموزه وضوحاً أكبر. يتكوّن العلم تقليدياً من لونين، الأحمر والأبيض، يفصل بينهما عند السارية حد مسنن. هذا الحد لم يكن ثابتاً سابقاً؛ فقد ظهر أحياناً بخط مستقيم أو بعدد غير موحّد من المثلثات.
في 14 فبراير/شباط 2002، وبعد إقرار ميثاق العمل الوطني الذي حوّل البلاد من "دولة البحرين" إلى "مملكة البحرين"، صدر مرسوم ملكي اعتمد الشكل الحالي للعلم محدداً أن يكون الفاصل مكوّناً من خمسة مثلثات بيضاء واضحة. تُفسَّر هذه الرؤوس الخمسة اليوم كإشارة إلى أركان الإسلام الخمسة، بينما يُنظر إلى الأحمر كتعبير عن تاريخ المعارك والتضحيات، وإلى الأبيض كرمز للسلام.
جاء تثبيت العلم بهذه الصيغة ضمن عملية تحديث رمزية رافقت الانتقال الدستوري في مطلع الألفية، وأسهم أيضاً في تمييز العلم البحريني عن علم قطر القريب في الفكرة، الذي يحمل لوناً أغمق يميل إلى البنفسجي وتسعة رؤوس بيضاء بدلاً من خمسة.
إلى جانب الحالات الأبرز في المنطقة، شهدت دول عربية أخرى تعديلات متفاوتة على أعلامها خلال العقود الأخيرة.
ففي جزر القمر، اعتمد عام 2002 علم جديد يتكون من أربعة أشرطة أفقية تمثل الجزر الأربع، مع مثلث أخضر يضم هلالاً وأربع نجمات بيضاء، في خطوة جاءت ضمن تسوية أنهت اضطرابات انفصالية وأعادت التأكيد على وحدة الدولة وتنوعها.
وفي سلطنة عمان، جرى عام 1995 تعديل تقني على نسب العلم وأبعاده لتوحيد المقاييس وتحسين وضوحه، من دون أي تغيير في الألوان أو في شعار الخنجر والسيفين.
أما اليمن فاعتمد علمه الحالي مع إعلان الوحدة عام 1990، بثلاثة أشرطة أفقية بالأحمر والأبيض والأسود.
ويعود الشكل المتعارف عليه لعلم السعودية إلى عام 1973، حين ثبت تصميم الراية الخضراء التي تحمل الشهادتين فوق سيف أبيض، واستمر هذا الشكل دون تعديل حتى اليوم.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة