في الأيام الأخيرة من عام 2025، أسدل المستثمر الأمريكي الشهير وارن بافيت الستار على مسيرته الممتدة لستة عقود في قيادة “بيركشاير هاثاواي”، إحدى أكثر الشركات إثارة للإعجاب والتأمل في تاريخ الاقتصاد الأميركي.
رجل تجاوز الخامسة والتسعين، ظل حتى لحظاته الأخيرة في قمة هرم شركةٍ تُدير تريليونات الدولارات وتُوظف عشرات الآلاف، محتفظًا بذات البساطة، وذات الفلسفة الاستثمارية التي شق بها طريقه من مكتب متواضع في أوماها إلى صدارة “وول ستريت”.
لم تكن مغادرة بافيت تشبه تقاعد أي رئيس تنفيذي آخر، فهو لم يختفِ فجأة، ولم يُصاحب خروجه ضجيج المؤتمرات الصحافية أو إعلانات استعراضية. بل أعلن، من فوق منصة الاجتماع السنوي للمساهمين في ماي الماضي، أنه سيغادر منصبه مع نهاية العام، مُسلِّمًا القيادة إلى نائبه غريغ آبل، فيما يشبه مراسم هادئة لانتقال السلطة في إمبراطورية مالية ضخمة.
وفي رسالته الأخيرة للمستثمرين، كتب بافيت جملة مقتضبة وبليغة: “سأصمت… نوعًا ما”، مُلمِّحًا إلى أن دوره كمُلهم ومرجع لم ينتهِ تمامًا، وإن كانت سلطته التنفيذية قد سُلِّمت رسميًا.
يأتي ذلك في عامٍ ارتفعت فيه أسهم شركات التكنولوجيا إلى قمم تاريخية، واشتدّت فيه المضاربات على الذكاء الاصطناعي والعملات المشفّرة، بينما ظل بافيت وفيًا لفلسفته القديمة: “لا تشترِ إلا ما تفهمه، ولا تضع شركتك في مهبّ المجازفة”.
وبدلًا من خوض مغامرات مالية، باع بافيت خلال العام أسهمًا أكثر مما اشترى، ورفع السيولة النقدية لدى “بيركشاير” إلى رقم قياسي بلغ 358 مليار دولار. حتى أسهم “آبل”، التي طالما اعتبرها أحد “أعمدة بيركشاير الأربعة”، قام بتقليص حصته منها بهدوء، مستفيدًا من موجة صعودها الأخيرة، بينما جلس يُراقب السوق كما لو أنه صيّاد ماهر بانتظار الطريدة المناسبة.
الصفقة الوحيدة التي أقدم عليها كانت استحواذًا نقديًا بقيمة 10 مليارات دولار على شركة “OxyChem”، الذراع الكيميائي لشركة “أوكسيدنتال بتروليوم”. صفقة تعكس الرؤية الكلاسيكية لوارن بافيت: شركة حقيقية، بأصول ملموسة، وسعر معقول، وسط سوق باتت تسبّح في عوالم الأثير الرقمي.
منذ إعلانه عن التنحي، فقد سهم “بيركشاير” أكثر من 6% من قيمته. لا بسبب نتائج مالية ضعيفة، بل لأن بافيت كان – بالنسبة للكثيرين – أكثر من مجرد رئيس شركة، كان “ثقة تمشي على قدمين”، كما وصفه أحد كبار المستثمرين في المنتدى المالي العالمي.
حتى بعض مساعديه المقربين قرروا المغادرة بدورهم. مدير “جيكو”، وحدة التأمين الأشهر في “بيركشاير”، انضم إلى بنك “جي بي مورغان”، في حين أعلن المدير المالي مارك هامبورغ تقاعده منتصف 2026. وكأن رحيل الحكيم أعاد تدوير الزمن داخل الشركة، وأعادها إلى قوانين الجاذبية البشرية، حيث لكل مسؤول عمر وظيفي محدود.
غريغ آبل، الرئيس الجديد، ليس غريبًا عن دوائر الشركة. أمضى سنوات في قيادة استثمارات الطاقة داخل “بيركشاير”، ويُعرف بعقلية عملية وأداء إداري حازم. لكنه لا يملك كاريزما بافيت، ولا حضوره الآسر في الاجتماعات السنوية التي كانت تتحول إلى حج استثماري يؤمه الآلاف من شتى أنحاء العالم.
وقد بدأ آبل، بالفعل، بإعادة تشكيل فريقه، ما أثار بعض القلق بين المراقبين من أن فلسفة بافيت في “اللامركزية القائمة على الثقة” قد تتعرض للاهتزاز.
منذ إعلان تقاعده، انطلقت سلسلة من النقاشات العامة، نظمتها “وول ستريت جورنال” الأمريكية ووسائل إعلام أخرى، لمحاولة استشراف مستقبل “بيركشاير” والإجابة عن سؤال بالغ الأهمية: هل سينجو النموذج بعد رحيل مؤسِّسه؟
بافيت بنى نموذجًا فريدًا لم تجمعه السوق إلا في حالات نادرة: مجموعة استثمارية تحتفظ بالسيولة، تشتري شركات حقيقية، وتُراهن على الوقت لا على الضجيج. وبعكس نماذج الشركات القابضة التي تفكّكت – من جنرال إلكتريك إلى تكتلات اليابان – ظلت “بيركشاير” صلبة، لأن فلسفتها لم تكن قائمة على التوسع، بل على التماسك.
اليوم، يظل هذا الإرث معرّضًا للاختبار. ويدرك آبل، كما يُدرك المستثمرون، أن نجاح بافيت لم يكن مجرد قرارات استثمارية صائبة، بل ثقافة مؤسسية قائمة على الصدق، والصبر، واحترام ذكاء المساهمين.
وصفه أحد المحللين ذات مرة بأنه “آخر السحرة الحقيقيين في وول ستريت”، لكنه لم يكن ساحرًا. كان مُحاسبًا دقيقًا، قارئًا نهمًا للتقارير المالية، وشخصًا يعتقد أن الأخلاق جزء من القيمة السوقية لأي شركة.
حين سُئل عن سرّ نجاحه، أجاب: “سرّي أنني لا أُجاري القطيع. أنظر، أفكر، وأنتظر”. وقد انتظر طويلًا، ولم يتسرّع يومًا في ركوب أي موجة.
بهذا الخروج المتأني، يطوي العالم فصلاً استثنائيًا في تاريخ الرأسمالية الحديثة. فبعد ستين عامًا من بناء إمبراطورية على أسس الحكمة والبساطة والانضباط، يُغادر وارن بافيت المسرح دون أن يُسدل الستار على الأسئلة:
هل تنتهي عبقرية المؤسسة برحيل العبقري؟ أم أن النظام الذي بناه بحذر سينجو، ويُثبت أن الحكمة لا تموت، بل تتجدد؟
السنوات المقبلة وحدها ستُجيب.
المصدر:
هسبريس