كشفت دراسة أكاديمية حديثة عن استمرار ظاهرة هيمنة الحكومة على البرلمان في المجال التشريعي بالمغرب بالرغم من التنصيص الدستوري والقانوني على آلية الالتزام الحكومي بتخصيص اجتماع شهري لدراسة مقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء البرلمان.
وأوضحت الدراسة التي جاءت تحت عنوان الالتزام الحكومي بالدراسة الشهرية لمقترحات القوانين وأثره على المبادرة التشريعية البرلمانية أن التطبيق العملي لهذه الآلية عبر ثلاث حكومات متعاقبة بعد دستور 2011 أظهر محدودية تأثيرها على تعزيز المبادرة التشريعية البرلمانية التي ظلت ضعيفة مقارنة بالمبادرة الحكومية.
استعرض الدكتور أمين السعيد أستاذ القانون الدستوري بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس والدكتورة أسماء أبحكان أستاذة القانون الدستوري بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان في مستهل دراستهما السياق الدستوري الذي ولدت فيه هذه الجزئية المتعلقة بالالتزام الحكومي المنصوص عليه في الفصل 82 من الدستور والمادة 23 من القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها حيث أكد المشرع الدستوري على ضرورة تخصيص يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة وهو المقتضى الذي جاء في سياق فلسفة المشرع الرامية إلى تدعيم البرلمان والتخفيف من مظاهر العقلنة البرلمانية القوية التي كانت سائدة في الدساتير السابقة وتقوية مكانة البرلمان والحكومة من خلال التوسيع النسبي لمجال القانون في الفصل 71 من الدستور وربط تفعيل العديد من الحقوق بمجال القانون.
أبرزت الدراسة في تتبعها للمسار التاريخي لتفعيل هذا المقتضى أن حكومة عبد الإله بنكيران التي وصفتها الدراسة بالحكومة التأسيسية للمرحلة ما بعد دستور 2011 عملت على إصدار القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة وقررت إحداث خلية لتتبع المبادرة التشريعية البرلمانية تتألف من كافة القطاعات الوزارية انبثقت منها لجنة تقنية مصغرة عقدت 18 اجتماعا وقررت موقفها الإيجابي من 18 مقترح قانون فقط إلا أن هذا الموقف التقني لم يترجم كليا إلى موافقة حكومية حيث سجل الباحثان أن الممارسة الحكومية بدت هشة في هذا المضمار وكشفت بشكل جلي محدودية الصيغة الحكومية المتجسدة في الخلية التقنية ذلك أن الحكومة عقدت ما بين تاريخ نشر القانون التنظيمي في أبريل 2015 ونهاية الولاية التشريعية اجتماعين فقط الأول في يوليوز 2015 والثاني في فبراير 2016.
سجلت الدراسة بالاعتماد على المعطيات الإحصائية أنه بالرغم من التقدم المعياري الرامي لتقوية السلطة التشريعية فإن التطبيق العملي في ضوء الممارسة السياسية خلال الولاية التشريعية التاسعة 2012-2016 برهن على استمرار هيمنة الحكومة على البرلمان حيث تمخض عن هذه الولاية المصادقة على 340 قانونا بمبادرة حكومية مقابل 21 قانونا بمبادرة برلمانية وهو رقم يؤكد فكرة البرلمان المشرع على سبيل الاستثناء لينحصر دور هذا الأخير غالبا في التعديل والتصويت على مشاريع القوانين التي توضع رهن تداوله من قبل الحكومة.
توقفت ورقة الباحثين السعيد وأبحكان عند حصيلة حكومة سعد الدين العثماني حيث أشارت إلى أن هذه الحكومة عملت على مأسسة الآلية عبر إصدار منشور لرئيس الحكومة رقم 04/2017 بتاريخ 28 يونيو 2017 المتعلق بإحداث اللجنة التقنية الدائمة لتتبع المبادرات التشريعية والتي عهد إليها بمهام دراسة مقترحات القوانين المحالة من البرلمان وإعداد مذكرات ملاحظات وتنسيق مواقف القطاعات الوزارية وحثها على التفاعل الإيجابي واقتراح التدابير لتعزيز التزام الحكومة بالتفاعل مع المبادرات التشريعية حيث نص المنشور على أن تنعقد اللجنة كل شهر وتتألف من ممثل رئيس الحكومة وممثلي الأمانة العامة للحكومة والوزارة المنتدبة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان وممثلي الوزارات المعنية.
بينت المعطيات الواردة في الدراسة أنه خلال الولاية التشريعية العاشرة 2016-2021 عقدت اللجنة التقنية الدائمة لتتبع المبادرات التشريعية البرلمانية 26 اجتماعا بينما عقدت الحكومة 16 اجتماعا حكوميا لدراسة مقترحات القوانين التي تتقدم بها فرق المعارضة والأغلبية وبالرغم من ارتفاع منسوب الاجتماعات مقارنة بسابقتها إلا أن فعالية هذا الخيار تظل جد محدودة حيث عقدت الحكومة 16 اجتماعا فقط والحال أنها ملزمة دستوريا خلال المرحلة الزمنية الفاصلة بين يونيو 2017 وشتمبر 2021 بعقد قرابة 52 اجتماعا حكوميا لتدارس مقترحات القوانين المقدمة من قبل البرلمان كما أظهر الجدول الإحصائي الخاص بالولاية التشريعية العاشرة الذي أوردته الدراسة استمرار ظاهرة هيمنة الحكومة في المجال التشريعي حيث بلغت القوانين المصادق عليها بمبادرة حكومية 315 قانونا بينما لم تتجاوز القوانين المصادق عليها بمبادرة برلمانية 19 قانونا.
لاحظت الدراسة في محورها الثالث المتعلق بتجربة حكومة عزيز أخنوش وجود تدرج في الالتزام الدستوري الشهري والأثر المعقد على المبادرة التشريعية حيث تمكنت هذه الحكومة في سنة 2023 من تطوير الإطار القانوني المنظم للجنة التقنية الدائمة ومأسستها بشكل دقيق استنادا على مرسوم تنظيمي عوض منشور حكومي وهو المرسوم رقم 2.23.965 الصادر في 17 ربيع الآخر 1445 لتطبيق أحكام المادة 23 من القانون التنظيمي رقم 065.13 حيث نص المرسوم على أن يقوم الأمين العام للحكومة بتوزيع مقترحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء البرلمان من الأغلبية والمعارضة على أعضاء الحكومة من أجل إبداء الرأي بشأنها ويتعين على أعضاء الحكومة موافاة الأمين العام للحكومة كتابة بملاحظاتهم مدعمة بمبررات قبولها أو رفضها كليا أو جزئيا.
رصد الباحثان تطورا نسبيا من حيث الالتزام الشهري بالاجتماع الحكومي المخصص لدراسة مقترحات القوانين في عهد حكومة أخنوش حيث عقدت 23 اجتماعا إلى حدود شهر أبريل من سنة 2024 مقارنة مع حكومة سعد الدين العثماني التي عقدت 16 اجتماعا وحكومة عبد الإله بنكيران التي اكتفت بعقد اجتماعين اثنين فقط وتشير البيانات التي قدمتها الدراسة إلى أن الحكومة تدارست في هذه الاجتماعات أزيد من 272 مقترح قانون وقررت قبول 25 مقترح قانون من حيث المبدأ ومع ذلك لاحظت الدراسة أنه يفترض على حكومة عزيز أخنوش من الناحية الدستورية خلال الفترة المتراوحة بين شهر أبريل 2021 وشهر أبريل 2024 أن تعقد قرابة 30 اجتماعا لدراسة مقترحات القوانين والحال أنها عقدت 23 اجتماعا مما يعني استمرار تكريس ظاهرة التفوق الحكومي على البرلمان في المجال التشريعي حيث كشفت الحصيلة الأولية للولاية الحادية عشرة عن استمرار ضعف القوانين المصادق عليها بمبادرة برلمانية والتي بلغت 6 قوانين فقط مقابل 99 قانونا بمبادرة حكومية.
خلصت الدراسة المهداة إلى الأستاذة أمينة المسعودي إلى أن الحكومات الثلاث المتعاقبة تتفاوت فيما بينها وتجمعها روابط وقواسم مشتركة رغم اختلافها حزبيا حيث تفاعلت هذه الحكومات بشكل مختلف مع الالتزام الدستوري القاضي بأن تخصص الحكومة كل شهر على الأقل اجتماعا لدراسة مقترحات القوانين وإذا كانت تطبيقات الحكومات لهذا المقتضى الدستوري متباينة من حيث الاجتماعات فإنها جد متقاربة في الحصيلة النهائية لمقترحات القوانين بمبادرة برلمانية حيث تتجلى المفارقة القوية في أن الولاية التشريعية التاسعة المتزامنة لحكومة عبد الإله بنكيران شهدت المعدل الأكبر من حيث عدد القوانين المصادق عليها بمبادرة برلمانية البالغ عددها 21 قانونا بالرغم من أن هذه الأخيرة عقدت اجتماعين اثنين فقط لدراسة المقترحات وعزت الدراسة ذلك إلى خصوصية المرحلة التأسيسية المتميزة بالحماس الحالم بشعارات الربيع العربي وكذا نوعية البروفايلات التي ولجت المؤسسة البرلمانية مما يعني أنه لا يوجد ترادف بين اجتماعات الحكومة المخصصة لدراسة مقترحات القوانين وتأثيرها الإيجابي على ارتفاع منسوب المبادرات التشريعية البرلمانية.
انتهت الدراسة بالتأكيد على أن الالتزام الحكومي الشهري المخصص لدراسة مقترحات القوانين يقدم صورة وفية لأزمة الممارسة وأن هذا الالتزام ليس له تأثير مباشر على نمط العلاقة بين الحكومة والبرلمان في المجال التشريعي ولا يعكس ملامح التجديد الدستوري الهادف إلى التخفيف من العقلنة البرلمانية ولا يعني بالضرورة التطابق الكلي لهذا الالتزام بالمبادرة التشريعية وهو ما يعكس أن الفصول الدستورية ذات النزوع البرلماني تكسرت أمام واقع الممارسة السياسية مشيرة إلى أن العوامل المتعددة الأخرى التي تفرغ العمل البرلماني من مضمونه سواء المرتبطة بالحدود الدستورية أو المتعلقة بطبيعة النخب البرلمانية أو المرتبطة بالمؤسسات الحزبية تساهم في إضعاف المنجز التشريعي للبرلمان المغربي.
المصدر:
العمق