يقول تعبير لغوي ألماني: “الحب يمر عبر المعدة”، فهل يمكن للسلام أن يمر عبر المائدة؟ وهل يمكن لأكلة عادية متداولة أن تصبح سفيرة ثقافة تعبر محطات متعددة من العالم؟ هذا ما يجيب عنه المهاجر المغربي بن عيسى اليحيوي، ابن مدينة زرهون، والذي تعلم اللغة الألمانية في المدرسة الفندقية في سالزبورغ في بداية الثمانينيات، ثم انتقل إلى زوريخ السويسرية مع شركة الخطوط الملكية المغربية. وذلك من خلال ابتكاره “اليوم العالمي للكسكس من أجل الصداقة والسلام.”
فقد أثّر مسار حياته بمفهوم التفاهم بين الثقافات المختلفة، مما جعله يعمل على “بناء جسور لغوية” من خلال نشاطه كمترجم ومحاضر في مجال التبادل الثقافي، ومؤسس لجمعية للتبادل الثقافي (النجمة الخضراء – Green Star Society)، ومشرف على ندوات تهييئ موظفي الشركات الذين سيعملون في الدول الإسلامية. وحيث إنه أصبح يتحدث لهجة زيورخ بطلاقة، فقد أضيفت إلى مهامه تدريس اللغة الألمانية السويسرية للمغتربين. كما أنه يعمل حتى اليوم مترجماً للسلطات السويسرية، كما كتبت جريدة المعلومات السويسرية في مارس 2022.
لقد بدأ اليحيوي مشروع اليوم العالمي للكسكس منذ عشرين سنة كتقليد سنوي، مستمراً بعناد متحدياً الصعوبات والإكراهات، خصوصاً شحّ الدعم المادي والمعنوي. ناضل من أجل فكرته التي آمن بها، وعمل على إبرازها مجنداً كل إمكانياته المادية الشخصية، وبدعم من أسرته برمتها وثلة قليلة من الأصدقاء، وذلك من خلال إقامة حفل سنوي يشارك فيه فنانون من الدول المجاورة مثل ألمانيا وفرنسا، وشخصيات سويسرية ثقافية وسياسية، وممثلون لمختلف الديانات.
قال اليحيوي في حوار مع الصحفية السويسرية كرنيلا كراوزي:
“انطلقتُ حينها من فكرة أن لكل شيء يوماً خاصاً: عيد الأم، عيد الأب، عيد الطفل، عيد الشجرة… فقلت: لما لا أقوم بإعداد يوم للكسكس. فقط.”
اختار اليحيوي طبق الكسكس لما يمثله هذا الطعام من حضور ملازم لحياة المغاربة، سواء في “الفرح أو القرح”. إنه أكثر من مجرد أكلة عادية أو يومية في بعض مناطق جنوب المغرب؛ لقد أصبح رمزاً للترابط الاجتماعي وشعاراً للضيافة والتشبث بالتقاليد. فهو أكلة العيد الأسبوعي يوم الجمعة، وبتعبير العامة: “الكسكس كيحب الجمعية.” يُقدَّم في الأعراس والمآتم، وفي الاحتفالات الدينية، وفي الصدقات، وفي الشكر لله على الشفاء، وفي طلب البركة. فلا غنى عن الكسكس في كل المناسبات.
لقد تحوّل الكسكس مع مرور الزمن ووفقاً لما يجود به المحيط النباتي من خضروات إلى أكلة تفننت فيها الوصفات الإقليمية بأنواع شتى: بين سبعة أنواع من الخضر، أو أنواع اللحوم الحمراء والبيضاء، أو هما معاً، أو المالح والحلو، أو بالسمك.
تعددت التخمينات حول اشتقاق اسم الكسكس. فيُعتقد أن كلمة “كوسكوس” مشتقة من الكلمة الأمازيغية “سكسو” أو “كسكسو” التي تعني “مُلفوفة جيداً” أو “مشكّلة جيداً”، إشارة إلى طريقة صنع حبيبات الدقيق الصغيرة. وهناك من يقول إن الاسم مشتق من الكلمة العربية “كُسْكُس”، والتي تشير أيضاً إلى الشكل النموذجي للطبق وطريقة تحضيره. ونظراً لأن الكلمة العربية نفسها تعود إلى اللغة الأمازيغية، فقد انتقل هذا الطبق محتفظاً باسمه الأصلي ومع كل تنوعات إعداده إلى مختلف اللغات. فأصبح اسم “Couscous” هو المهيمن في الفرنسية والإنجليزية والألمانية.
لم يُحسم بعد في أصول طبق الكسكس، لكن الاكتشافات الأثرية في شمال إفريقيا تشير إلى أن الأمازيغ عرفوا هذه الأكلة منذ آلاف السنين. وحتى وإن كان الكسكس قد انتشر استهلاكه في غرب إفريقيا وعدد من دول البحر الأبيض المتوسط، بل وصل إلى أمريكا الجنوبية، فما لا يقبل الشك هو أن موطنه الأصلي هو شمال إفريقيا.
نظراً لقيمة أكلة الكسكس وحضورها القوي في يوميات الإنسان الإفريقي الشمالي، حيكت حوله العديد من الأساطير، أغلبها مرتبط بالوجود الفرنسي في المنطقة. من بينها أن قوات نابليون بونابرت واجهت أثناء غزوها لمصر (1798-1801) مشاكل كبيرة في التكيف مع الظروف المناخية والغذاء في أرض النيل. فبينما كان الجنود الفرنسيون يفضلون حصصهم المعتادة من الخبز واللحوم، لاحظوا أن المحاربين العرب والأمازيغ كانوا يتناولون الكسكس كغذاء أساسي، مما جعلهم يبدون أكثر قوة وتحملاً.
وقد قال أحد الضباط الفرنسيين لاحقاً:
“إن الأعداء كانوا يتناولون طعاماً سرياً سحرياً يمنحهم طاقة لا تنضب.”
وفي الحقيقة، لم يكن هذا الطعام إلا الكسكس، الذي منح المقاتلين الشماليين ميزة بفضل سهولة هضمه وغناه بالمغذيات.
وتروي قصة قديمة من الأندلس عن خليفة كان يتجادل مع علمائه حول الطبق المثالي. وبينما فضّل بعضهم لحم الضأن مع التمر والعسل، وفضّل آخرون السمك مع الزيتون، أحضر طباخ بسيط من المغرب طبقاً من الكسكس بالخضار واللحم الطري. تذوق الخليفة الطبق وأعلن:
“هذا هو الطعام المبارك الحقيقي، لأنه يجمع كل ما تخرجه الأرض.”
لقد كان اختيار بنعيسى اليحيوي، المدرب في الثقافة وإدارة الجودة، إقامة “اليوم العالمي من أجل الصداقة والسلام” عن وعي تام وقصد مسبق، وقد سبق الحدثُ الاحتفاءَ بالكسكس حتى قبل إدراجه ضمن قائمة التراث غير المادي الإنساني لليونسكو سنة 2020، ضمن ملف مشترك بين تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
أراد اليحيوي جعل الكسكس جسراً للتعريف بجوانب هامة من الثقافة المغربية، وبأعراف الضيافة، وبناء جسور التواصل بين المجتمعين السويسري والمغربي. فالكسكس عنصر هام من عناصر المطبخ المغربي وتقاليده وطقوسه.
وقد لقيت مجهوداته الاعتراف الذي استحقّه، إذ توج هذا العام بجائزة التقدير عن مجهوداته المتواصلة على مدى 20 سنة لدعم الحوار بين الثقافات، وخاصة السويسرية ـ المغربية، وهي “جائزة الاستدامة الذهبية 2025” التي تمنحها مؤسسة IDEE-SUISSE في زوريخ.
وقال رئيس المؤسسة الدكتور أولاف ج. بوهم أثناء الحفل:
“لقد استطاع السيد بن عيسى اليحيوي أن يجعل الكسكس وسيلة للسلام والصداقة والاستدامة… ومدّ جسوراً تجعل الثقافة أداة عالمية للتفاهم المتبادل.”
حضر الاحتفاء جمع من أصدقائه الداعمين من مغاربة وسويسريين، إضافة إلى ممثلين عن السفارة المغربية في سويسرا، وجمهور من الحاضرين الذين جاؤوا من مدن سويسرية بعيدة.
لقد حوّلت مبادرة اليحيوي كسفير للحوار بين الثقافات أكلة الكسكس من مجالها الإقليمي إلى فضاء عالمي. فقد وصل عدد المشاركين في اليوم العالمي للكسكس سنة 2024 إلى 1500 شخص، يقدمون الكسكس في احتفال جماعي في اليوم نفسه وفي عدة دول، وكلهم يعملون على تعزيز التراث الغذائي المغربي وبناء جسور ثقافية بين الشعوب.
ومن بين الذين أثنوا عليه، قال عمر لاهياني، صديقه الحميم، في كلمة خلال تسليم الجائزة:
“اليحيوي رجل ذو رؤية ثاقبة وروح مرحة، وقلب قادر على كسر الحواجز الثقافية بصحن من الكسكس وقليل من الذكاء.”
كما أشادت أستاذة في المعهد العالي للتربية بمدينة كورال السويسرية بالأهمية الرمزية للحفل، معتبرة أن “هذا الحدث يظهر بشكل رائع أنه من الممكن إقامة روابط بين الشعوب وتقريبها من بعضها البعض”.
ووصف المحامي الزوريخي رينهارد أورتلي السيد اليحيوي بأنه “شخصية أساسية في التقارب بين الثقافات، كرس حياته لتوحيد التقاليد دون احتواء أحدها الآخر، في إطار إثراء متبادل.”
لم تتوقف مجهودات اليحيوي عند تنظيم اليوم العالمي للكسكس، بل إنه يقتنص كل فرصة لتنظيم لقاءات تجمع المغاربة المقيمين في زوريخ وخارجها، وحتى من دول مجاورة، بالمواطنين السويسريين، من خلال تنظيم إفطار جماعي في رمضان، أو الاحتفال بالمناسبات الدينية والوطنية. كما وسّع مجال التعريف بثقافة المائدة المغربية من خلال الإقدام على نشر كتاب حول تاريخ الكسكس وتقاليده وعاداته ووصفاته، جمعها من مناطق مختلفة من المغرب. وسيصدر الكتاب قريباً بثلاث لغات: الألمانية والإنجليزية والفرنسية.
المصدر:
هسبريس