رصدت دراسة بحثية، أنجزها أستاذان باحثان في علوم الاقتصاد والمالية بجامعة ابن طفيل-القنيطرة، “ضُعف انتقال أثر تخفيض سعر الفائدة الرئيسي نحو الاقتصاد الحقيقي في المغرب”، عادِّين ذلك “ليس خللا بسيطا في آلية التدخل، بل نتيجةَ تراكمات هيكلية تشمل طبيعة النظام البنكي، وتكوين الاقتصاد والمحيط الاجتماعي والثقافي”.
وأكدت الدراسة في خلاصاتها وتوصياتها، استقرأتها هسبريس ضمن تقرير حديث أصدره “المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات”، أن هذه المسألة باتت “تتطلب رؤية شمولية ومندمجة للإصلاح: وحدَه التعاون الوثيق بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين والمؤسسات العمومية، تحت مظلة رؤية وطنية واضحة، يمكن أن يُعطي للسياسة النقدية فعاليتها المرجوة، ويجعل منها أداة حقيقية للنمو والاستقرار”.
في ضوء “تحليل مفصل” للأستاذين الجامعيين يونس آيت احمادوش وعزيز بنصباحو، اختارَا له عنوان “محدودية السياسة النقدية لبنك المغرب على الاقتصاد الحقيقي: حالة تخفيض سعر الفائدة الرئيسي”، وتحديدًا لضعف انتقال أثر سعر الفائدة الرئيسي إلى المتغيرات الاقتصادية الحقيقية مثل الاستثمار والاستهلاك وخلق فرص الشغل وتمويل المقاولات، استخلص الباحثان مجموعة من الخلاصات الجوهرية، التي تبرز-بحسبهما-“حدود فعالية السياسة النقدية في السياق المغربي الحالي”، قبل “اقتراح مجموعة من التوصيات الهادفة لمعالجة هذا الاختلال البنيوي”.
يرى الأستاذان الباحثان أن “من الواضح أن المنظومة البنكية المغربية، رغم الإصلاحات التي عرفتها، لا تزال تشتغل في إطار سوق يُهيمن عليه طابع أوليغوبولي، مما يمنح للبنوك قوة تفاوضية عالية وقدرة على التحكم في شروط الاقتراض بغض النظر عن توجهات السياسة النقدية”، مردفين بالشرح: “البنوك لا تتفاعل مع انخفاض سعر الفائدة الرئيسي بنفس الحدة التي تتفاعل بها مع ارتفاعه، وذلك بسبب سعيها إلى الحفاظ على هامش ربح مرتفع بل واستغلال الفرص لزيادته. وهذا السلوك الربحي المفرط والفاحش يقوض وظيفة السياسة النقدية كمحفز للنمو الاقتصادي، ويجعل تأثيرها ضعيفا على المدى القصير والمتوسط”.
وشددت الورقة البحثية على أنه “لا يمكن للسياسة النقدية، مهما كانت فعّالة من الناحية التقنية، أن تُحدث تحولا في الاقتصاد الحقيقي إذا لم تتوفر بيئة شاملة تمكنها من الوصول إلى جميع الفاعلين الاقتصاديين. وهنا يبرز الدور المحوري لسياسات أخرى مرافقة: مثل السياسات الاجتماعية، وسياسات الإدماج المالي والإصلاحات القانونية والضريبية وتبسيطِ مساطر التمويل التي تُمكّن من رفع حجم الاقتصاد المهيكل، وتوسيع القاعدة الاجتماعية المستفيدة من التمويل البنكي، سواء الأفراد أو المقاولات الصغيرة”.
عدّ الخبيران “تحسين الثقافة المالية والوعي البنكي عنصرا حاسما لتعزيز الاستجابة لتغيرات سعر الفائدة. فالفئات غير المتعودة على استعمال الخدمات البنكية، أو التي لا تثق بها، لا يمكن أن تتجاوب مع انخفاض أسعار الفائدة إذا لم تكن لديها معرفة كافية بحقوقها وواجباتها، وآليات التمويل المتاحة، وكيفية تدبير المخاطر. ومن هنا، فإن الاستثمار في التربية المالية، بدءًا من المدرسة وصولا إلى المجتمع المدني، يُعد من الأولويات الكبرى”.
كما أوصيَا بـ”تطوير بدائل التمويل، مثل التمويل التشاركي، والتمويل الأخضر، وقنوات التمويل الرقمي، بما يمكن أن يُقلل من تركيز السياسة النقدية على القناة البنكية الكلاسيكية، ويفتح المجال أمام أدوات أكثر مرونة وتأثيرًا في الاستثمار، خاصة في صفوف الشباب وحاملي المشاريع المبتكرة. هذا التنويع من شأنه أن يُحسن الانتقال من السياسة النقدية إلى الاقتصاد الحقيقي، عبر قنوات تمويل أكثر انفتاحا وتخصصًا”.
وفي معطى دال، قال آيت احمادوش وبنصباحو إنّ “على بنك المغرب أن يواصل جهوده في تحسين الشفافية والتواصل، سواء مع القطاع البنكي أو مع الفاعلين الاقتصاديين والمجتمع المدني؛ فكلما كانت أهداف السياسة النقدية واضحة، ومعلنة بشكل دوري ومنهجي، ارتفعت درجة التفاعل معها وارتفعت قدرة الأسواق والفاعلين فيها على التكيف مع تغيرات الفائدة وتوقعاتها المستقبلية. فالسياسة النقدية اليوم لم تعد مجرد إدارة تقنية للسيولة، بل أصبحت في جوهرها سياسة قائمة على التوقعات والإشارات الموجهة للفاعلين الاقتصاديين”.
“يجب أن تُرافِق السياسة النقدية سياسة مالية نشطة ومنسقة، تمكن من خلق الطلب الفعال، ودعم القطاعات المنتجة، وتحسين مناخ الاستثمار. فغياب التنسيق بين السياستين النقدية والمالية والميزانيتية قد يؤدي إلى نتائج متضاربة، حيث تحاول الأولى تخفيض الفائدة لتحفيز النمو، بينما تعتمد الثانية إجراءات تقشفية تحد من الإنفاق العمومي. لا يمكن أن تحقق السياسة النقدية أهدافها في غياب إنفاق عمومي محفز، أو نظام ضريبي عادل، أو رؤية تنموية متكاملة”.
حسب المصدر ذاته، “يُفترض أن تتم إعادة النظر في بعض مكونات الإطار القانوني المنظم لعمل البنوك من أجل تعزيز المنافسة والحد من الاحتكار ومنعه، وضمان انتقال فعلي لتغيرات سعر الفائدة نحو أسعار الإقراض، خاصة في فترات الانكماش أو الأزمات”.
كما يمكن، بتعبير توصياتهما، “التفكيرُ في وضع آلية لقياس سرعة ودرجة انتقال السياسة النقدية إلى السوق، ونشر نتائجها بشكل دوري، من أجل رفع مستوى المحاسبة والشفافية”.
وختم الباحثان بأنه “في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، ينبغي التفكير في تحديث أدوات السياسة النقدية نفسها، والانتقال التدريجي نحو نموذج ‘استهداف التضخم المرن’، الذي يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط الأسعار، ولكن أيضًا النمو والتشغيل والاستقرار المالي”.
وأجملا بالقول إن “الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والعملات الرقمية تفرض على البنك المركزي اليوم إعادة التفكير في نموذج اشتغاله وتطوير أدوات جديدة للرقابة والتمويل تستجيب لخصوصيات العصر الرقمي”.
المصدر:
هسبريس