آخر الأخبار

محاكمات في الظلام .. كيف تصنع قرارات لجان التحكيم في المهرجانات؟

شارك

بينما يجري القطار بسرعة 320 كيلومترا في الساعة بين كازابلانكا وطنجة، كنتُ أسجّل نُقَطاً عن عملي كعضو لجنة تحكيم في مسابقة الأفلام التخييلية الطويلة والقصيرة في الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم المنعقدة بين 17 و25 أكتوبر 2025.

إن لجنة التحكيم هيئة مؤقتة يُعهد إليها بالفصل بين الأفلام المتسابقة على الجوائز بشكل عادل وباعتماد معايير فنية صرفة. تتشكل اللجنة من صناع الأفلام ونقادها. تكون اللجنة محلية أو دولية أو مختلطة. ما هي معايير انتقاء أعضاء لجنة التحكيم؟ ما الذي سيخلق مصداقية القرار؟

نادراً ما يُنشر جواب عن أسئلة كهذه. يمكن التحكم في النتائج بتشكيل اللجنة. قد يكون من يختار أعضاء اللجنة أكثر سلطة من اللجنة نفسها. لم تكن “لجنة” الروائي صنع الله إبراهيم بريئة.

عادةً يكون الممثلون أكثر عدداً من النقاد في لجان التحكيم. يمكن لممثلة ظهرت مرة واحدة في فيلم أن تصير عضوة في لجنة تحكيم أكثر من ناقد نشر مائة مقال عن مائة فيلم. يتفوق التصوير على الكتابة.

يفترض أن تتشكل اللجان من أشخاص لديهم منجز فني وإشعاع سينمائي. لا بد من معيار يمنح مصداقية للحكم والاختيار. دقة الحكم وعدله دليل على ثقافة أصحابه. تعزز جودة قرارات لجان التحكيم من مصداقية المهرجانات.

في الاتجاه المعاكس، ماذا يترتب عن تكليف أشخاص لديهم ضعف في الإشعاع – إبداعاً أو كتابة – برئاسة أو عضوية لجان ثقافية وفنية؟ يترتب عن ذلك شعور المشاركين في المسابقة أن المحكمين لا يملكون الثقافة والمعرفة الفنية اللازمة لإصدار حكم، فيشتد الجدل.

سأكون عضو لجنة تحكيم متشكلة من نقاد ممارسين يمثلون الجمعية المغربية لنقاد السينما. هذه لجنة تحكيم ذات تشكيلة متجانسة، يتقارب أعضاءها في السن والمهنة وغالباً في التصورات.

بدأ عرض أفلام المهرجان، وجاءت فرصة مشاهدة منتوج الذوق الوطني. خمسة عشر فيلماً قصيراً وخمسة عشر فيلماً طويلاً. أسجل ملاحظات أكثر عن السيناريو وأداء الممثل وموقع الكاميرا في التصوير الداخلي. ضبطت نفسي متلبساً أشاهد الفيلم المغربي بتوتر، عادةً أشاهد الفيلم الأجنبي باسترخاء. يسهل التحكيم حين تكون الأفلام أجنبية ومبدعوها غرباء، لكن حين تكون الأفلام محلية ومبدعوها أبناء المدينة، فالأمر صعب والقرارات لها ما بعدها في العلاقات العامة.

مع بداية المشاهدة، طُرح سؤال عن منهجية عمل اللجنة:

متى يتداول الأعضاء؟ هل قبل بدء المشاهدة أم بعد كل فيلم أم بعد كل ثلاثة أفلام أم بعد مشاهدة كل الأفلام؟ هل سيكون النقاش هادئاً تُراعى فيه الأمزجة أم سيتم التصويت في صمت؟ ما هي معايير انتقاء الأفلام التي ستُتَوَّج؟ يفترض أن تنعقد جلسة لتحديد معايير التقييم قبل بدء المشاهدة.

للنقاش الفني شروط. لا بد من مرافعة داخلية لترجيح الكفة لصالح الفيلم المختار. نقاش سيغرق في التفاصيل الفنية التي هي لب السينما. الكادر السينمائي تخصيص لا تعميم.

تلعب المفاهيم الموحدة دوراً كبيراً في تسهيل المناقشة. الفن عمره طويل وقديم، وقد أسس تقاليد أفرزت مفاهيم، دونها يبقى ما يقال دردشة. السينما فن سابع، والفنون الستة جزء منها، ولا ينتصب السابع دون توسد الأول والثاني والثالث…

هذا توجيه دبلوماسي من السيد خليل الدامون، رئيس الجمعية المغربية لنقاد السينما، قال:

“جرى العرف ألا يُعلِّق أو يكتب عضو لجنة التحكيم عن الأفلام المشاركة في مسابقة المهرجان”.

يناقش الناقد السينما طيلة الوقت، لكنه حين يكون عضواً في لجنة تحكيم فهو يُمْنَع من الكتابة والتعليق على الأفلام المعروضة. النقد السينمائي تحكيم فردي، بينما عضوية اللجنة تحكيم جماعي يستند إلى معايير متفق عليها في حدود معينة.

حين يصمت النقاد، يواجه الصحافيون ندرة في من هم مؤهلون أو مستعدون للتعليق العلني على فيلم. كل واحد يشاهد ويردد: “لن أعلق على الفيلم”. يُدَمِّر التعليق على الأفلام العلاقات العامة.

معايير المداولات

هل ستكون النتائج بنت النقاش أم التصويت؟ لا توجد غرفة فراغ في لجان التحكيم الفنية. ما معايير التقييم التي ستوجه النتائج؟ هل هي آنية الموضوع وسخونته أم قدمه؟ كيف تضيء حكاية الفيلم حكايات الآخرين؟ كيف يستخدم المخرج أدواته الفنية؟ كيف يبني مشاهد فيها حمولة سينمائية؟

لمن الأولوية؟ هل للحكي أم للتقطيع والكادراج؟ هل للمعالجة الفنية أم للتصوير واللغة السينمائية؟ كيف ترفع مصداقية أداء الممثلين من احتمالية التصديق لدى المشاهدين؟

بحثاً عن جواب، هذه دراسة سينمائية ميدانية، في زمن ومكان وحدث محدد، أثناء انعقاد المهرجان.

المنهج: تقصٍّ واتصال وأسئلة وإصغاء وتسجيل فوري للنقط؛ لأن الشفوي يتبدد والمكتوب يصمد ويتوهج. يتم تدوين المعلومة ثم الاستبيان لفرز المعلومة من الرأي والهوى، بغرض تكوين حكم.

هذا النص خلاصة مكثفة لتفريغ أجوبة عن عشرات الأسئلة التي تناسلت في أروقة المهرجان.

هذا النص المنقول من كراستي مكوّن من أسئلة طويلة تطرح خيارات أجوبة دون تبني جواب محدد، لكن لا بد لك عضو لجنة من بوصلة فنية تقوده. شخصياً، أبحث عن فيلم تم تصويره بعين مغربية. فيه سرد متماسك كثيف ومقتضب. فيه ممثل تغلغل في الدور، وفيه كاميرا تتحرك في ديكور حقيقي.

على صعيد السرد: أفهم أن يحكي فيلم قصير مدته 15 دقيقة عن وقائع 15 شهراً، لكن أن يحاول مخرج تصوير قصة عمرها 30 سنة في ربع ساعة، فهذا ترهل الزمن بدلاً من نحته. الفيلم القصير لحظة كثيفة، وليس فيلماً طويلاً مضغوطاً في علبة.

على صعيد اللغة السينمائية: إذا كانت لقطات الفيلم متشابهة مأخوذة بكاميرا ثابتة – على عُلُو متر – والممثل جامد يحدق فيها من على مسافة متر، فأين الإخراج؟ لا أتحمل كادرات تشبه الصور الفوتوغرافية الثابتة. لقد حركت السينما الصور منذ قرن. الأسلبة الزائدة حذلقة.

بينما يركز أعضاء لجنة التحكيم على المعايير الفنية، كانت أروقة المهرجان تفرز أسئلة أخرى من قبيل:

لماذا تخلط لجنة التحكيم بين فيلم مغربي صِرف وفيلم مغربي دخل فيه إنتاج أجنبي؟

كيف تفصل لجنة التحكيم بين فيلم كلف 300 ألف دولار وفيلم كلف 3 ملايين دولار؟

هل فعلاً تساهم الميزانية في صناعة الجمال؟ إذا كان المال قوة، فما جدوى البحث والاجتهاد والإبداع مع الفقر؟

كيف تنحاز اللجنة لعين أجنبية برانية ضد التصوير بعين مغربية؟

هل سينتصر عضو لجنة التحكيم للمخرج القريب أم للبعيد القادم من المهجر؟

هل تنحاز اللجنة لمخرج مكرس أم تتضامن مع مخرج شاب؟

هل ينتصر المُحَكِّم للفيلم الذي يُعرض أول مرة أم للفيلم الذي طاف المهرجانات وتقادم؟

هل كل لجنة تحكيم مستقلة، وهل هي سيدة قرارها؟

هل تغض كاميرا المخرج البصر أم تحدق بوقاحة في جراح المجتمع؟

في حالة الخلاف بين أعضاء اللجنة، هل يتم نقل قانون حكم الأغلبية من الديمقراطية إلى الفن بالتصويت لاختيار الأجمل؟

كانت الاعتبارات العشرة التي تسري في أروقة المهرجان حاضرة في المناقشة. لكن السؤال المركزي لدى أعضاء اللجنة كان هو:

ماذا رأينا في القاعة خلال أيام المهرجان، وليس ماذا جرى قبل بدء انتقاء أفلام المسابقة. يحكم الناقد على الفيلم الذي يُعرض عليه، ولا يعيد اختيار الأفلام المشاركة في المسابقة.

يقارن الناقد الأفلام على مستوى تسلسل الأحداث والتشخيص ورصد الفضاءات وأثرها على الشخصيات ومنظور الإخراج، يعرف أن السينما سرد بالصور. يدرك أن الحدث يحدد طبع الشخصية ومصيرها، دون حدث لا توجد شخصية بل جثة. سيتم اتخاذ القرار بناء على اختيارات جمالية وفنية لمجموعة من الأعضاء.

صباح السبت، أعلنت لجنة جمعية النقاد نتائجها، فبدأ الجدل والاتهامات… لكن الهدوء ضروري. إن مهمة اللجنة هي اعتماد معايير الفن السينمائي وليس إرضاء كل الناس. تحكم اللجنة على ما هو فني في الكادر المعروض على الشاشة، أما معايير:
محلي / أجنبي؟ ضعف الميزانية / توفر المال؟ محتشم / شاذ؟ فهي اعتبارات خارج الكادر.

مساء السبت، وخلال حفل الاختتام، كرست نتائج لجنة التحكيم الرسمية التي عينها المركز السينمائي نتائج لجنة التحكيم الموازية التي شكلتها الجمعية المغربية لنقاد السينما.

كان هناك تطابق في النتائج. هل هذا صدفة أم بفضل ذوق فني؟

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا