أكد عبد الجليل الحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، أن التداول في قضية الأخلاقيات في المجال الصحي يمثّل مسألة جوهرية “تؤسّس لحركية جديدة تستعيد فيها العلوم وعيها الأخلاقي، وتحوّل ضمنها الصحة إلى خير مشترك يحمل قيمه الكونية”، موردا أن هذا الترابط “يحرّك الأسئلة” ويلزم باتخاذ موقف؛ لأن “السؤال هو: كيف نوفّق بين قوة التقدّم العلمي وهشاشة الشرط الإنساني؟”.
وأضاف الحجمري، خلال انطلاق الملتقى المغربي-الفرنسي للصحة حول “أخلاقيات الطب وعلم الأحياء في الصميم الإنساني.. بين العلم والضمير”، صباح الثلاثاء، أن “الصحة لم تعد شأنا يخص الأعضاء والتقنيات وحدها؛ بل باتت تقيس مدى قدرة المجتمع على التعاطي مع المعاناة، وصون الكرامة، وإفساح المجال للهشاشة الإنسانية”، موردا أن استحضار البعد الأخلاقي لا يشكل “نقيضا للعلم، بل هي ضميره اليقظ. فهي لا تُبطئ وتيرة الابتكار، بل تُنير معناه، وتُوجّه مساره، وتُعلّمه وتُحدّد له حدوده العادلة”.
وشدد المسؤول الأكاديمي، خلال الملتقى المنظم من لدن أكاديمية المملكة المغربية بتعاون مع أكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات والأكاديمية الوطنية للطب بفرنسا ومؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة، على أن العالم يعيش “تسارعا غير مسبوق في مجرى التاريخ”.
وتابع: “في بضعة عقود، غيّرت الوراثة والذكاء الاصطناعي والتقنيات العصبية وزراعة الأعضاء وبيولوجيا الكائن الحي الحدود التقليدية للطب”.
وأكد أمين السر الدائم لأعلى هيئة فكرية مغربية أن “الإنسان اليوم بات يتدخل لا في جسده فحسب، بل في مصيره البيولوجي أيضا”، مشيرا أنه “كلما ازداد هذا الأمر في التزايد، وجب أن يزداد معه واجب التبصّر والتقدير السليم”.
من جانبه، قال عمر الفاسي الفهري، أمين السر الدائم لأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات، إن مسألة أخلاقيات علم الأحياء وما تنطوي عليه من تحديات ورهانات في مختلف التخصصات العلمية، خصوصا في ميدان الصحة، أصبحت تحظى بأهمية بالغة، مؤكدا أن نطاق الأسئلة الأخلاقية والاجتماعية والقانونية التي أثارتها التقدّمات العلمية والتكنولوجية، خاصة في مجالي الحياة والصحة، اتّسع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
وأشار الفاسي الفهري، خلال مداخلته على هامش الجلسة الافتتاحية للملتقى، إلى أن العديد من الدول عملت على إنشاء هيئات استشارية وتوجيهية متخصصة في معالجة هذه القضايا”. كما لاحظ أن “مثل هذه الأسئلة بدأت تُطرح بإلحاح في المغرب منذ أواخر التسعينيات”، مؤكدا على “الاهتمام الكبير الذي يوليه المغرب لمسألة أخلاقيات علم الأحياء”.
وأوضح أمين السر الدائم لأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات أن “العالم يشهد، اليوم، تطوّرا مستمرا وسريعا في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والروبوتات…”، لافتا إلى أن “هذه التقدّمات العلمية والتكنولوجية تُحدث تحوّلات عميقة في الممارسة الطبية وأنماط الحياة”، مسجلا أنه “في هذا السياق، تُطرح مسألة الأخلاقيات في الصحة والأخلاقيات الحيوية بحساسية بالغة، بين قوّة العلم وهشاشة الشرط الإنساني”.
وأكد المتحدث عينه، خلال اللقاء الرفيع الذي ينظم يومي الثلاثاء والأربعاء، أن “الأخلاق تدعونا إلى إعادة التفكير في المسؤولية والكرامة والتضامن التي تربط بين الباحثين والمقدّمين للرعاية الصحية والمرضى والمواطنين”.
وشدد عمر الفاسي الفهري على أنه “من خلال التبادلات التي ستُجرى خلال الملتقى، يسعى المشاركون إلى بلورة رؤية إنسانية للصحة، رؤية مستنيرة بالعلم وملهمة بالضمير”.
أما كريستيان بواتار، الأمين الدائم لأكاديمية الطب الفرنسية، فقد أبرز أن “الأخلاق تتجاوز جميع ممارساتنا، بما في ذلك الممارسات الطبية”، مسجلا أنه “يُقال غالبا إن الطب علم، إلا أنه ليس علما بالمعنى الدقيق؛ بل هو ممارسة فعلية ترتكز على علوم متعددة، كان أهمها لفترة طويلة علم الأحياء.. لكننا، اليوم، نشهد الدور المتنامي للفيزياء، لا سيما من خلال علم الأشعة الذي أحدث ثورة في مجال التصوير الطبي”.
وأضاف بواتار: “خلال دراستي للطب، كان الحديث عن الموجات فوق الصوتية محدودا، ومقتصرا على استخدامات محددة”، موضحا أن “التطور التقني الهائل في الطب اليوم يجعل ممارسة المهنة تتغير بالضرورة؛ بل تصبح أكثر تحديا. ومن ثمّ، فاستيعاب هذا الانفجار في التقدم التكنولوجي ليس أمرا بسيطا، وهو بلا شك يجب أن يُضبط ويُرشد بالأخلاق”.
وأكد الأكاديمي الفرنسي أن “الإطار الأخلاقي يبرر التداول في الموضوع، خصوصا ونحن نعي التأكيد أهمية الشق التضامني في هذا النقاش”، مشيرا إلى أن “التعلم للفهم قبل وصف الدواء يمثل أساسا جوهريا في الممارسة الطبية”، خالصا إلى أن “مهنة الطبيب ستشهد المزيد من التحولات الواضحة نتيجة لهذه التطورات”.
من جهة أخرى، قال جان نوييل فيسينجر، رئيس أكاديمية الطب الفرنسية، إن استحضار البعد الأخلاقي في السياسات الصحية أمر أساسي، لكونه يسهم في تحقيق نهاية حياة كريمة، ويستجيب للمعاناة التي يصادفها الكثير من الناس، كما يحمي الأشخاص الأكثر ضعفا.
وأبرز فيسينجر، في مداخلة قدمها خلال الموعد العلمي عينه، أن هذا الموضوع سوف يضبط جوهر النقاشات ويجعل من الأخلاقيات محور كل التفكير في ممارسات الصحة والرعاية الطبية.
تجدر الإشارة إلى أن الملتقى المغربي-الفرنسي يهدف إلى “اقتراح تأمل نظري حول الجوانب الراهنة لأخلاقيات علم الأحياء وتحدياتها المعاصرة”، بالإضافة إلى “دعم هذا التأمل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، خصوصا ضمن مسار تكوين المتخصصين في الرعاية الصحية”.
المصدر:
هسبريس