أثار القرار الأخير لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية القاضي بتعميم نظام معلوماتي استشفائي موحد على جميع المستشفيات العمومية بالمملكة موجة من الجدل داخل القطاع الصحي، وسط مخاوف من احتكار تكنولوجي وهدر محتمل لاستثمارات عمومية ضخمة أنفقت خلال السنوات الماضية لتطوير أنظمة رقمية متعددة.
ففي الوقت الذي تشير فيه معطيات ميدانية حصلت عليها جريدة “العمق” إلى وجود نواقص واختلالات تقنية في النظام الذي وقع عليه الاختيار، تؤكد الوزارة من جانبها أن مشروع التوحيد يندرج ضمن رؤية استراتيجية مرحلية تستهدف تحقيق التحول الرقمي الكامل للمنظومة الصحية بحلول سنة 2026.
ووفق مصادر الجريدة، فإن القرار الجديد يعني عمليا استبعاد ثلاث شركات أجنبية (فرنسية، تركية، إسبانية) تشغل عشرات الكفاءات المغربية في المجال، كانت قد نشرت “حلولا رقمية ناجحة” في عدد من المستشفيات العمومية، بموجب صفقات قانونية وتحت إشراف الوزارة نفسها.
وتشير هذه المصادر إلى أن الأنظمة التي كانت تعمل في الميدان، ومنها BILMED وHOSIX وDEDALUS، ساهمت في تحسين تدبير الملفات الطبية والفوترة والمراقبة الداخلية، لكن الوزارة منحت الأفضلية لشركة واحدة هي المطورة لنظام ENOVA لتتولى تعميم نظامها على المستوى الوطني.
أكدت مصادر “العمق”، أن هذا القرار قد يؤدي إلى إقصاء غير مبرر لمقاولات وطنية أثبتت كفاءتها، ويخلق نوعا من الاحتكار الرقمي الذي يمس مبدأ المنافسة الشريفة، مشيرة إلى أن الاستثمارات السابقة التي تقدر بعشرات الملايين من الدراهم مهددة بالضياع دون تقييم موضوعي أو تعويض مؤسسي عادل.
كما حصلت جريدة “العمق” على تقرير المراجعة الداخلية بجهة طنجة–تطوان–الحسيمة، والذي كشف أن نظام ENOVA يعاني من نواقص تقنية ووظيفية وتنظيمية رغم اعتماده تجريبيا منذ أكثر من سنة، مشيرا إلى أن النشر لا يزال محدودا وغير متجانس بين مستشفيات الجهة، وأن بعض المؤسسات غير مجهزة بالنظام أصلا، كما أن الوظائف الطبية الأساسية غير مكتملة، من بينها وحدة الفوترة والملف الطبي المرجعي.
وسجلت الوثيقة ذاتها، ضعف الصيانة التقنية وتأخر تدخلات الدعم، إضافة إلى غياب التوافقية بين المستشفيات، مما يمنع من تبادل البيانات الطبية بشكل آمن ومنظم، ويجعل النظام بعيدا عن النضج المطلوب لتعميمه على الصعيد الوطني.
ويرى خبراء في المجال أن تعميم نظام واحد على المستوى الوطني في هذه المرحلة قد يحمل مخاطر متعددة، أولها احتمال هدر المال العام نتيجة إلغاء الأنظمة القائمة دون تقييم مستقل، ثم اضطراب العمل اليومي في المستشفيات بسبب تغيير بيئة العمل الرقمية، فضلا عن مخاطر فقدان أو تسريب البيانات الطبية أثناء عمليات التحويل، إلى جانب الارتهان لمزود وحيد وهو ما قد يضعف السيادة الرقمية للدولة في مجال حساس كالصحة.
في سياق متصل، كشف وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، خلال مناقشة الميزانية الفرعية لوزارة الصحة بمجلس النواب، بحر الأسبوع، أن صفقة رقمية كانت مبرمجة بقيمة 180 مليون درهم كادت أن تتسبب في “مشكل كبير” داخل المنظومة المعلوماتية للوزارة، لولا التدخل لتصحيح مسارها.
وأوضح الوزير أن الصفقة كانت موجهة لشركتين إسبانية وأمريكية، وكان الهدف منها إحداث عملية ربط بين أربعة أنظمة معلوماتية، غير أن النظامين الثالث والرابع لم يكونا يعملان فعليا، مما يجعل المشروع “غير منطقي ومكلفا دون جدوى”.
وانتقد التهراوي التصور القائم على توزيع المنظومة الرقمية إلى أربعة أنظمة مستقلة بدعوى ضمان الاستمرارية، قائلا إن هذا النهج “لا يعتمد في أي مؤسسة حديثة، لأنه لا معنى لوجود أربعة أنظمة متوازية، في الوقت الذي يمكن بناء نظام واحد متكامل وفعال”. كما شدد على أن أغلب الأنظمة المعلوماتية السابقة كانت من تطوير شركات أجنبية، وهو ما يطرح مخاطر مرتبطة بالاستقلالية التقنية واستمرارية الخدمة، مؤكدا أن الوزارة اليوم وجدت نظاما معلوماتيا وطنيا تطوره وتشرف عليه شركة مغربية تتوفر على الكفاءات اللازمة.
وأكد على أن التعاون مع الكفاءات المغربية في مجال الرقمنة مكن من تقليص الكلفة بشكل ملحوظ، مضيفا أن الوزارة تؤدي حاليا فقط تكلفة الرخص (Licences)، بينما كانت الكلفة الكبرى في السابق تصرف على مراحل التجهيز والاطلاق التي تتحملها الشركات الأجنبية.
في ردها على هذه الانتقادات، أكدت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية في توضيحات حصلت عليها جريدة “العمق” أنها لم تتراجع عن مبدأ التنوع والأمن الرقمي، موضحة أنها تعتمد حاليا مقاربة مرحلية تقوم على تشغيل نظامين فعالين، هما ENOVA (مغربي) وHOSIX (إسباني)، لضمان استمرارية الخدمات ومعالجة النقائص، على أن يتم الانتقال إلى نظام موحد في أفق سنة 2026، موضحة أن هذا التوجه يستند إلى تقييم موضوعي لمدى الجاهزية التقنية واحترام دفاتر التحملات، مع ربط التوسع بقدرات التشغيل البيني بين المنصات الجهوية.
وشددت على أنها واعية تماما بأهمية السيادة الرقمية وحماية المعطيات الصحية، مشيرة إلى أنها اعتمدت حكامة صارمة للبيانات ترتكز على احترام مقتضيات القانون المتعلق بالأمن السيبراني، والتنسيق مع اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية. كما أوضحت أن ملكية الشيفرات المصدرية وجميع البيانات الرقمية تبقى حصريا للدولة المغربية، في تكريس لمبدأ السيادة التقنية والمؤسساتية على المعلومة الصحية، مؤكدة أن الوزارة وقعت اتفاقيات تعاون مع مؤسسات وطنية مختصة من بينها المديرية العامة لأمن نظم المعلومات.
وبخصوص تقرير المراجعة الداخلية بجهة طنجة–تطوان–الحسيمة، أكدت الوزارة أن الملاحظات التقنية التي سجلت خلال المراحل الأولى من النشر تم إدراجها ضمن خطة تحسين مستمرة، وأن النظام في صيغته الحالية مستقر ويستعمل بنجاح. ونفت الوزارة أن يكون القرار يشكل إقصاء لأي شركة أو هدرا للمال العام، موضحة أن عملية التوحيد لم تبدأ فعليا بعد، وأن نظامي BILMED وDEDALUS لم يستكملا المتطلبات المنصوص عليها في دفاتر التحملات، مشيرة إلى أن اعتماد التوحيد الوطني سيكون على أساس تقييم تقني ومالي نهائي قبل سنة 2026.
أما بخصوص المنصة الوطنية GISRE التي تم تصميمها لتأمين التشغيل البيني بين الأنظمة، فقد أوضحت الوزارة أنها تؤدي حاليا دورها في الربط مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في ما يخص نظام التأمين الاجباري عن المرض، إلا أن الأنظمة الأربعة المعتمدة حاليا لا تتوفر على المتطلبات التقنية الكاملة للربط، مما يجعل من المنطقي التوجه نحو نظام موحد ومستقر يضمن انسجام البيانات وتوافقها على المستوى الوطني.
وأكدت الوزارة أنها واعية بأن الانتقال الرقمي يتطلب مواكبة بشرية وتنظيمية قوية، ولهذا تم وضع خطة وطنية للتكوين تشمل تدريب الأطر الطبية والإدارية على استعمال النظام الجديد، وتعيين فرق دعم ميدانية في الجهات، وضمان فترة انتقالية تدريجية بدون تعطيل للخدمات. كما تم إحداث المديرية العامة للانظمة المعلوماتية ضمن مشروع إعادة هيكلة الوزارة، بهدف توحيد الرؤية الرقمية وتعزيز التنسيق بين مختلف مكونات المنظومة الصحية الوطنية.ل؟
المصدر:
العمق