تزامناً مع حلول الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء يبرز التوثيق السمعي‑البصري كأداة تربوية وثقافية متجددة، تتيح إعادة بناء الوعي التاريخي لدى الناشئة والأجيال الصاعدة؛ فإلى جانب قيمته التوثيقية يُمكّن هذا النمط من الوسائط من ترسيخ الذاكرة الوطنية في المنظومة التربوية، بدءاً من استعماله داخل الفصول الدراسية كمادة داعمة في تدريس التاريخ، ومروراً بتوظيفه في البرامج التكوينية، وانتهاءً باعتباره مرجعاً بحثياً في الدراسات الأكاديمية المتخصصة. ومن هنا تتجدد الحاجة إلى بلورة رؤية وطنية حول آليات استثمار الأرشيف السمعي‑البصري، ليس فقط كأداة للحفظ، بل كمصدر حيّ للتربية والتأطير والبحث.
ويرى باحثون وإعلاميون ممن تحدثوا لهسبريس أن موضوع التوثيق السمعي‑البصري للأحداث التاريخية مازال يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى جاهزية المؤسسات المعنية لتوفير أرشيف بصري قادر على دعم المجهود التربوي والأكاديمي، وأكد عدد منهم أن الحاجة أصبحت ملحّة إلى اعتماد مقاربات جديدة تجمع بين التوثيق وإعادة المحاكاة، بشكل يضمن نقل الذاكرة الوطنية للأجيال الصاعدة، ويعيد الاعتبار لمحطات مفصلية في التاريخ المغربي المعاصر.
أكد الكاتب والصحافي المغربي محمد صديق معنينو أن إدماج التوثيق السمعي‑البصري في النسيج الأكاديمي المغربي يظل رهيناً بتوفر أرشيف وطني قوي ومتكامل، يُمكّن الأجيال القادمة من التعرّف على محطات بارزة من تاريخ بلادهم من خلال الصورة والصوت، لا عبر السرد النظري وحده، وأوضح أن التجربة المغربية في هذا الباب مازالت متواضعة، إذ لا تتوفر مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، على أرشيف سمعي‑بصري متكامل يمكن استثماره في المناهج التربوية، مشيراً إلى أن الرصيد الذي يُعتمد عليه حالياً في هذا المجال لا يتجاوز أحياناً سبع دقائق من الصور المتفرقة حول أحداث بحجم المسيرة الخضراء.
وأضاف معنينو، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن معظم الوثائق المتوفرة حول الأحداث التاريخية الكبرى لا توجد في حوزة المؤسسات الوطنية، بل لدى جهات أجنبية، على رأسها الدولة الفرنسية التي مازالت تحتفظ بجزء كبير من الذاكرة البصرية المغربية، مبرزاً أن من بين الأمثلة على ذلك الشريط الوثائقي الذي أنجزه بنفسه عن المسيرة الخضراء خلال فترة عمله، الذي لم يعد اليوم متاحاً للعرض أو للاستفادة منه؛ واستحضر، في السياق ذاته، واقعة نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، معتبراً أن بإمكان وزارة التربية الوطنية، مثلاً، إنجاز فيلم وثائقي أكاديمي من ساعة واحدة حول الحدث، اعتماداً على ما هو موجود من صور ووثائق، مع إدماج عنصر المحاكاة وإعادة التمثيل لتعزيز وقع المادة البصرية في وجدان المتعلمين.
وختم المتحدث ذاته بقوله: “نفتقر اليوم إلى بنية مؤسساتية تُقدّر أهمية التوثيق السمعي‑البصري، وتُدرجه ضمن مقاربة شمولية للتربية على التاريخ والانتماء. بينما دول أخرى تُراكم وثائقها وتُعمّمها نحن مازلنا نضيّع ما بين أيدينا”.
ترى الباحثة ناجية لبريني، المتخصصة في التوثيق والأرشفة التاريخية وعضو المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أن التوثيق السمعي البصري ينبغي أن يُدرج ضمن المشاريع الوطنية ذات الأولوية، باعتباره رافعة لبناء الذاكرة الجماعية وتعزيز الوعي بالتاريخ الوطني داخل الوسط المدرسي والجامعي، ولفتت إلى أن أحد النماذج الواعدة في هذا المجال يتمثل في المشروع الذي أطلقته أكاديمية المملكة المغربية خلال السنوات الأخيرة، والرامي إلى حفظ التراث السمعي البصري وتصنيفه رقمياً وفق معايير علمية دقيقة، معتبرة أن مثل هذه المبادرات تُشكّل نواة أساسية لأي سياسة عمومية تروم إعادة الاعتبار للوثيقة المصورة كمصدر تاريخي يُدمج في العملية التعليمية.
وأضافت الباحثة ناجية لبريني، في تصريحها لهسبريس الإلكترونية، أن توظيف التوثيق السمعي البصري في المجال الأكاديمي لا يتوقف فقط عند حفظ المادة التاريخية، بل يتجاوزه إلى إعادة إنتاجها بوسائط تربوية حديثة تُحفّز المتعلمين على التفاعل النقدي مع التاريخ الوطني، وأشارت إلى أن غياب مقررات تعليمية تُدمج الأرشيف السمعي البصري كأداة بيداغوجية يُعتبر من بين الإشكالات التي تحول دون تعميم هذا التوجّه، مشددة على ضرورة تطوير شراكات مؤسساتية بين وزارتي التربية والثقافة ومراكز الأرشيف، بهدف وضع بنيات قانونية وتنظيمية تُيسّر تداول الوثائق المصورة وتُؤطّر استعمالها في المؤسسات التعليمية والجامعية.
وتابعت الباحثة في الأرشفة التاريخية بأن عدداً من النماذج الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تُوظّف التوثيق السمعي البصري ضمن إستراتيجيات تعليم التاريخ منذ المراحل الابتدائية، عبر إنتاج أفلام وثائقية مبسطة، وتوزيعها داخل المدارس بوسائط متعددة، مع ربطها بمنصات رقمية تتيح التفاعل وإغناء المعارف، وأبرزت أن المغرب يمكن أن يستفيد من هذا التوجّه عبر إحداث وحدة مركزية مشتركة بين وزارة التربية الوطنية ووزارة الشباب والثقافة والتواصل، تُعنى بإعداد مضامين أرشيفية مؤطّرة تربوياً، على أن تكون موجّهة للفئات العمرية المختلفة، وتخضع لرقابة أكاديمية تضمن مصداقية المعلومة التاريخية وحسن توظيفها في البناء المعرفي للمتعلمين.
المصدر:
هسبريس