هكذا تمتلك الممثلة والمخرجة الأمريكية عين النسر حينما تنظر للسينما بهذا المنظار الدقيق قائلة: “أرى الكثير من الممثلين الشباب، وأنا هنا لا أشعر بالغيرة، لكن لا أفهم كيف أن كل ما يهمهم هو التمثيل فقط. ولا يهمهم إن كان الفيلمُ سيئًا، أو إن كان الحوار ضعيفًا، أو حتى إن كانوا مجرد حبة عنب في إعلان لمُنْتَج. وإذا كنتُ لن أمثل مرة أخرى، لن يزعجني ذلك كثيرًا. وما يهمني حقًا هو أن أكون وسيلة مؤثرة لسرد قصة جيدة أو لخدمة فن السينما”.
وفي دورته الثانية والعشرين، (دجنبر 2025) يواصل المهرجان الدولي للفيلم بمراكش ترسيخ مكانته كأحد أبرز الملتقيات السينمائية العالمية، حيث يجتمع فيه الإبداع من مختلف أنحاء العالم لتُحْتَفَى السينما في أبهى تجلياتها. ويخصّص المهرجان هذه السنة أربع شخصيات فنية بارزة بتكريم خاص، تقديرًا لمساراتهم الغنية التي تعكس تنوّع الفن السابع وثراءه، من بينهم الممثلة والمخرجة الأمريكية جودي فوستر.. طفلة السينما التي كبرت على وهج السينما وقصصها وحكاياتها في رحلة طويلة ومحطات متنوعة ومختلفة بالانتقال من التمثيل نحو الإخراج. فكيف كانت هذه الرحلة الطويلة؟
حين قرأت جودي فوستر رواية توماس هاريس “صمت الحملان”، شعرت على الفور أن شخصية العميلة الفيدرالية كلاريس ستارلينغ كُتبت من أجلها. فقد كانت حاسمة وواثقة من رغبتها في أداء الدور، لكن المخرج جوناثان ديمي لم يكن يشاركها الرأي في البداية. وتخيّل ديمي أن ميشيل فايفر ستكون الأنسب، فهي قادرة على الموازنة بين الضعف والقوة، غير أن فايفر رفضت المشاركة بسبب طبيعة الفيلم المظلمة. وعندها اغتنمت فوستر الفرصة، مستخدمة زخم فوزها بجائزة الأوسكار عن فيلم The Accused عام 1988 لإقناع المخرج. ومع توالي تجارب الأداء، أدرك المخرج ديمي أن لا ممثلة تجسد التصميم الهادئ والذكاء العاطفي لستارلينغ مثل جودي فوستر، فأسند إليها الدور الذي غيّر مسار مسيرتها إلى الأبد.
وبدأ البحث عمن يجسد هانيبال ليكتر بمسار أكثر غموضاً. وكانت الخطة الأولى أن يلعب جين هاكمان الدور ويخرجه في الوقت نفسه، لكنه انسحب بعد قراءة السيناريو. ثم طُرح اسم الممثل براين كوكس، الذي جسد ليكتر سابقاً في فيلم Manhunter عام 1986، لكن الاختيار لم يستقر عليه. وحين وصل النص إلى أنطوني هوبكنز، ظنّ في البداية أنه قصة أطفال بسبب العنوان، لكن بعد قراءة الصفحات الأولى أدرك أنه أمام عمل مرعب وغير اعتيادي. وعندما بلغ المشهد الشهير الذي يتحدث فيه ليكتر عن كبدٍ وفولٍ ونبيذ كيانتي، علم أن هذا الحوار سيصبح علامة فارقة في تاريخ السينما. وقرر هوبكنز أن يقدم ليكتر ليس كمجنون هائج، بل كعبقري بارد التفكير، يختبئ خلف تهذيب راقٍ وسلوك شبه ميكانيكي. واستلهم نبرة صوته وحركاته من الكمبيوتر “هال 9000” في 2001: أوديسة الفضاء، ليخلق أداءً يثير القلق بمجرد نظرة أو كلمة.
وخلقت المواجهات بين فوستر وهوبكنز توتراً نفسياً عميقاً امتد من الشاشة إلى كواليس التصوير. ولم يتبادلا أحاديث ودّية خارج الكاميرا، إذ اعترفت فوستر لاحقاً بأنها كانت تشعر بالخوف منه طوال فترة التصوير. وانعكس هذا التباعد إيجاباً على أدائهما، فالمشاهد التي جمعت بين ستارلينغ وليكتر كانت تنبض بواقعية مذهلة. وفي أول لقاء بينهما داخل السجن، فاجأ هوبكنز الجميع عندما أطلق الصفير المرعب بعد جملته الشهيرة عن الكبد والفول، ما جعل ردّ فعل فوستر حقيقياً تماماً.
وقد اختار فريق العمل أن تكون زنزانة ليكتر من الزجاج بدلاً من القضبان، لتبقى ملامحه ظاهرة في اللقطات القريبة، ما منح وجهه حضوراً مرعباً لا يمكن الهروب منه. وحافظ المخرج على جو خانق من الصمت والإضاءة الخافتة والجدران البيضاء المعقمة، بينما بقي هوبكنز في الشخصية بين المشاهد، مما زاد توتر الممثلة الشابة وكل أفراد الطاقم.
وفي المقابل، جسد الممثل تيد ليفين شخصية القاتل بوفالو بيل في أداء أثار الصدمة. ودرس ليفين سلوك القتلة المتسلسلين ليفهم دوافعهم النفسية، لا لتقليدهم. وابتكر مشهد المرآة الشهير الذي يهمس فيه بجملة فاحشة لم تكن مكتوبة في النص، مستلهماً مشاعر الاغتراب والرغبة في التحول التي رآها في مقابلات حقيقية مع مجرمين. وأثار المشهد رعب فريق التصوير، لكن ديمي أدرك أن هذه الجرأة ضرورية لتجسيد جوهر الشخصية المهووسة بالهوية.
ورافق الفيلم إشراف حقيقي من مكتب التحقيقات الفيدرالي. فقد استعان ديمي بالعميل السابق جون دوغلاس كمستشار تقني لضمان دقة تصوير أساليب التدريب والتحقيق. وأمضت فوستر وقتاً في أكاديمية كوانتيكو، تراقب المتدربين وتحاكي سلوكهم وانضباطهم. وظهرت ثمار هذا التحضير في حركاتها الدقيقة أثناء التحقيقات وطريقتها في استخدام السلاح، ما أضفى واقعية مدهشة على أدائها.
وخضع مشهد المواجهة الختامية بين كلاريس وبوفالو بيل لتعديل مهم في المونتاج. وفضّل المونتير كريغ ماكاي تقليص الحوار والفوضى لصالح الصمت والتوتر البصري. فجاءت اللقطة التي يرى فيها المشاهد كلاريس عبر نظارات الرؤية الليلية واحدة من أكثر لحظات الرعب تأثيراً في تاريخ السينما، حيث يتنفس الخطر من الظلام قبل أن تدرك البطلة موقعها.
وصدر فيلم “صمت الحملان” يوم عيد الحب عام 1991 في مفارقة لاذعة، إذ قدّم للجمهور قصة عن العزلة والشر بدلاً من الرومانسية. وخطف الفيلم الأنفاس منذ عروضه الأولى، واستحوذ على إعجاب النقاد والجماهير. واستطاع هوبكنز، رغم ظهوره القصير الذي لم يتجاوز 17 دقيقة، أن يزرع الرعب في ذاكرة الملايين بأداء محسوب بدقة. ومع كل مشهد، أثبت أن الرعب الحقيقي لا يكمن في الدماء، وإنما في الصمت، والنظرة، والكلمة التي تُقال بهدوء قاتل.
واحتفظ أنطوني هوبكنز بقناع ليكتر بعد انتهاء التصوير، مؤكداً أن هذا الدور وحده جعل الناس يخشون الحديث معه في الحياة الواقعية، كما جعل السينما تخاف الصمت كما لم تفعل من قبل.
كم يكلف المرء ليتعلم من دروس الحياة؟ وكم أستغرق من الزمن لتتعلم جودي فوستر من تجاربها قيمة الكرامة والنضج العاطفي، تقول: “كنت من أولئك الذين يقطعون المحيطات من أجل أشخاص لا يكلفون أنفسهم عبور الشارع من أجلي. فقد اعتدتُ الاعتذار حتى عندما لا أكون مخطئة، فقط لأحافظ على وجود من لا يبذل جهدًا للبقاء. ولم أدرك حينها أن الخذلان لم يكن في أفعال الآخرين بقدر ما كان في تصوّري عنهم… وفي ذلك الوهم النبيل بأن كل القلوب تشبه قلبي. وكنت أظن أن الحب وحده يكفي، وأن النية الصافية قادرة على إصلاح كل شيء، لكن الحقيقة كانت أن البعض لا يحبك، ببساطة. ومن بينهم، كنتَ أنت، لكنني نجوت، نجوت بنفسي، واكتسبت ما هو أثمن: الكرامة والقوة والشجاعة. وتعلمت أن الحب لا يعني التضحية المستمرة، ولا الإنهاك من أجل من لا يرى قيمتك. وتعلمت، أخيرًا، ألا أحد يستحق أن أفقد نفسي من أجله”.
جودي فوستر، المولودة في 19 نوفمبر 1962، تمثل نموذجًا متفردًا في عالم السينما الأمريكية، حيث توازن بين التمثيل الراقي والإخراج المتمكن، متمسكة بصوتها الفني الخاص الذي يتسم بالعمق النفسي والحساسية الإنسانية. فقد بدأت مسيرتها الفنية منذ الطفولة، وأظهرت منذ بداياتها قدرة نادرة على التعبير عن التعقيد النفسي للشخصيات، سواء في الأفلام التي تحمل طابعًا اجتماعيًا أو نفسيًا، مثل Taxi Driver (1976) إخراج مارتن سكورسيزي، أو في أعمالها اللاحقة التي توسعت لتشمل الدراما النفسية والسينما الاجتماعية.
تجسد فوستر فيلم “سائق التاكسي”، شخصية إيزي، فتاة مراهقة تواجه وحشية المدينة وخطر الانزلاق نحو العنف، ويبرز الحوار بين إيزي وترافيس بيكل (روبرت دي نيرو): “أنت الوحيد الذي يراه الناس”، ليعكس صراع البراءة مقابل الفساد، كما يظهر المكان في الفيلم كمرايا لصراع الشخصيات، وتعكس شوارع نيويورك المظلمة العزلة والاضطراب النفسي للمدينة والإنسان على حد سواء. وتبرز فوستر هنا ليس فقط كممثلة، وإنما كمحفز لوعي المشاهد تجاه العنف الاجتماعي والنفسي، حيث يتجلى التوتر النفسي والرمزية البصرية في كل لقطة، من الإضاءة الخافتة إلى الزوايا المقربة للكاميرا التي تجعل المشاهد يعيش الصراع الداخلي للشخصية.
وتعددت تجاربها الإخراجية، مثل “الفتى الصغير تيت” (1991)، وفيلم “العودة إلى الديار في العطلات” (1995)، حيث تظهر رؤية جودي فوستر الإخراجية الخاصة تجاه الشخصيات المعقدة، وحيث تتحرك الكاميرا بانسيابية بين المشهد الداخلي والخارجي لتكشف الصراعات العاطفية والعائلية، معتمدة على السرد البصري لتعميق الأبعاد النفسية للشخصيات. وفي فيلم Little Man Tate، يظهر الأم (جودي فوستر كممثلة ومخرجة) وطفلها العبقري بين الصراع والطموح الفردي والاحتياجات الاجتماعية، وهي تسعى إلى تصوير المكان كامتداد للوجدان، فالمدرسة تمثل القيود، بينما المنزل يمثل الحرية والدعم النفسي.
وتتميز جودي فوستر بقدرتها على بناء علاقات درامية متينة بين الشخصيات، سواء على الشاشة أو من خلال النص السينمائي، حيث يظهر الحوار كأداة لتفكيك الصراعات الداخلية والخارجية، مثل المقاطع التي تقول فيها الشخصيات: “أحيانًا يكون الحب مجرد محاولة للحفاظ على الإنسان الذي نعرفه”، لتكشف الصراعات العاطفية والهوية الفردية. وتجعل المخرجة من الاهتمام بعناية الحوارات المبطنة بالمعنى، والمناظر الطبيعية الدقيقة، والموسيقى المختارة في أعمالها تجربة غنية بصريًا ووجدانيًا، كما تضيف طبقة فلسفية على أفعال الشخصيات وخياراتها.
ومن الناحية الجمالية، تعتمد فوستر على تدرجات الألوان الدقيقة، وتفاصيل الإضاءة، والزوايا المحكمة، لتعكس الحالة النفسية للشخصيات، ويبدو اهتمامها بالتفاصيل البصرية بمثابة امتداد للخطاب الروحي للشخصيات. ويجعل أسلوبها السردي المشاهد لا يكتفي بالملاحظة وإنما يعيش التجربة كاملة، بين توتر الموقف وهدوء المشاعر، وبين العنف المحتمل والحماية النفسية.
وتؤمن فوستر كناقدة ومخرجة، أن السينما ليست مجرد تسلية، فهي مساحة للتأمل في النفس الإنسانية، وللتعبير عن الهوية، وللمواجهة مع الظل الداخلي، والاحتفاء باللحظة الإنسانية الصادقة. وتعكس أعمالها فلسفة إنسانية عميقة، حيث يلتقي الإبداع بالتأمل النفسي، والشغف الفني بالبعد الاجتماعي. ولا تعتبر جودي فوستر مجرد ممثلة أو مخرجة، فهي صانعة قصص، رصدت خلالها الأبعاد النفسية والاجتماعية والفلسفية للشخصيات، وجعلت من السينما أداة لاكتشاف الذات والآخر.
ومن خلال مسيرتها، سواء أمام الكاميرا أو خلفها، تؤكد جودي فوستر أن الفن قادر على التعبير عن الوجود الإنساني بكل تناقضاته، وأن السينما مساحة للحوار الداخلي والتأمل النفسي، وهو ما يجعل كل عمل لها تجربة غنية تتجاوز القصة لتصل إلى قلب المشاهد وروحه.
في عمر لا يتجاوز الثلاث سنوات، أطلت جودي فوستر على شاشات التلفزيون لأول مرة من خلال إعلان لمستحضر “كوبرتون”، بوجه طفولي وابتسامة واسعة. غير أن وراء هذا الظهور المبكر كانت هناك امرأة حازمة تدير المشهد من وراء الكواليس — والدتها، إيفلين إيلا “براندي” فوستر. ولم تكن إيفلين مجرد مديرة لأعمال ابنتها الصاعدة، فقد كانت العقل المدبر وراء بناء مسيرة فنية استثنائية، ترسم المسار بحنكة نابعة من الأمومة، والخبرة، والحاجة الملحّة إلى توفير حياة كريمة لعائلة مكوّنة من أربعة أطفال تقودها أم عزباء في قلب لوس أنجلوس.
ولم تكن إيفلين غريبة عن عالم الفن. فقد عملت سابقًا كمسؤولة إعلامية في هوليوود، ورافقت شخصيات شهيرة مثل فرانك سيناترا، ما منحها معرفة دقيقة بواقع هذه الصناعة، بما في ذلك ضغوطها ومخاطرها. وعندما رأت في جودي الذكاء، والانضباط، والحضور اللافت، أدركت أنها أمام موهبة استثنائية، ليس فقط قابلة للتطوير، وإنما قادرة على التألق إن وُجِّهت بالشكل الصحيح.
وكانت إدارة إيفلين لمسيرة جودي مثالًا على القيادة الصامتة والثابتة. وأشرفت على كل تجارب الأداء، وتفاوضت على العقود، ورافقت ابنتها في مواقع التصوير دون أن تتدخل في مساحتها الفنية، لكنها بقيت دائمًا العين الساهرة والداعم الثابت.
ومنذ سن مبكرة، وضعت إيفلين خططًا متكاملة لنمو جودي الفني والثقافي على حد سواء. وكانت توقظها في الفجر لتقرأ لها الصحف بصوت عالٍ، تمرينًا على النطق والثقة والفكر النقدي. وسجلتها في “المركز الفرنسي” في لوس أنجلوس، لتتلقى تعليمًا فرنسيًا صارمًا، وبالتوازي مع جدول تصوير مزدحم. وعندما حصلت جودي على الدور المعقد لـ”آيريس” في فيلم Taxi Driver وهي في الثانية عشرة من عمرها، وقفت إيفلين درعًا واقيًا، تشرح لها السياق الأخلاقي والنفسي لكل مشهد، حريصة على التمييز بين التمثيل والواقع. وما يميز تأثير إيفلين في حياة جودي لم يكن محصورًا في المجال المهني. فقد شكلت الأم بيئة أسرية ذات مبادئ إنسانية صارمة. وعاشت إيفلين بشكل علني مع شريكة حياتها، وربّت أبناءها على الصراحة والقبول والاعتزاز بالاختلاف. وفي منزل بسيط ولكنه غني بالحوار والانضباط، تعلمت جودي أن تشكك في السلطة، وأن تضع التعليم والمعرفة فوق الشهرة والجوائز.
تفتح جودي فوستر باب السينما كما تُفتح أبواب الاعتراف. وتُمسك الكاميرا لا لتروي ما تراه، وإنما لتفكك ما تشعر به، وكأن الصورة عندها ليست تمثيلًا للواقع، فهي محاولة لاستعادته من جديد. وتقترب من الشخصيات بحذر العالم النفسي وتبتعد عنها بمسافة الفنان الذي يخاف أن يفسد صدق اللحظة. وتبني عالمها الإخراجي على مزيج من الدقة العاطفية والعقل التحليلي، كأنها تُخضع المشاعر لتجربة علمية في مختبر الضوء.
وتؤمن فوستر بأن الشخصية الإنسانية لا تُفهم من خلال الحدث، وإنما من خلال الصمت الذي يسبقه، ومن خلال الارتباك الذي يرافقه. وفي فيلمها “Little Man Tate” تكشف عن طفلٍ عبقري يتعثر في ذكائه كما يتعثر الآخرون في جهلهم. وتضع الكاميرا أمامه كما لو كانت مرآة تراقب هشاشته، وتمنح الأم — التي أدتها بنفسها — مساحة للتناقض والضعف، فلا تصنع منها نموذجًا مثاليًا، بقدر ما تصنع منها إنسانة تبحث عن طريقة لتُحب دون أن تُخنق. وبهذا الحسّ الإنساني المرهف، تُحوّل فوستر الاختلاف إلى تجربة وجودية، وتجعل الذكاء معاناة والعبقرية عزلة، كأن كل تفوقٍ هو نوع من العقوبة الجميلة.
وتنتقل في فيلم “Home for the Holidays” من الذكاء الفردي إلى الفوضى الجماعية، ومن عبء العبقرية إلى عبء العائلة. وتُعيد تشكيل البيت كفضاء للاعتراف والخيانة والحنين، حيث تتصادم الأجيال، وتتعثر العواطف في نسيج الذكريات. ولا تسعى فوستر إلى المصالحة، وإنما إلى الفهم، ولا تضع العائلة في قالبٍ درامي تقليدي، فهي تجعل منها مختبرًا صغيرًا للمجتمع الأمريكي، حيث الوجوه تُبتسم بينما القلوب تتوارى خلف المائدة.
وتُعيد فوستر بناء البطل بطريقة تُخالف السائد؛ فهي لا تبحث عن المنتصر ولا عن المنقذ، وإنما عن الواعي، عن ذلك الذي يرى أكثر مما يحتمل. وتصنع شخصياتها من الألم مادةً للمعرفة، وتجعل من التفكير عبئًا وجوديًا لا يمكن الفكاك منه. وأبطالها لا يُقاتلون العالم بقبضاتهم، وإنما بعزلتهم، لأن المعرفة في أفلامها ليست امتيازًا، فهي امتحان قار. وبهذا المعنى، تتحول البطولة إلى شكلٍ من أشكال النجاة الداخلية، حيث يكفي أن يفهم الإنسان نفسه ليصبح أقرب إلى الخلاص.
وتستند البنية السردية في سينما فوستر إلى إيقاعٍ تأملي يجعل الحكاية تدور في دوائر أكثر مما تسير في خطوط. وتبدأ اللقطة هادئة وتنتهي على الهدوء ذاته، كأن الزمن في أفلامها لا يتقدّم، وإنما يتنفس. وتُبطئ الحركة كي تمنح الفكرة مجالها الطبيعي في الوعي، وتختصر الحوار كي تُعطي للصورة سلطتها الأولى. وتُفضّل أن تتكلم الوجوه بدل الكلمات، وأن تهمس الكاميرا بدل أن تصرخ. وفي ذلك الاقتصاد اللغوي تكمن جماليتها، حيث يصبح الصمت أكثر بلاغة من أي جملة منمّقة.
وتُضيء فوستر الجانب الاجتماعي والنفسي في تواشجٍ دقيق، فتربط بين الفرد والمجتمع، بين الجرح الشخصي والخلل الجمعي. وفي فيلم “Money Monster” (2016) تفتح عدسة الكاميرا على جرح الرأسمالية وجشعها، وتفضح كيف يتحوّل الإعلام إلى أداة لإخفاء الحقيقة لا كشفها. وتجعل من المذيع والإنتاج والبث المباشر رموزًا لعصرٍ يبيع الوهم ويشتري الصمت. وبين تلك الشبكة المعقدة من الصور والسلطة، تزرع سؤالها الأخلاقي الأعمق: من يملك الحقيقة عندما تُصبح الكاميرا أداة للهيمنة؟
وتُجرد جودي فوستر الصورة من الإغراء البصري لتُعيد إليها صدقها الأول. وتقترب من الوجوه كما تقترب الأصابع من الذاكرة، وتستعمل الإضاءة لا لتجميل الواقع بل لتعرّيه. وتُحبّ الضوء الهادئ، والكادر الضيق، واللقطة التي تحتوي على تردد النفس قبل أن تنطق الكلمة. وهكذا تبني جمالياتها على نوعٍ من الواقعية الحميمية، التي تجعل الصورة تشبه شعورًا أكثر مما تشبه مشهدًا.
وتتجاوز فوستر الإشكاليات السطحية للنوع أو الجندر لتطرح أسئلة الوجود نفسها: كيف يعيش الإنسان في عالمٍ لا يراه كما هو؟ وكيف يتصالح مع اختلافه حين يُصبح الاختلاف عبئًا؟ وتُحوّل الأسئلة إلى مادة سينمائية، وتُحوّل السينما إلى مرآة نفسية، كأنها تمارس نوعًا من العلاج بالفن. وفي عمق هذه المقاربة، تُضيء التناقض بين الرغبة في التواصل والخوف منه، وبين الحاجة إلى الفهم والرهبة من أن يُفهم المرء تمامًا.
وتغلق جودي فوستر أفلامها كما تفتحها: بلا ضوضاء، بلا أحكام، فقط بنظرة طويلة نحو الداخل. وتترك المشاهد أمام ذاته، تُجبره على التفكير في موقعه من العالم، وتدعوه لأن يرى ما لم يكن يريد أن يراه. فهي لا تُخرِج لتُدهش، بل لتُصغي. وكأنها تقول إن السينما الحقيقية ليست في إضاءة الخارج، وإنما في إضاءة الداخل.
وتكمن تجربة جودي فوستر الإخراجية كفعل تأمل أكثر منها فعل سرد، وموقفًا أخلاقيًا أكثر منه مهنة فنية. وتكتب بالكاميرا ما لا يُقال بالكلمات، وتُحوّل الذكاء إلى إحساس، والحزن إلى معنى. وكأنها تهمس للمُشاهد من وراء العدسة: “كل فيلم أخرجه هو محاولة لتذكير نفسي بأن الفهم لا يكفي كي نعيش، لكنه ضروري كي نواصل الحلم”.
المصدر:
هسبريس