من تكون المرأة حين تصبح الشاشة مرآتها؟ وكيف تتحول من كائنٍ تُحاصره الأعراف إلى صوتٍ يُدوّي بالحرية؟ وهل يمكن للجسد الأنثوي في السينما المغربية أن يروي حكاية وطنٍ بأكمله من خلال وجعه وغنائه وصمته؟ في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، لم تكن البطولة للضوء أو للأسماء بقدر ما كانت للأداء الأنثوي في أرقى تجلياته. هن أربع فنانات خلقن الحدث، وأعدن تعريف معنى التمثيل والحضور كفعلٍ وجوديٍّ وجماليٍّ ومقاوم. تتقدمهم لبنى أبيضار في “أوتيستو”، وزهرة هواوي في “أفريكا بلانكا”، وخلود البطيوي في “شذرات”، ونسرين الراضي في “الجميع يحب تودة”، جسّدن وجوهًا متعددة للأنوثة وهي تحارب بصوتها، وتنهض بجسدها، وتكتب حضورها من رماد الألم. فكل واحدة منهن حملت جزءًا من حكايتنا، فحوّلن المهرجان إلى مختبرٍ إنسانيٍّ للهوية والحرية والجمال.
تبدأ العلاقة مع بطلة الفيلم (مليكة) حين تضعها كاميرا المخرج المغربي جيروم كوهين أوليفار في دائرة الضوء، ليس كنجمة بالمعنى التقليدي، بل كموقع للتحوُّل النفسي والاجتماعي، حيث تمضي بك الخطوة الأولى إلى داخل عالمٍ مضطرب حينما تتعايش الشخصية مع يافع مصاب بالتوحد، بـ Autism spectrum disorder، ويجمعهما معًا خطٌّ رفيع بين الحُبّ والخوف والوحدة.
وتحتفي سينما كوهين أوليفار بالمرأة هنا كصوت الصمت والكفاح، إذ إن البطلة (التي تجسدها لبنى أبيضار في دور مليكة) تصبح محطّ تحليلٍ نقديّ يمتدّ من الجمال البصري إلى البنية النفسية والاجتماعية واللغوية للفيلم.
ومن منظورٍ جماليّ، تستثمر البطلة فيلم “أوتيستو” Autisto بحضورها الجسدي والحواري في لحظاتٍ موسومة بالتوتر والسكوت. وتبرز في كل مشهد لغة الجسد التي تقول ما لا تقوله الكلمات، وحين تتلفّتُ إلى طفلها، تنسجُ خطًّا بصريًّا يُترجمُ أمومةً عبر التعبيرات والسكوت أكثر منها الكلمات. وفي هذا السياق، فإن المشاهد التي تظهر فيها بطلة الفيلم في الحانة، بينما تتلقّى نظراتً وتصرفاتٍ اجتماعية، ترمز إلى العزل والاختلاف؛ في حين أن الإضاءةَ والخلفيات الليلية تُساعدان على بروزها كتمثالٍ عاطفي وسط فضاءٍ ماديٍّ يفتقر إلى الحنان.
ومن الناحية النفسية، تكشف البطلة عن صراعٍ داخليّ مزدوج: أولاً حُبٌّ لا مشروط، يتّجه نحو ابنها المصاب بالأوتيزم، وثانيًا خوفٌ من المستقبل ومن أن تمضي قبل أن يَسْتَعِدَّ ويَسْتَقِلّ. وتُعيد هذه الثنائيةُ صياغة صورة الأمومة ليس باعتبارها واجبًا تقليديًا فحسب، وإنما باعتبارها مقامًا لتخليص الذات والمواجهة. وتُبرز المشاهد التي تستعرض فيها البطلة نوبات الطفل أو لحظات الصمت الطويلة، كيف أن الصمت يصبح لغةً، والخوف على «الفقدان» يصبح دافعًا للحركة والبحث. وفي هذا الإطار، تتحوّل البطلة إلى بؤرة نفسية يُمكن أن تُدرس من خلالها أثر الإصابات التنموية ليس على الفرد فقط وإنما على محيطه العاطفي والنفسي ككل، ومعها نظرة المجتمع إلى الأم ومتاعبها وأحزانها ونظرة الشفقة التي تلاحقها.
ومن جهةٍ اجتماعية، تمثّل البطلة نقدًا ضمنيًّا لواقعٍ مغربي وإقليميّ غالبًا ما يهمش معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة ويضعها في رفوف العزلة وسلة الإهمال. ويضع الفيلم بطَلَته في قلب هذا النقد من خلال واقعٍ يوميّ: أم تعمل نادلة، تصطدم بنظرات الآخرين وبافتقاد المجتمع وبقصور البُنى التحتية التي تُعنى بالأوتيزم. وهنا، تصبح البطلة بمثابة مرآةٍ للمجتمع – تعكس ضعفه وبنيته المهشّمة – وتدعو إلى إعادة النظر في التضمين، في القبول، وفي مكانة الفرد المختلف.
من الناحية اللغوية، تؤدي بطلة الفيلم دورًا في إنتاج خطابٍ سينمائي يعتمد على الحدّ الأدنى من الحوار، مما يُعزّز حضور لغة الجسد، العين، الصمت، وفي بعض الأحيان صوتًا يُقطَع. وتكمن قوة الأداء اللغويّ في «الغياب الكلاميّ»؛ إذ إن ما لا يُقال أبلغ مما يُقال، وتلك استراتيجية لغوية تضع البطلة في موقع تحويل بصريّ وصوتيّ. كذلك، فإن الأمكنة الحضرية (الحانة، المقبرة، الشاطئ، الشارع الليلي) تصنع سياقًا لغويًا بصريًا يحوّل المشهد إلى حوار بين الشخصية والمكان، بين البطلة والمجتمع، بين الإنسان والإعاقة. وهذا التوظيف اللغويّ المرئي–السمعي يجعل من أداء البطلة درسًا يمكن ربطه بإشكالية “لغة الصمت” و”تمثُّل الاختلاف”.
ومن المنظور النقدي، فإن بطلة “أوتيستو”، (مليكة / لبنى أبيضار) تُشكّل حالة دراسية تحفّز مفاهيمَ متعددة: الهوية، التمثّل، الجندر، التماهي، والأطراف الاجتماعية التي تحتضن أو تُهمش. إذ إن التمثيل السينمائي للأمهات اللاتي يعانين من العزلة بسبب مرض أبنائهنّ يتداخل هنا مع دراسات النوع الاجتماعيّ التي تسأل: كيف تتغيّر الأمومة حين تُرافقها إعاقة؟ كما أنّ السياق المغربيّ/العالميّ للفيلم يدعو إلى إدراج تحليلَين: تحليل ما بعد استعماريّ (منظور “الاختلاف” والهوامش) وتحليل تمثيل وتمثّل الإعاقة في السينما. وكذلك، فإن البطلة – بصفتها موقعًا سرديًّا وصوتًا بصريًّا – تتيح بحثًا في رمزية الجسد، في مفهوميّة «المُراقَب/ة» و«المُشاهد/ة»، وفي العلاقة بين الفنّ والالتزام الاجتماعي. بمعنىً آخر، فإن بطلة الفيلم لا تُعتبر مجرّد واجهة فاعلة بقدر ما تُسهم في بناء خطابٍ نقديّ بصري–اجتماعيّ.
يمكن الاستنتاج بأنّ البطلة في Autisto تشكّل أكثر من شخصية روائية: هي محورٌ متعدد البُنى يجمع بين الجمال السينمائيّ، والصراع النفسيّ، والنزاع الاجتماعيّ، واللغة السينمائيّة المركّبة. ومن ثمّ هي تؤكّد أن الفنّ السينمائيّ، حين يحلّق في فضاء الإظهار والاعتراف، قادرٌ على أن يكون أداة تغيير لا للتسلية فحسب. وفي حضورها، تصبح الشاشة مرآةً لمن يُراد له أن يبقى في الظلّ، فتكشف العتمة وتُعطي صوتًا لمن لا صوت له.
في أداء لبنى أبيضار لدور “مليكة” في فيلم “أوتيستو” نضج كافٍ وتحول كبير في مستوى التجسيد وفي بلاغة الأداء، يشي بالمتابعة وبالتعاطف وتقريب حالات الأمومة وغضبها وكذلك لحظات فرحها.. يخلق منها ممثلة كبيرة بمعايير الحس الإنساني ومستويات المعرفة والنضج التي اكتسبتها في رحاب الحياة والسينما وديار الهجرة.
وقدمت لبنى أبيضار في فيلم “أوتيستو”، أداءً حادًا ومركبًا في دور مليكة، امرأة تعيش على حافة الانهيار وتحاول الإمساك ببقايا ذاتها في عالمٍ يزداد قسوة. وجسدت الشخصية بطاقة داخلية متوترة تجمع بين الغضب والحنان، وبين الرغبة في النجاة والخوف من السقوط. واستخدمت أبيضار الجسد كأداة للتعبير عن الألم أكثر من اللغة، فجعلت من كل حركة وانفعال اعترافًا صامتًا بالهشاشة والتمرّد معًا. وأظهرت قدرة نادرة على التنقل بين الانفجار والصمت، فبدا أداؤها كرقصةٍ على جرحٍ مفتوح، تُعرّي الوجدان وتواجه الواقع بشجاعةٍ فنيةٍ تُثبت نضجها كممثلة تبحث عن الصدق لا عن الإعجاب.
تتشكل صورة زبيدة (زهرة هواوي) في فيلم “أفريكا بلانكا”، للمخرج عز العرب العلوي لمحارزي، كوميضٍ يشتعل في عتمة الطريق، كامرأةٍ تنبت من الرمال لتعيد للرحلة معناها الإنساني والجمالي معًا. وتُدخلنا الشخصية في حقلٍ مزدحم بالتأويلات، حيث يتحوّل الجسد إلى نصٍّ مفتوح على الأسئلة، وتغدو اللغة وسيلة لمقاومة العدم. وحين تلتقي بعائشة وابنها في جنوب الصحراء، لا تظهر زبيدة كاملة، بل تتسلل من وراء قناع “زوبير”، لتؤجل كشف هويتها، وكأنها تمارس طقسًا من طقوس الولادة الجديدة. وفي هذا التردد بين الأسماء، تنشأ أولى شرارات المعنى: من تكون زبيدة فعلًا؟ هل هي عابرة سبيل أم مرآة تعكس هشاشة الآخرين؟
وتبدأ زبيدة بالتحرك كأنها ريحٌ تتبع نداءً داخليًا، لا كائنًا يسعى إلى وجهة جغرافية محددة. وتسير بخفةٍ وتمرد وتحملها الرغبة في النجاة، لكنها تجرّ خلفها أوزانًا من الألم والذاكرة. وحين تقول لعائشة “الطريق لا يُقاس بالمسافة، بل بما يتركه فيك”، فإنها تكشف عن وعيٍ فلسفيٍّ عميق يجعل من الرحلة فعلًا وجوديًا أكثر من كونه هروبًا. ومع أوصمان، الشاب الذي يحاول النجاة بجسده وروحه، تتحول نظراتها إلى لغةٍ أخرى، لغة الجسد الذي “يقول ما لا يُقال”، كما لو أن السينما نفسها تتحدث من خلالها.
وتجعل زبيدة من الجسد مساحة مقاومة، وتعيد تعريف الأنثى في فضاءٍ يضيق بها. وتتحدى القهر لا بالشعارات وإنما بالإيماءة، بالنظرة، باللمسة التي تمنح الآخرين طاقة البقاء. وتبدو كما لو أنها قادمة من أسطورةٍ قديمة، من زمنٍ كانت فيه المرأة تعرف كيف تحوّل الألم إلى جمال، والمحنة إلى حكاية. ومع كل مشهدٍ، يتبدل حضورها بين الشراسة والحنان، بين المكر والصفاء، فيجعلنا الفيلم نرى تدريجيًا حساسية كبرى، كيف يمكن لجسدٍ مرهقٍ أن يصبح أيقونةً للحياة.
وتتعمق الرحلة من جنوب الصحراء إلى ضفة البحر الأبيض المتوسط، فتغدو زبيدة مرآة للمسافة بين الأصل والمنفى، بين الهوية والاغتراب. وفي كل خطوة، تُعيد ترتيب المعنى، كأنها تقول: “لا أحد يعبر البحر نفسه مرتين، لأننا لا نعود كما كنا”. ويتبدّى الإتقان في أدائها من قدرتها على الجمع بين القسوة والشفقة، بين الغموض والصدق، وكأنها تمارس التمثيل كفعل وجود، لا كمهنة.
وتجعل زبيدة الآخرين يعيدون اكتشاف أنفسهم، إذ تُذكّرهم بأن النجاة لا تكون بالجسد فقط، فهي باللغة ممكنة، وبالخيال، وبذاك القدر من الحب الذي يظلّ ممكنًا رغم كل الخراب. وحين تنتهي الرحلة، لا تمنحنا اليقين، فهي تتركنا في مساحةٍ من الأسئلة المفتوحة، في تردّدٍ بين الخلاص والمأساة. وهنا تكمن قوتها الجمالية: في أنها لا تشرح، بل تُجسّد؛ لا تصرخ، وإنما تُهمس بما يشبه الحقيقة، بالقفز من الزورق والعودة إلى أرض الحب: افريقيا السمراء…
ويتحوّل حضور زبيدة في النهاية إلى استعارةٍ للأنوثة وهي تستعيد حقها في أن تكون صوتًا ووجهًا وجسدًا. فهي لا تذوب في الآخر، ولا تنصاع لقدرٍ مرسوم، وإنما تمشي، ببساطةٍ مدهشة، نحو البحر الذي ينتظرها كآخر حدود الحلم. وكأن الفيلم كله، في جوهره، كان يسير نحوها منذ البداية، ليقول إن الخلاص يبدأ من امرأةٍ تعرف كيف تُعيد كتابة ذاتها في مواجهة العدم.
وقدمت زهرة هواوي في فيلم “أفريكا بلانكا”، أداءً استثنائيًا في تجسيد الدور المزدوج زوبير/زبيدة، إذ استطاعت أن تتحرك بين الهوية المموهة والهوية الأصلية بمرونة جسدية ونفسية مدهشة. وأدّت دور زوبير بصرامةٍ خفية في جسد ذكوري يخفي خلفه خوفًا وجوديًا ونظرة اجتماعية قاتلة، ثم تحوّلت إلى زبيدة المفعمة بالحياة والحنان بعد قصة حب دون أن تفقد ذلك الغموض الذي يحيط بها. واستخدمت نظراتها وصمتها كلغة ثانية، فعبّرت عن هشاشة الجسد ورغبة الروح في النجاة. وأضفت على الشخصية نوعًا من المرح والقفز الطفولي وطاقة أنثوية متحررة من القوالب، وجعلت من التحول نفسه فعلًا جماليًا وهوياتيًا يختزل مأساة العبور والبحث عن الذات في عالمٍ بلا يقين.
تغدو غيثة (خلود البطيوي) في فيلم “شذرات” للمخرجَين جنان فاتن محمدي وعبدالإله زيراط، أكثر من شخصية سينمائية، إنها ذاكرة تمشي على خيطٍ رفيع بين النسيان والحنين، بين الطرب والخرس، بين الجسد الذي يخونه الزمن والروح التي ترفض أن تُطفأ. وتغني كما لو كانت تحاول إنقاذ نفسها من الغرق، وتعيش كمن يسكن بين نغمتين: الأولى تنتمي إلى ماضٍ أندلسيٍّ من الفرح والصفاء، والثانية إلى حاضرٍ متشظٍّ يتهدده الزهايمر ويبتلعه الصمت.
وتبدأ غيثة يومها بحبوب الدواء، تبتلعها ببطءٍ يشبه صلاةً صغيرة، كأنها تذكّر جسدها بأن عليه أن يصمد قليلًا، أن يتشبث بالحياة كما يتشبث صوتها بآخر بقايا النغمة. وتتصرّف كما لو أن كل تفصيلٍ بسيطٍ — فنجان قهوة، مقطع أغنية، ظلّ على الجدار — يمكن أن يصبح حبل نجاةٍ من العدم. وحين تستعيد لحظات صفائها، تعود إليها صورة عمر، الجندي الذي أحبته، والذي أهدى لها فراشةً فضية لا تزال تُمسك بها كرمزٍ لما فاتها. وتهمس باسمه، فترتجف ذاكرتها مثل وترٍ قديمٍ يُعيد صوته للمرة الأخيرة.
ويقف حسن، زوجها وعازف الفرقة، مذهولًا في الخلفية، صامتًا كآلة موسيقية فقدت لحنها. ويراقبها وهي تذوب بين ماضيها وحاضرها، بين جسدٍ ينسى وصوتٍ يرفض أن يصمت. فهو لا يتدخل، لا يوبخ، ولا يعاتب، وإنما يتركها تحترق في بطءٍ شفيفٍ يشبه طقس التطهير. ويتجلى البعد الجسدي في هذا الاحتراق، إذ يصبح الجسد ساحة معركةٍ بين المرض (الزهايمر) والذاكرة، بين الغياب والرغبة في الاستمرار. وحين يصدح صوت غيثة بالغناء، تبدو كمن يطالب بحقه في البقاء عبر الموسيقى، فالأغنية هنا ليست متعةً، بل هي مقاومة، ليست طربًا وإنما فعل هوية.
وحين يعود ابنها من كندا، تتبدّل المشاهد الداخلية للفيلم. ويفتح حضوره فجوةً جديدة في وجدانها، إذ تلتقي الأمومة بالزمن الضائع، وتتكثف الأسئلة: من تكون غيثة الآن؟ المغنية التي عرفها الجمهور؟ الزوجة التي ظلّت تؤدي دورها في صمت؟ أم الأم التي نسيها الزهايمر وتركها في منتصف الحكاية؟ ويتقاطع الجمال بالوجع، فيتحوّل الفيلم إلى نشيدٍ بطيءٍ عن هشاشة الإنسان وعن مقاومة النسيان بالحب والحنين.
تتمسك غيثة بما تبقى من صوتها لتقاوم محو الذات. وتغني لأن الغناء ذاكرتها الأخيرة، وجسدها الأخير، وهويتها الأخيرة. وحين تتعثر كلماتها، يكمل الصمت عنها ما لا تستطيع قوله. كأنها تقول لنا، بصوتٍ مبحوحٍ لكنه ثابت: “أنا ما زلت هنا، ولو في شذرات.” وهكذا يترك الفيلم أثره الجمالي والوجودي، إذ يجعل من غيثة مرآةً لكل من خسر ذاكرته لكنه واصل الغناء كي يظل حيًا في مواجهة العدم.
قدمت خلود البطيوي في فيلم “شذرات”، أداءً يمزج بين الرهافة والانكسار، فجعلت من غيثة كائنًا هشًا يقاوم النسيان بالصوت والنظرة والسكوت. وتجسدت الممثلة في دور المغنية المصابة بالزهايمر بصدقٍ داخلي نادر، إذ لم تعتمد على المبالغة أو الخطابة، وإنما على التفاصيل الصغيرة التي تشي بانهيار الذاكرة وارتباك الحواس. وجعلت من الجسد مرآةً للعطب، ومن الصوت أثرًا لزمنٍ يتآكل. وفي لحظات صفاء غيثة، أطلقت خلود شذراتٍ من نورٍ داخلي، تُعيد إلينا صدى المرأة التي كانت تغني كي لا تموت. حضورها أمام الكاميرا ظلّ متوازنًا بين الألم والكرامة، بين الغياب والحضور، لتجعل من غيثة صورةً شاعريةً عن ذاكرةٍ تغني وهي تتفتت.
تبدأ تودة (نسرين الراضي) في فيلم “الجميع يحب تودة”، كصوتٍ مبحوحٍ يحاول أن يخرج من بين طبقات الخوف، كأنها تصعد من جرحها الشخصي نحو سماءٍ مليئة بالتناقضات. وتغني وهي تعرف أن الغناء في مجتمعٍ مثقل بالمحرمات ليس مجرد أداء فني، فهو فعل وجود ومقاومة. وتتحول منذ المشهد الأول في الفيلم إلى مرآة تعكس عمق الصراع بين الفن والعار، بين الرغبة في الحياة وبين إدانة الجسد الأنثوي الذي لا يُسمح له إلا بالصمت أو الخضوع.
وتواجه تودة اغتصابها في الغابة كحدثٍ مؤسسٍ للوجع، لكنه لا يُحطمها بقدر ما يعيد تشكيلها. وتنهض من الصدمة مثل طائرٍ مبللٍ بالمطر، تداوي جرحها بالغناء وتعيد صياغة حضورها عبر العيطة في اليوم الموالي متناسية خدوشها على الجسد المنهك، ويتقاطع هذا الفن الشعبي مع التاريخ والوجدان، والأنوثة بالذاكرة الجمعية. وتعرف، وهي تصعد المنصة، أن كل لحنٍ تؤديه هو طريقة لقول ما لا يُقال، وأن كل زغرودةٍ تخترق الهواء إنما تعلن أن صوت المرأة ليس عورةً بل شهادة حياة.
وتعيش تودة أمومتها كجزء من مقاومتها، إذ يشكل ابنها الصغير ياسين (تسع سنوات) امتدادًا لروحها، رغم صمته الذي يبدو لعنةً في ظاهر الأمر. ويتحدث الاثنان بلغة الإشارة التي تتحول إلى شعر بصري، وإلى تواطؤ صامتٍ ضد العالم. فهما لا يحتاجان إلى الكلام، لأن العيون تفهم، ولأن الصمت هنا يصبح لغة للصدق. وبين الأمومة والفن، تكتشف تودة منطقةً جديدة لهويتها، منطقة تُعيد فيها تعريف ذاتها بعيدًا عن نظرة المجتمع التي لا ترى فيها سوى “شيخة” وجسدًا مباحًا بلا تاريخ.
وتتنقل البطلة بين الأعراس والحانات والمواسم والفنادق المصنفة كمن يعبر خريطة جرحٍ مغربيٍّ متكرر، من الأطلس المتوسط إلى الدار البيضاء، من دفء القرية إلى قسوة المدينة. وتتغير الألوان كما تتغير ملامحها الداخلية، فيتحول الأحمر إلى أبيض، والخطيئة إلى رغبةٍ في التطهير. وحين تسبح في النهر، يبدو المشهد كولادة جديدة، كأنها تترك وراءها رماد الجسد وتستعيد روحًا أكثر صفاءً. وهنا، تتحول العيطة إلى طقسٍ تطهيري، والماء إلى مرآةٍ تغسل الذاكرة من الغبار الاجتماعي.
وتقدّم نسرين الراضي أداءً نادر الحساسية، إذ لا تمثل تودة، بقدر ما تتلبسها حتى تصير العيطة تنبض في تنفسها. وحين تردد الأم عبارتها “اللهم العيطة ولا زواج الذل”، يتحول القول إلى شعار للحرية، وإلى بيانٍ نسويٍّ مكتوم يعيد للفن كرامته وللجسد حقه في الاحترام.
وتنجح تودة في تحويل الألم إلى غناء، والعار إلى كرامة، والاختناق إلى نشيدٍ مفتوحٍ على الضوء. وتصبح العيطة معها أكثر من موسيقى، وتصبح طريقة في الوجود، واحتفاءً بأنوثةٍ لا تخجل من جسدها ولا من صوتها. وهكذا، يغدو الفيلم مرثيةً للجسد المغربي المقموع، لكنه أيضًا قصيدةً في حرية امرأة تغني كي تبقى، وتُحب كي تُشفى، وتؤمن أن الفن، مهما كان ملوثًا بالوجع، يظل الطريق الأصدق نحو الخلاص.
وتبدأ نسرين الراضي في بناء الشخصية من الداخل، من النَفَس قبل الكلمة، من الإيقاع الداخلي الذي يجعل الغناء في الفيلم امتدادًا للوجع لا مهنةً ولا ترفًا. وتنجح في جعل كل نغمةٍ تؤديها تفيض بذاكرةٍ شخصية وجماعية في آن واحد، وكأنها تُغني عن كل النساء اللواتي أُسكتن أو أُدينّ لأن أصواتهن خرجت من الحناجر لا من الأوامر. وحين تصرخ أو تهمس أو تغني، نسمع في صوتها ترددات مجتمعٍ كاملٍ يجلد المرأة باسم العرف، ويخافها حين تصير حرة.
ويتضاعف الإقناع لأن نسرين الراضي لم تؤدِ الدور من وراء مسافةٍ آمنة، وإنما عاشته فعليًا. وجلست مع الشيخات، وتعلمت نَفَس طقوس العيطة، واستبطنت تفاصيل الطقس والغناء الشعبي حتى صار جسدها آلة موسيقية تنبض بالحكاية. وبهذا المعنى، يصبح أداؤها عملاً بحثيًا وجماليًا في آن واحد، يربط بين الفن والهوية، بين التاريخ الشخصي والتاريخ الجمعي للمرأة المغربية.
وتخرج نسرين الراضي من الفيلم وهي أكثر من ممثلة، إنها شاهدة على تحوّل العيطة من “فن الهامش” إلى خطابٍ حرٍّ عن الجسد والكرامة والوجود وفن الشارع. وتجعلنا نصدق أن تودة لم تكن شخصية على الورق، بل هي امرأة من لحمٍ وصوتٍ وذاكرة، غنّت كي تعيش، وعاشت كي تظلّ تغني.
هكذا أكدت الفنانات الأربع أن السينما ليست فقط سردًا للقصص والحكايا، فهي مساحة للاعتراف والشفاء. فقد أعادت لبنى أبيضار للأمومة وجهها المقهور في فيلم “أوتيستو”، ومزجت زهرة هواوي الغموض بالتحرر في “أفريكا بلانكا”، وأعادت خلود البطيوي للذاكرة صوتها المبحوح في فيلم “شذرات”، وحرّرت نسرين الراضي الجسد بالغناء في “الجميع يحب تودة”. ولم تكن أدوارًا تمثيلية بقدر ما كانت شهادات وجودٍ مكتوبة بلحمٍ وروحٍ وصوتٍ. في طنجة، لم تُكرَّم المرأة كممثلة فحسب، وإنما كفكرةٍ متجددة عن المقاومة والجمال والكرامة والأنوثة. وتركت هدير الفنانات أثرًا يتجاوز الشاشة إلى الوعي الجمعي، وأثبتن أن السينما المغربية حين تُصغي لنساءها، تستعيد نفسها، وتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الإبداع الإنساني وفي تاريخ السينما المغربية بشمس مشرقة.
المصدر:
هسبريس