في حضرة اليوم العالمي للرعاية والدعم، الذي يوافق 29 أكتوبر من كل عام، تبرز الحاجة الملحّة إلى تسليط الضوء على فئات مجتمعية تصارع بصمت مضاعفات التهميش والهشاشة، في مقدّمتها الأطفال في وضعية إعاقة ذهنية المولودون لأسر معوزة. هؤلاء الأطفال يقفون عند تقاطع معقّد بين العجز الاجتماعي والاقتصادي، حيث تتحوّل الإعاقة من حالة بيولوجية أو نفسية إلى واقع اجتماعي مؤلم، تشتدّ وطأته حين تغيب منظومة مؤسسية للرعاية الشاملة والمستدامة.
في المغرب، وعلى الرغم من التقدم المسجّل في عدد من البرامج والسياسات الاجتماعية، لا يزال الأطفال في وضعية إعاقة ذهنية المنحدرون من أوساط فقيرة يواجهون تحديات جسيمة في الولوج إلى خدمات الدعم والتأهيل، وسط محدودية البنيات المتخصصة وضعف التكفل العمومي. وفي هذا السياق، تفتح جريدة هسبريس هذا الملف بمناسبة هذا اليوم الأممي، في محاولة لرصد معاناة هذه الفئة، واستجلاء الجهود المبذولة، والنقائص البنيوية التي ما زالت تحول دون إنصافها الكامل.
تحكي رشيدة بوخفة، فاعلة جمعوية بجمعية “إشراقة أمل” بمدينة الحاجب أم لطفل يعاني من إعاقة ذهنية، أن واقع الأمهات اللواتي يجدن أنفسهن في مواجهة هذا النوع من الإعاقة داخل أسر فقيرة، هو واقع قاس لا يُروى. تقول: “تبدأ المعاناة منذ اللحظة الأولى لاكتشاف الإعاقة، ثم تتسع الفجوة حين ندرك أن لا أحد في هذا البلد يرافقنا في هذه الرحلة”. وتشدد على أن غياب التأطير والدعم النفسي، وقلّة الموارد، يضاعفان الألم، ويجعلان من حياة الأسر المعنية سلسلة من التضحيات اليومية في صمت: “نشعر وكأننا غير مرئيات… لا صوت لنا، ولا مؤسسة تصغي إلينا فعلا”.
وأضافت بوخفة، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن معاناة الأسر التي تحتضن أطفالا في وضعية إعاقة ذهنية لا تقتصر على المصاريف الباهظة للعلاج والترويض فقط، بل تمتد إلى تفاصيل يومية منهكة لا يشعر بها إلا من عاشها، مثل غياب مرافق عمومية مهيأة، وصعوبة إدماج هؤلاء الأطفال في المؤسسات التعليمية، بل وحتى نظرة المجتمع القاسية التي تُحوّل حياة الأسرة إلى عزلة صامتة.
وأكدت المتحدثة أن الأم تجد نفسها مضطرة للاستقالة من عملها، والتفرغ الكامل لمرافقة طفلها، ما يؤدي إلى تدهور الوضعية الاقتصادية للأسرة. كما أشارت إلى أن غياب مراكز استقبال عمومية متخصصة، واضطرار بعض الأسر للانتقال من مدينة إلى أخرى بحثا عن خدمات ملائمة، يزيد من معاناتها النفسية والمادية، مطالبة بإعادة النظر في السياسات العمومية الموجهة لهذه الفئة، وإشراك الجمعيات الفاعلة في صياغة حلول واقعية وشاملة.
وقالت المتحدثة سالفة الذكر إن واحدة من أبرز العراقيل التي تواجه الأسر هي صعوبة الحصول على شهادة الإعاقة، باعتبارها البوابة الأساسية نحو الاستفادة من أي دعم أو خدمة موجهة للأطفال في وضعية إعاقة ذهنية. وأكدت أن المساطر الإدارية المعتمدة ما تزال معقدة وطويلة، وتفرض تنقلا مرهقا بين المصالح الصحية والإدارية، في وقت ترزح فيه هذه الأسر أصلا تحت وطأة ضغط نفسي ومادي كبير.
وشددت على أن غياب لجان تقييم متخصصة ومتوفرة بشكل منتظم، يدفع العديد من الأسر إلى الانتظار لأشهر عدة، وأحيانا لسنوات، من أجل نيل هذه الشهادة، وهو ما يفضي إلى حرمان الأطفال من حقهم في الولوج المبكر إلى خدمات العلاج والتأهيل والتعليم الدامج. وخلصت إلى ضرورة تبسيط الإجراءات الإدارية، وتوسيع شبكة مراكز التشخيص والتقييم، وتمكين الجمعيات من أداء دور الوسيط لتيسير المسار أمام الأسر الهشة.
نزهة الرامي، طبيبة متخصصة في مجال الاضطرابات الذهنية والسلوكية فاعلة جمعوية في جمعية “إشراقة أمل” وعدد من الإطارات المدنية، أكدت في تصريح لهسبريس أن الأطفال في وضعية إعاقة ذهنية يعيشون نوعا من “الإقصاء الصامت”، نتيجة غياب مقاربات شاملة ومندمجة تراعي خصوصيتهم النفسية والتربوية والاجتماعية. وأوضحت أن أغلب البرامج والخدمات الموجّهة إليهم تظل مقتصرة على من يعيشون في المدن الكبرى، بينما يُترك أطفال القرى والهامش يواجهون مصيرهم في عزلة مضاعفة.
وأضافت الرامي أن معاناة الأم تظل قائمة مهما كانت وضعيتها الاجتماعية، فكل أم تُرزق بطفل في وضعية إعاقة ذهنية تعيش صراعا يوميا مريرا، يتقاطع فيه الألم النفسي مع ثقل التحديات المعيشية. وتزداد هذه المعاناة حدة حين تكون الأسرة في وضعية هشاشة أو فقر، حيث تنعدم الإمكانيات وتغيب البدائل، ويصبح الوصول إلى العلاج والتأهيل والدعم ضربا من العناء المتكرر، يستهلك طاقة الأم وكرامتها في آن واحد.
وأكدت المتحدثة ذاتها أن رعاية الأطفال في وضعية إعاقة ذهنية ليست فقط مسؤولية أسرية أو جمعوية، بل هي قضية مجتمعية تستوجب تعبئة شاملة، تبدأ من الاعتراف بحقوق هؤلاء الأطفال في السياسات العمومية، ولا تنتهي عند حدود التكفل العلاجي أو التربوي. ولفتت إلى أن المقاربة السائدة ما تزال قاصرة، لأنها تنظر إلى الطفل في وضعية إعاقة كحالة خاصة تحتاج إلى حلول ظرفية، بدل اعتباره مواطنا كاملا له الحق في تعليم دامج، وفي خدمات صحية متخصصة، وفي فضاءات آمنة تسمح له بالتعبير والنمو.
وأضافت الرامي أن غياب مراكز التشخيص المبكر وندرة المتخصصين في الطب العقلي والسلوكي للأطفال يجعل الأسر تدور في حلقة مفرغة، بين مستشفيات غير مجهزة، وأطر طبية محدودة العدد، ومصاريف مرهقة لا قدرة لها على تحملها. وشددت على أن الطفل في وضعية إعاقة ذهنية لا يحتاج فقط إلى دواء أو جلسات تأهيل، بل إلى محيط اجتماعي متفهم، وإلى نظام قانوني يُلزِم القطاعات المعنية بالتكامل في الاستجابة، وإلى إعلام يساهم في تغيير النظرة النمطية التي ما تزال تلاحق هذه الفئة في الحياة اليومية.
المصدر:
هسبريس