أعادت الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها مدن مغربية عديدة وما رافقها من أعمال اعتداء على منتسبي الأجهزة الأمنية (الأمن الوطني، الدرك الملكي، القوات المساعدة) وما تبعها من أعمال تخريب طالت سيارات ومقرات تابعة لبعضها إلى الواجهة النقاش حول الصورة الذهنية التي ما زال بعض الشباب المغاربة يحملونها تجاه هذه الأجهزة، إذ كشفت تلك الأحداث عن بقايا نظرة سلبية تختزل رجل الأمن في صورة “الخصم” أو “العدو” الذي يجب مواجهته وليس الحامي والساهر على الأمن والاستقرار المجتمعي.
ويؤكد مهتمون أن التحولات العميقة التي عرفها القطاع الأمني خلال العقود الأخيرة، على مستوى التكوين والتواصل والالتزام بثقافة الحقوق والحريات، ساهمت بشكل لافت في تجاوز النظرة التقليدية التي كان يُنظر بها إلى رجل الأمن أو الدركي؛ فيما يبقى حضور النظرة السلبية محصورا في ذهنيات فئات محدودة من المغاربة، خاصة الشباب المتأثر بخطابات تضخّم تجاوزات وظيفية معزولة وسلوكيات فردية لا تمثل إلا أصحابها، وتعمل على تعميمها على هذا الجهاز أو ذاك بأكمله، مقابل تجاهل الجهود اليومية والتضحيات التي يقدمها رجال الأمن والدرك في سبيل حماية المواطنين وممتلكاتهم.
قال دركي متقاعد برتبة مساعد إن “المواطنين المغاربة أصبحوا اليوم أكثر وعيا بأدوار ومهام مختلف الأجهزة الأمنية، من أمن وطني ودرك ملكي وأجهزة أخرى، في حفظ الأمن والاستقرار”.
وأكد الدركي المتقاعد، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، في حديث مع هسبريس، أن “هذا الوعي يتجسد في ارتفاع منسوب الثقة والتعاون بين المواطن ورجل الأمن، سواء عبر التبليغ عن الجرائم أو المساهمة في كشف بعض القضايا عبر تقديم المعلومات”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “أغلب العائلات المغربية اليوم لديها فرد أو أكثر يشتغل في أحد الأجهزة الأمنية؛ ما جعل علاقة المجتمع بهذه المؤسسات أكثر قربا وإنسانية، بعد أن كان يُنظر إليها سابقا بنوع من التحفظ أو المسافة”.
وشدّد على أن “الصورة السلبية تجاه الأجهزة الأمنية تحضر فقط لدى فئة من الناس، خاصة المجرمين وأصحاب السوابق ذوي التكوين الاجتماعي والنفسي غير السليم الذين يحملون حقدا دفينا تجاه كل شيء وليس فقط تجاه الأمن”، لافتا إلى أن “الدليل هو أن الاحتجاجات الأخيرة لم تشهد فقط الهجوم على سيارات ومقرات أمنية ومؤسسات عمومية؛ بل أيضا على ممتلكات خاصة تعود إلى أشخاص لا علاقة لهم بأي جهاز أمني”.
وسجّل المصرح لهسبريس أن “مواقع التواصل الاجتماعي تساهم هي الأخرى في الترويج لصورة مغلوطة عن المؤسسات الأمنية بالمغرب، من خلال استغلال بعض التجاوزات والمخالفات الفردية لبعض منتسبي هذه الأجهزة وإسقاطها على المؤسسة بأكملها؛ في حين أن هذه التجاوزات تُتَّخذ في حق مرتكبيها إجراءات تأديبية تصل إلى حد التوقيف النهائي عن العمل والمتابعة القضائية، ولا تمثل الأجهزة الأمنية بأي شكل من الأشكال”.
وأبرز الأمني السابق في صفوف جهاز الدرك الملكي أن “الوعي الجماعي أصبح كفيلا بالتمييز بين الممارسات الفردية المحدودة وبين الدور النبيل الذي تقوم به المؤسسة الأمنية في خدمة الوطن والمواطن”.
قال خالد التوزاني، أستاذ جامعي ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، إن “رجل الأمن جزء من المجتمع المغربي، يعاني من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي يعاني منها غيره من المغاربة؛ لكنه يتحمل مسؤولية كبيرة ويعيش مخاطر يومية، إذ من واجبه حفظ الأمن العام وسلامة الممتلكات وتطبيق القانون، وهو في كثير من الأحيان يواجه مواقف معقدة تتطلب قرارات لحظية صعبة”.
وشدّد التوزاني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، على أن “انفتاح رجل الأمن على المجتمع المدني في السنوات الأخيرة؛ مثل تنظيم الأبواب المفتوحة للأمن الوطني، والأيام الوطنية للسلامة الطرقية التي يقوم فيها رجال الأمن الوطني والدرك الملكي بزيارات للمؤسسات التعليمية، استطاع أن يكسر الحواجز النفسية ويُظهر الوجه الإنساني للمؤسسة الأمنية، خاصة إذا علمنا أن رجل الأمن يتلقى تكوينا لا يقتصر على الجوانب التقنية فقط، بل يشمل أيضا مهارات التعامل مع الجمهور، وفهم السيكولوجيا الجماعية، وثقافة الحوار، وتقنيات التواصل؛ وهو ما نلاحظه في تدبير كثير من المواقف”.
وتابع الأستاذ الجامعي سالف الذكر: “الجيل الجديد من رجال الأمن يتميز بتكوين جامعي متميز، وكفاءة عالية، وأخلاق حسنة؛ ما يجعل هذا القطاع أكثر جاذبية للشباب المغاربة. وأمام هذه المكانة المتميزة لرجل الأمن المغربي والصورة الإيجابية التي يحملها المغاربة عنه، نتساءل: لماذا هناك أيضا صورة سلبية تشكّلت في بعض الفترات؟”.
وأبرز رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي أن “هذه الصورة السلبية جزء من أزمة ثقة أوسع في باقي المؤسسات، ولا تتعلق برجل الأمن وحده، وأسبابها متداخلة، منها بعض الخطابات الدينية والحقوقية التي ساهمت في بناء صورة رجل الأمن كعدو للحريات الفردية أو كحاجز أمام المطالبة بالتغيير”.
ذكر خالد التوزاني أن “رجل الأمن كان دائما في أوقات الاحتجاجات هو من يقوم بالمواجهة مع الشباب، وهذا ما خلق نوعا من التوتر في هذه العلاقة، وأسهمت فيه أيضا ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشباب، والفوارق الاجتماعية، والشعور بالإقصاء. ولذلك، كانت نظرة الشباب من الأحياء المهمشة إلى رجل الأمن مختلفة بشكل كبير عن رؤية الشباب المنتمين إلى أحياء متوسطة أو راقية، هذا إلى جانب الروايات الشفوية التي يتداولها المجتمع حول الأمن، والتي تتضمن كثيرا من المبالغات أو التعميم، وفي أحسن الأحوال تمثل تجارب سلبية لبعض الأفراد مع جهاز الأمن”.
وأوضح رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي أن “وسائل التواصل الاجتماعي لها أيضا أثر في زعزعة الصورة الإيجابية التي يحملها المغاربة عن رجل الأمن باعتباره من يحفظ النظام العام، إلى رجل يمثل العنف والقسوة؛ من خلال نشر مقاطع الفيديو التي تُظهر تجاوزات فردية تنتشر كالنار في الهشيم، وتُقدَّم على أنها “الوجه الحقيقي” للمؤسسة الأمنية، بينما الأعمال اليومية الروتينية التي يقوم بها رجال الأمن في خدمة المواطن لا يصورها أحد، ولا يتحدث عنها الإعلام، رغم أنها تتم في مختلف الظروف الصعبة، وبصورة تحمل الكثير من نكران الذات والتضحية وروح المواطنة”.
وأكد الأستاذ الجامعي ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الرؤية الموضوعية تقتضي أيضا استحضار بعض الأحداث التي كان لها وقع إيجابي، والتي غيّرت هذه الصورة بشكل كبير؛ ومنها حدث وباء كورونا، عندما كان رجل الأمن في الشارع محافظا على حظر التجول ومخاطرا بصحته في سبيل نجاة المجتمع. في تلك الفترة، تكوّنت لدى المغاربة، وخصوصا الشباب، نظرة إيجابية حول رجل الأمن، ويدل على ذلك تزايد أعداد الشباب المغاربة الذين أصبحوا يفضلون مهنة الشرطي أو الدركي، ويشاركون بكثافة في مباريات ولوج هذا المجال”.
وخلص خالد التوزاني إلى أن “رجل الأمن في المغرب يمثل الدرع الواقي للمجتمع والمحافظ على أمنه واستقراره؛ فهو العين التي تحرسه والتي لا تغفل ولا تنام، وتضحي من أجل راحة المغاربة. ولذلك، يحظى رجل الأمن في المغرب بتقدير كبير، مهما حاول البعض الإساءة إلى صورته”.