آخر الأخبار

الكاتب الأمريكي "رايموند كارفر" .. عبقرية قصصية على حافة الخراب

شارك

دخل رايموند كارفر ذات يوم إلى قاعة لتدريس الكتابة الإبداعية مترنحا، تفوح منه رائحة الكحول، قرأ قصة قصيرة عن زواج محطم، وترك نصف الطلبة يبكون قبل أن يغادر وهو يتمايل. وكان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، حين كان قد بدأ النشر بالفعل؛ لكنه كان مفلسا، عالقا في فوضى حياته. لم يعرف طلابه يومها إن كان مصدر إلهام أم كابوسا حيّا؛ لكنهم لم ينسوه أبدا. ذلك هو كارفر: فوضوي، خام، غير قادر على فصل تدميره الذاتي عن الكلمات التي يسكبها على الورق. فكيف تشكلت قصصه؟ وكيف تشكل على مقام القصاصين الكبار؟ تلك هي الحكاية…

رايموند كارفر.. سيّد القصة الأمريكية

في زمنٍ كان الأدب الأمريكي يبحث فيه عن أصوات جديدة تعبّر عن قلق الإنسان العادي، ظهر اسم رايموند كارفر (1938 – 1988) ليغيّر قواعد اللعبة. لم يكن روائيا بالمعنى التقليدي؛ بل حاكٍ كبير للحياة اليومية في شكلها الأكثر قسوة وهشاشة. وبفضل قصصه القصيرة المكثفة، البسيطة ظاهريا والعميقة إنسانيا، استحق لقب “تشيخوف أمريكا”.

وعلى الرغم من رحيله المبكر في الخمسين من عمره، فإن كارفر خلّف أربع مجموعات قصصية أساسية، إضافة إلى مختارات نُشرت بعد وفاته. وكانت مجموعته القصصية الأولى “هلّا تلتزم الصمت، من فضلك؟” (1976). وكانت هذه المجموعة بطاقة تعارفه مع القراء والنقاد، وقد رشحت لجائزة الكتاب الوطني الأمريكي، لتكشف منذ البداية عن صوته المختلف، البارد والنافذ في التقاط هشاشة العلاقات الإنسانية. ثم جاءت المجموعة القصصية الثانية متحدثة عن الحب الملتبس بعنوان “عمّا نتحدث حين نتحدث عن الحب”، (1981). وهنا جاء التحوّل الأبرز، حيث بدا كارفر في أوج قوته التعبيرية. اختزل الحب إلى تفاصيل صغيرة، محادثات متقطعة، وصمت ثقيل بين الأزواج. وقد ألهمت هذه المجموعة القصصية كتّابا وسينمائيين لاحقين، وأدخلت القصة القصيرة الأمريكية مرحلة جديدة من التكثيف والواقعية القاسية.

وبعد سنتين فقط، نشر كارفر مجموعته الأشهر بعنوان “كاتدرائية” (1983). وشكلت هذه المجموعة منعطفا في مسيرته، إذ أظهر فيها دفئا وتعاطفا أكبر مع شخصياته بنقلة إنسانية. اعتُبرت القصة، التي تحمل هذه المجموعة عنوانها، من أعظم القصص القصيرة في القرن العشرين وقدمت نموذجا مختلفا عن نبرته السابقة: أقل قسوة، وأكثر إنسانية.

وقبل رحيله بأشهر قليلة، صدرت في بريطانيا مجموعة “الفيل وقصص أخرى” (1988) وفي الولايات المتحدة نشرت في السنة نفسها مختارات شاملة تحت عنوان “من حيث أتصل”. وجمعت هاتان المجموعتان قصصا جديدة وأخرى مختارة من أعماله السابقة، فبدتا بمثابة وصيته الأدبية الأخيرة.
ولم تنته حكاية كارفر برحيله. ففي عام 2000، صدر كتاب: «اتصل إذا احتجت إليّ: القصص غير المنشورة ونصوص أخرى”، الذي جمع أعمالا لم تر النور في حياته، إلى جانب مقالات وانطباعات نقدية. وفي عام

2009، أعادت زوجته الشاعرة تِس غالاغر نشر النصوص الأصلية لمجموعة 1981 تحت عنوان “المبتدئون”. وكشفت هذه النسخة للقارئ كارفر كما كتب فعلا، قبل أن يخضع لتحرير قاسٍ من محرره غوردون ليش؛ ما سمح لنا بأن نرى الفارق بين الكاتب والمحرر، وبين الصوت الخام والصوت المنشور.

وهكذا، من «هلّا تلتزم الصمت، من فضلك؟» إلى «المبتدئون»، كتب رايموند كارفر قصصا صغيرة عن حياة تبدو عادية؛ لكنها في الحقيقة مرايا لانكسار الروح الإنسانية. ولم يترك روايات كبرى؛ لكنه ترك إرثا قصصيا يُقرأ حتى اليوم كدروس في الاقتصاد اللغوي وعمق الإحساس الإنساني.

ولقد علّمنا أن الأدب العظيم لا يولد من الملاحم الضخمة فقط، بل أيضا من كأسٍ نصف ممتلئة على طاولة مطبخ، ومن صمتٍ يطول بين عاشقين، ومن طائرٍ يحلّق بعيدا تاركا فراغا أثقل من الكلمات.

فصل المقال بين العبقرية والانهيار

بدت قصص رايموند كارفر بسيطة للوهلة الأولى: مطابخ متواضعة، وأزواج يتشاجرون حول منفضة سجائر، وطفل ينزف أنفه، لكن داخل هذه التفاصيل اليومية كان يكمن العنف، والوحدة، ورهافة تمزق القلوب كالزجاج. وما لم يره القراء دوما هو أن تلك القصص خرجت من عمق حياته الشخصية. فقد كان يشرب بإفراط، يتشاجر مع زوجته الأولى، يكسر الأثاث والوعود، ويهدم نفسه. وقال أصدقاؤه إن وقع زجاجات الخمر يمكن سماعه في إيقاع جمله القصصية.

وفضيحة حياة كارفر أنه لم يكن بالإمكان فصل عبقريته عن انهياره، حيث دخل المستشفى مرات عديدة، وألقى محاضرات برؤوس مثقلة بصداع الخمور. أما محرره الشهير غوردون ليش فقد جرد نصوصه حتى العظم، إلى درجة أن كارفر اعترف لاحقا بأنه بالكاد يتعرف عليها. وهنا السؤال الذي ظل يلاحق النقد الأدبي: هل كان أسلوبه “المينيمالي” ملكا له، أم ثمرة مشرط رجل آخر؟ الجدل لم يُحسم إلى اليوم.

ومع ذلك، فعل كارفر ما لم يتوقعه كثيرون: نهض من بين الرماد. وفي الثمانينيات، أقلع عن الشرب، وجد الحب مع الشاعرة تيس غالاغر، وبدأ يكتب بصفاء يشبه نور الشمس بعد سنوات من العتمة. وكان يعلم أن الزمن يلاحقه – فقد كان سرطان الرئة ينمو داخله – لكنه في سنواته الأخيرة أنتج أجمل أعماله وأكثرها إشراقا.

وحياة رايموند كارفر لم تكن مستقيمة ولا منضبطة؛ بل كانت متصدعة، فاضحة، مأساوية. وربما لهذا تحديدا ظلت قصصه قريبة من القارئ: لأنها لم تدّعِ يوما أن الحياة غير ما هي عليه بالفعل – قاسية، عادية، وأحيانا، بشكل معجِز، مغمورة بالنعمة.

البطل الهش.. مقاومة صمت الحياة وثقل العزلة

تشكّل قصص رايموند كارفر مختبرا فريدا لفهم معنى البطولة في الأدب الحديث. ولا يقدّم الكاتب الأمريكي بطلا تقليديا يمتلك ملامح خارقة أو حضورا ساطعا، وإنما يرسم شخصيات من الهامش، أفرادا عاديين يقاومون صمت الحياة وثقل العزلة. وتكمن البطولة هنا في البقاء، في مواجهة اليومي المملوء بالخيبات، وفي القدرة على الاستمرار رغم كل ما ينهار من حولها.

وتتجلى إشكالية البطل عند كارفر في غياب البطولة المألوفة، حيث يصبح السؤال عن ماهية البطل أهم من دوره في الحكاية. فرجل عاطل عن العمل يراقب سقوط زواجه، وامرأة تعود من يوم طويل لتجد نفسها محاصرة بجدران الصمت، وأب متردد في التعبير عن عاطفته تجاه أبنائه. وتكشف كل هذه الشخصيات عن هشاشة البطل وتطرح بديلا جديدا: البطولة في الضعف، البطولة في الاعتراف بالعجز. يقول كارفر في قصة “المبتدئون”: “كانوا يتحدثون عن الحب كما لو كان شيئا ملموسا، شيئا يمكن وضعه على الطاولة، ثم رأيت كيف بدا كل واحد منهم عاجزا عن الإمساك به.”

ويتأسس عالمه على رؤية عميقة للذات. والبطل عنده مرآة مشروخة، يرى نفسه في انعكاس مكسور، ويحاول لملمة شتات هويته وسط انكسارات متلاحقة. ومن خلال ذلك، تتحول الذات إلى ساحة صراع، حيث يواجه البطل ضعفه وتردده، ويواجه أيضا رغباته التي تتبدد. وتكشف هذه الرؤية عن أطروحة كبرى: الإنسان كائن محكوم بالصمت أكثر من الكلام، بالغياب أكثر من الحضور.

وينفتح تصور كارفر على بُعد نفسي شائك، إذ لا يكشف أبطاله عن دواخلهم بقدر ما يتركون القارئ يستنتجها من إشارات صغيرة، من كوب فارغ على الطاولة، ومن نظرة شاردة، ومن همهمة لا تكتمل. وفي قصة “كاتدرائية”، يعيش الراوي لحظة تحول حين يرسم بيد رجل أعمى صورة كاتدرائية على الورق، فيكتشف فجأة معنى الرؤية من دون عيون. وهنا تظهر الحساسية التي يحمّلها كارفر لشخصياته، حيث يتحول فعل بسيط إلى مفتاح لفهم الذات والعالم. ويكتب: “أمسك بيدي وهو يوجّهها على الورق، شعرت أنني أرى للمرة الأولى.”

وتُحكم الخلفية الاجتماعية بوجود أبطال ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة في أمريكا السبعينيات والثمانينيات، حيث نجد أناس يعملون في المصانع أو يعيشون على إعانات البطالة، وأزواج غارقون في الديون، وأسر تبحث عن معنى وسط حياة رتيبة. وتبرز هذه الخلفية البطل ككائن محاصر بظروفه الاقتصادية والاجتماعية، لكنه رغم ذلك يقاوم الانطفاء الداخلي. وهنا البطولة هنا فعل بقاء يومي أمام قسوة الواقع.

وتأخذ الرمزية في قصصه شكلا خفيفا لا يثقل النص؛ لكنها تفتح مساحات تأويل عميقة مثل الطائر في السماء، والكأس الممتلئة نصفها، والكاتدرائية المرسومة على الورق، وهي كلها إشارات إلى ما لا يُقال، وإلى الرغبات التي تتوارى خلف الأشياء. وتمنح الرمزية عند كارفر البطل بعدا يتجاوز حدود اليومي، وتجعل من أبسط التفاصيل إشارات إلى حياة داخلية أغنى بكثير من مظهرها الخارجي.

ويتجلى الدفاع عن القضايا الإنسانية من خلال تعاطف الكاتب مع شخصياته. ولا يحاكم الكاتب أبطاله، بقدر ما يصغي لهم، بمنحهم حق الوجود رغم ضعفهم. ويصف في قصة “أشياء صغيرة”، نزاع أبوين على طفل صغير، وفي لحظة مفصلية يتوقف السرد عند الأيدي المشدودة على الجسد الهش للرضيع، تاركا القارئ أمام صرخة غير مكتوبة. ومن خلال هذا المشهد، تتحول القصة إلى دفاع صامت عن براءة الإنسان في مواجهة أنانية الكبار.

الرؤية بأعين القلب

تكشف أفكار كارفر عن إدراك عميق لثقل العلاقات الإنسانية. ولا يمثل البطل عنده مناضلا ولا متمردا، وإنما فرد يحاول الحفاظ على خيط رفيع يربطه بالآخرين. وتقدم كل قصة صورة مختلفة عن هذا الخيط: في الحب الذي يتداعى، وفي الصداقة التي تصمد رغم البؤس، وفي اللقاء العابر مع غريب يترك أثرا لا يُمحى. وتتمثل البطولة في محاولة الحفاظ على هذا الخيط الهش من دون أن ينقطع.

وتعكس حساسية البطل شعورا بالهشاشة أمام العالم، ومع ذلك، تظل هناك مساحة للأمل. وفي لحظة اكتشاف صغيرة، يطل نور خافت يبدد عتمة الصمت. ويكتب كارفر في قصة “كاتدرائية”: “لم أكن في أي مكان. كنت خارج جسدي. شعرت بأنني أخيرا أفهم شيئا”. وتكشف هذه اللحظة عن أطروحة جوهرية: لا تأتي البطولة الحقيقية من السيطرة على العالم، بقدر ما تأتي من القدرة على الإنصات إلى ما هو أبعد من الكلام.

وفي الأبعاد النفسية، تظهر الاضطرابات الداخلية في صورة عجز عن التواصل أو في إدمان الكحول أو في صمت يلتهم الكلام. وفي الأبعاد الاجتماعية، يتجسد ثقل الواقع الاقتصادي الذي يضغط على العلاقات ويحوّلها إلى مساحات صراع خفي. أما البعد الرمزي، فيحضر عبر الأشياء اليومية التي تتحول إلى علامات على غياب أكبر، مثل زجاجة خمر فارغة أو أريكة مهترئة أو سيارة متوقفة أمام بيت صامت.

ويصبح البطل عند كارفر صورة لذات مهددة بالغياب لكنها تقاوم. ومن خلال هذه الصورة، يدافع الكاتب عن إنسانية بسيطة لكنها عميقة، عن حق الفرد في أن يُرى حتى لو كان عاجزا عن الكلام. ولا تحتاج البطولة هنا إلى أفعال عظيمة، وإنما إلى تفاصيل صغيرة تمنح المعنى للحياة. ويكتب في إحدى قصصه: “فكرت أن الحياة قد تكون على هذا النحو: أن تجلس مع شخص آخر في غرفة صامتة، وتدرك أنك لست وحدك”. وتتجلى بطولة شخصياته في مثل هذه اللحظات الصغيرة، بطولة لا تُدوّن في التاريخ، لكنها تبقى محفورة في قلب القارئ. ومع نهاية مسيرته الأدبية، ترك كارفر صورة مغايرة للبطل الأدبي. وهي صورة إنسان عادي، محطم أحيانا، لكنه يضيء للحظة بقدرته على لمس الآخر. ومن خلال هذه الصورة، فتح بابا جديدا لفهم معنى البطولة في الأدب الحديث.

تظل عوالم الكاتب الأمريكي رايموند كارفر مؤثرة بقدر بدايتها، حيث يكتب: “وأفكر في كل ذلك الحب الذي لم يُقَل، في كل ذلك الكلام الذي بقي في الصدور، وأعرف أن هناك دائما وقتا لنقول شيئا، أن نمد أيدينا، أن نرى بأعين القلب”؛ ذاك هو الكاتب في أبلغ تجلياته وأكثرها شغفا بالإنسانية وأكثرها هشاشة.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا