“مرحلة حرجة” يمر بها سوق الشغل في المغرب وتجمع “بين فرص واعدة ومخاطر بنيوية عميقة”، وفق توصيف تقرير استراتيجي جديد، صدر نهاية شتنبر الجاري عن المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة (مقره طنجة).
وأورد معدّو التقرير، المعنون بـ”سوق الشغل المغربي بين هشاشة الحاضر وفرص الغد”، أنه “بينما يحتفي الاقتصاد الوطني بنجاحات قطاعية، لا سيما في صناعة السيارات، وبدينامية مرتبطة بالاستعدادات لتنظيم كأس العالم 2030، فإن نظرة فاحصة تكشف عن هشاشة مقلقة”، منبهين إلى “اعتماد نموذج النمو الحالي بشكل خطير على تقلبات السوق الأوروبية، كما أن جزءا كبيرا من فرص العمل التي يتم خلقها في قطاعات كالبناء والسياحة والخدمات بطبيعتها ظرفية ومؤقتة”.
وفيما دق التقرير- طالعت هسبريس نسخته الكاملة- ناقوس الخطر بشأن هذه الاعتمادية، خاض في “التحولات طويلة الأمد مثل الذكاء الاصطناعي والتغير المناخي”، خالصاً إلى بسط “التحديات الآنية التي قد تتحول إلى أزمة حادة في المدى المتوسط: فالاعتماد على أوروبا في الصناعة يجعلنا رهينة سياساتها الحمائية والبيئية، والازدهار المرتبط بكأس العالم يخفي وراءه “فقاعة” قد تنفجر بعد عام 2030، تاركة آلاف العمال دون بدائل”.
وتطرق المركز إلى “تحليل القوى التحويلية العميقة: الذكاء الاصطناعي، البيئة، تغير مفهوم العمل”، كاشفا عن تأثيرها على علاقة العامل بصاحب العمل، وعلى “مستقبل الحركة النقابية” أيضا.
واقترح التقرير “توصيات استراتيجية” أبرز أنها تستهدف أفق وتطورات سوق الشغل بالمملكة في أفق العام 2050.
وعلى المدى القصير دعا المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، الذي يضم في عضويته خبراء في الاقتصاد والرقمنة، إلى “خطة وطنية لما بعد 2030 لامتصاص اليد العاملة، مع تنويع الأسواق نحو إفريقيا والأمريكيتين”، وكذا “إحداث صندوق لإعادة تأهيل عمال مراكز الاتصال، وإطار قانوني لحماية عمال المنصات”.
وفي توصياته متوسطة المدى، أوصى بضرورة “إصلاح قوانين الشغل”، مناديا بـ”إحداث ثورة في التكوين المهني والرقمي، مع تعزيز التصنيع المحلي للمكونات الاستراتيجية، ودعم الابتكار النقابي”. أما على مدى أبعد، فأشار إلى أهمية “تجربة الدخل الأساسي الشامل، ودراسة أسبوع العمل من أربعة أيام، وإرساء منظومة وطنية للتعلم مدى الحياة”.
ورصد التقرير وقوف المغرب عام 2025 “أمام مفترق للطرق في سوق الشغل، مع تجاور فرص واعدة مع مخاطر بنيوية مقلقة. ورغم الإنجازات المحققة في صناعة السيارات والاستعدادات الجارية لاحتضان كأس العالم 2030، يبقى النموذج الاقتصادي رهين اعتماد مفرط على أوروبا ورهانات ظرفية، مما يجعله هشًّا أمام التحولات العالمية المقبلة”.
وأشار إلى أن “الأرقام الرسمية تكشف عن معدل بطالة وطني يناهز 13.3 بالمائة، وقفز إلى 37 بالمائة بين الشباب و20 بالمائة لدى النساء، فيما لا يتجاوز معدل النشاط 43 بالمائة، مع مشاركة نسائية ضعيفة (18 بالمائة)”.
وتخفي هذه الأرقام، حسب منجزي التقرير الذي اعتمد بيانات البنك الدولي حول المغرب، أزمة عميقة لأن “ثلثيْ العاملين في القطاع غير المهيكل محرومون من الحماية الاجتماعية، بينما تتفاقم الفوارق الجغرافية، مع ملاحظة مجالية صارخة: تركُّز الوظائف في المدن الساحلية مقابل تهميش المناطق الداخلية”.
واصطدم التقرير بمعطى “اعتماد الاقتصاد الصناعي المغربي بشكل شبه كلي على السوق الأوروبي”، لافتا إلى أن أكثر من 80 بالمائة من صادرات السيارات تتوجه إلى فرنسا وإسبانيا.
هذا الارتباط شكل محط انتقاد منجزي التقرير لكونه “يجعل الصناعة عرضة لسياسات أوروبية صارمة، مثل ضريبة الكربون والتحول نحو السيارات الكهربائية، في ظل ضعف سلاسل القيمة المحلية”.
وحين تطرقه إلى السياحة والخدمات (القطاع الثالثي) نبه المصدر ذاته إلى أن “قطاع مراكز الاتصال بالمغرب يعتمد بنسبة 80 بالمائة على السوق الفرنسي، مما يرفع منسوب هشاشته أمام التشريعات الجديدة في أوروبا”.
كما لفت الانتباه إلى أن “آلاف الوظائف المرتبطة بكأس العالم قد تتبخّر بعد عام 2030 إذا لم توضع خطط استباقية لما بعد هذا الحدث”.
في المقابل يفسح تطور الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي “مجالاً لخلق وظائف جديدة عالية المهارة مقابل اندثار الوظائف الروتينية”، يؤكد منجزو التقرير، مشيرين إلى أن “الاقتصاد الأخضر يمكن أن يخلق نصف مليون وظيفة طويلة الأمد في الطاقات المتجددة والتدبير المستدام”.
ولم يُغفل المصدر ذاته معطى “صعود العمل الحر (فريلانس)” و”اقتصاد المهام”، مضيفا أنهما يطرحان تحدي “تحديث التشريعات لتأمين حماية اجتماعية متنقلة”.
وفي محيط دولي وقاري تشتد فيه التنافسية، “تواجه المملكة منافسة قوية من دول إفريقية صاعدة مثل إثيوبيا وغانا في الصناعات الخفيفة، بينما لم تنجح بعد في استقطاب كبريات الشركات الآسيوية. غير أن البنية المينائية المتطورة توفر لها فرصة للتحول إلى منصة لوجستية بديلة في سلاسل الإمداد العالمية إذا تم الاستثمار في الرقمنة والبنية الذكية”، حسب المركز.
واستشرف التقرير ثلاثة سيناريوهات لتطور سوق الشغل بالمغرب، عادّاً أن مستقبل الاقتصاد الوطني سيبقى رهينًا بقدرة الفاعلين على اختيار “مسار التحول المناسب”.
وبينما يَعِدُ “سيناريو الطفرة” بآفاق مشرقة من خلال دمج التحول الأخضر والرقمي مع إصلاح التعليم والتكوين بما قد يفضي إلى “خلق مليون وظيفة عالية القيمة بحلول سنة 2040″، فإن “سيناريو الأزمة” ينذر بـ”مخاطر جسيمة ناجمة عن استمرار الارتهان للسوق الأوروبي وحده، وما قد يستتبع ذلك من موجة بطالة بعد 2030″.
أما “السيناريو الوسطي”، بتوصيف التقرير، القائم على “بعض التنويع دون إصلاحات بنيوية عميقة”، فلا يعدو أن يكرّس حالة هشاشة مزمنة، تجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات، وتضعف قدرته على مواجهة التحديات المقبلة.
ولم ينسَ معدو التقرير أن ينبهوا إلى “ضعف معدل الانخراط النقابي بنسبة 3 بالمائة، في الوقت الذي تتزايد العمالة المستقلة وعمال المنصات الرقمية”، مشيرين إلى أنه “مع بروز قضايا جديدة مثل الحق في الانفصال الرقمي وحماية البيانات، تجد النقابات نفسها مطالبة بالانتقال من الدفاع إلى الشراكة في صياغة سياسات الانتقال العادل نحو اقتصاد المستقبل”.
وختمت الوثيقة بالقول إن “المغرب اليوم أمام خيارين: إما أن يبقى رهين تقلبات الخارج، أو أن يصنع مستقبله بثقة، عبر تنويع شراكاته، وتعزيز القيمة المضافة المحلية، والاستثمار في رأس المال البشري. إنها لحظة مفصلية لصياغة عقد اجتماعي جديد يَقود التنمية المستدامة ويحمي الأجيال القادمة”.