إلى جانب تنصيب المؤرخ والأكاديمي المغربي عبد الأحد السبتي والأكاديمي التونسي عياض بن عاشور، نصّبت أكاديمية المملكة المغربية، الجمعة، 3 أعضاء آخرين جدد، في جلسة رسمية استقبلت الروائي المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون والأكاديمي الفرنسي جيروم كليمون وكذا الأكاديمي الفرنسي هنري لورنس، وذلك بحضور سفير باريس المعتمد لدى الرباط كريستوف لوكورتييه.
وتمّ تنصيب الخماسي في يوم واحد، استمرارا لجلسات التنصيب التي يعرّف فيها بالأعضاء الجدد، ويمنحون خلالها شارة الأكاديمية، ويلقون درس تنصيب في تخصّصهم بوصفهم أعضاء في أكاديمية المملكة المغربية، وذلك بعد تعيين الملك محمد السادس الأعضاء المقيمين والشرفيين والمراسلين لأكاديمية المملكة المغربية سنة 2023.
في درس تنصيبه عضوا بأكاديمية المملكة المغربية، المعنون بـ”لماذا نحن في حاجة ماسة للكتابة؟”، قال الروائي الطاهر بنجلون إن “المجتمع المغربي، بتعقيداته وتناقضاته، يشكل مادة خاما ثرية للكتابة؛ إذ يجمع بين الجمال والمأساة، وبين الواقعية والحلم”، مضيفا أن “الكاتب ليس فقط ناقلا للواقع، بل صانعه ومؤرخه الداخلي، وأن الرواية بمثابة تاريخ للأمم”.
وفي تحليله للعلاقة بين اللغة والهوية، أوضح بنجلون أن “الكتابة هي ممارسة مزدوجة تجمع بين الانتماء اللغوي والثقافي، وبين ضرورة الإبداع والتحرر”، متحدثا عن تجربته الشخصية بين العربية والفرنسية، قائلا إن اللغة الفرنسية غلبت على العربية في كتاباته، لا لأنها أقرب إلى هويته، بل لأنها مثلت له تحديا إبداعيا.
كما شدد على أن “الكتابة هي مقاومة رمزية في زمن يتراجع فيه القارئ أمام سلطة الصورة والسطحية الثقافية”، مفيدا بأن “الكتابة ليست ترفا، بل ضرورة وجودية في مواجهة الجهل، والنسيان، والفراغ الروحي”، كما سجل أن غياب القراءة عن حياة الأجيال الصاعدة هو تهديد مباشر للوعي والحرية، معتبرا أن “من دون قراءة لا توجد تربية، ومن دون تربية هناك فوضى وجفاف في الروح”.
كما أبرز الطاهر بنجلون أن الكتابة هي مخاطرة وشكل من أشكال الجنون الجميل، لأنها تنبع من أعماق مجهولة، وتحمل في طياتها قلقا وجوديا وشغفا بالتغيير، واستحضر رموزا أدبية مثل روني شار، فيليب سوكول، ورولان بارت، ليؤكد أن الكتابة الجيدة لا تأتي من وضوح العالم، بل من غموضه. وأضاف أن المغاربة، رغم كل شيء، شعب مقاوم ومبدع، وأن الحاجة إلى الكتابة ليست خيارا، بل ضرورة للبقاء والتجدد.
أما الأكاديمي الفرنسي جيروم كليمون فقد أبرز في درس تنصيبه بأكاديمية المملكة المغربية المتمحور حول موضوع “الثقافات والأزمات”، أن الأزمات المعاصرة تؤثر بشكل عميق على هويتنا الثقافية وعلى علاقاتنا مع العالم والآخرين، مضيفا أن الثقافة تشمل مجموع التعبيرات والإبداعات الفنية والفكرية والتاريخية التي تمكّن الإنسان من الانتماء إلى مجموعة معينة، مشيرا إلى تعدد الهويات الثقافية التي يحملها الفرد وتشكل تركيبا معقدا ومتداخلا.
وأضاف كليمون أن العولمة الاقتصادية والتكنولوجية رغم توسعها في مجالات التبادل، تثير مقاومة من الشعوب التي ترى في هذه الحركة تهديدا لهويتها وتقاليدها، قائلا إن هذا الرفض يُبرز أزمات ثقافية عميقة، تتجلى في صراعات مثل أفغانستان وفلسطين وأوكرانيا، حيث يصاحب النزاع السياسي تدمير التراث الثقافي ومحاولات لطمس الهويات الوطنية.
وأكد الفرنسي ذاته، الذي تم تقديمه من طرف الطاهر بنجلون، أن التطورات التكنولوجية الحديثة، وخصوصا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، خلقت فضاء ثقافيا معقدا يصعب ضبطه، مما يزيد من تعقيد التحديات التي تواجه حماية الثقافات المحلية، موردا أن هيمنة شركات كبرى على المحتوى الثقافي تعزز خطر توحيد الثقافات، ما يهدد التنوع الثقافي العالمي.
وذكر المتحدث أن الأزمات البيئية والصحية مثل جائحة “كوفيد-19” وتغير المناخ تفرض تحديات كبيرة على الثقافات والهويات، مشيرا إلى أن هذه الأزمات تستدعي إعادة تفكير جماعي في التعايش بين الثقافات المختلفة، معتبرا أن الثقافة عنصر أساسي لبناء عالم مشترك قادر على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
من جانبه، سجل الأكاديمي الفرنسي هنري لورنس، في درس تنصيبه عضوا بأعلى هيئة فكرية مغربية، أنه “لفهم النظرة الأوروبية القديمة، لا بد من العودة إلى المجتمع الأوروبي الذي كان مبنيا على نظام طبقي هرمي من الشرف والكرامة، حيث تنقسم الطبقات إلى رجال الدين والنبلاء والعامة، مع اختلاف الحقوق والواجبات”.
وقال لورنس في درس بعنوان “الاستشراق، معرفة الآخر وتساؤل حول الذات”، إن “أوروبا كانت تنظر إلى الصين باعتبارها نموذجا استبداديا لكنه متحضر، حيث اعتمد النظام الصيني على نظام امتحانات لتعيين المسؤولين، وهو ما استُوحي منه في أوروبا الحديثة، لا سيما بعد الثورة الفرنسية التي ألغت النظام الوراثي في الوظائف العامة واعتمدت نظام التوظيف على أساس الجدارة والكفاءة”، مبرزا أن “هذه التحولات تمثل تجسيدا لفهم أوسع للعلاقات بين أوروبا والآخر، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا”.
وذكر الأكاديمي الفرنسي أن “الاستشراق ليس مجرد دراسة للآخر كموضوع منفصل، بل هو أيضا طرح تساؤلات جوهرية حول الذات الأوروبية وهويتها”، مضيفا أن “معرفة الآخر تكشف عن تحديات تاريخية وثقافية يجب على أوروبا أن تواجهها بوعي نقدي”، معتبرا أن “الاستشراق يشكل فرصة للتقاطع الحضاري والتبادل الثقافي، ما يعزز فهم الذات من خلال إدراك الآخر في سياق تاريخي متعدد الأبعاد”.