هلْ يمكنُ لكلبٍ ضالٍّ أن يعلّمنا معنى الصُّحبة أكثر مما تفعل كُتُب الرحلات والسّفر؟ وهل تستطيع صورة عابرة في زقاق مغربي أن تفضح هشاشتنا أمام أبسط الكائنات؟ وهل تبقى اللغة بيتًا للروح حين تتحول إلى مأوى للخطابة السياسية؟ ثم ماذا تقول احتجاجات القرى عن الطريق والماء، أليست هي مرآة لجوهر العقد الاجتماعي لا مجرد مطالب تنموية؟ وأخيرًا، كيف استطاع محقّق متعب بسيجارته ومعطفه الرخيص أن يعرّي أرستقراطية الجريمة ويكشف أن الشرّ يتخفّى في تفاصيل الحياة اليومية؟
في أحد أزقة المغرب العتيقة، حيث تختلط رائحة الشاي بالنعناع بأصوات الباعة المتجولين، توقفت سائحة بريطانية لتلتقط صورة. لم يكن أمامها مسجد ولا قصر ولا لوحة فسيفسائية، وإنما كلبٌ ضالّ، مستلقٍ تحت الظلّ، بعينين نصف مغمضتين وهدوء يشبه حكمة الفلاسفة. رفعت السائحة آلة التصوير كأنها تصوّر كائنًا نادرًا. هي، القادمة من بلدٍ الكلابُ فيه مواطنون من الدرجة الأولى، ترى في هذا الحيوان “قصة إنسانية”، وفي جَرْو مُتعب ملحمة عن البقاء. أما المارّة المغاربة، فلم يجدوا في المشهد ما يستحق الوقوف، فالكلاب الضالة هنا جزء من الطبيعة اليومية، مثل الغبار، والصخب، والانتظار.
في تلك اللحظة القصيرة، بدَا أن هناك حوارًا صامتًا بين عالمين: الكلب الذي يحمل على ظهره ذاكرة الشوارع والجوع والعراك، والسائحة البريطانية التي تحمل في يدها عدسة تزيّن القبح وتحوّله إلى “فن” يستحق المشاركة على إنستغرام.
الكلب لم يتحرّك، كأنّه يعرف أنّه أصبح بطلًا عابرًا في حكاية سياحية، كائنًا يرمز للغرابة والاختلاف. ابتسمت السائحة بعد أن التقطت الصورة، ربما لأنها شعرت بأنها لم تأتِ فقط لزيارة الآثار، وإنما لاكتشاف ما لا يُكتب في الكتيّبات السياحية: العلاقة الغامضة بين الإنسان والشارع، بين الحضارة والصدفة. لكن الصورة لم تكتمل؛ إذ بمجرد أن همّت بالرحيل، نهض الكلب كأنّه قرر أن يكون جزءًا من رحلتها.
منذ تلك اللحظة، صار يتبعها. على دراجتها الهوائية وهي تعبر الساحات المزدحمة، ثم الطرق الطويلة وسط الحقول، كان يركض بجانبها، يلهث أحيانًا، يتوقف أحيانًا أخرى، لكنه قرر عدم التخلّي عنها. الليل لم يُثنه، والنهار لم يرهقه، وكأن بينهما عهدًا غير مكتوب: أن يكْملا الطريق معًا.
هكذا، تحوّل الكلبُ في عينَي السّائحة من صورة إلى صديق، من مشهد سياحي إلى رفيق سفر. صارت ترى فيه شيئًا أبعد من الحيوان، مرآةً تكشف هشاشتها هي نفسها، واحتياجها إلى من يذكّرها بأن الرحلة ليست في الأماكن، وإنما في الصحبة. أما هو، فكان يكتفي بالصمت، بالصبر، وبوفاء لا يحتاج إلى كلمات وإلى لغة.
المغاربة الذين شاهدوهُما في الطريق كانوا يبتسمون بدهَشة: كلب ضالّ صار دليلًا لسائحة، يرافقها في المدن والقرى، يعبر الجسور معها وكأنه يعرف الطريق. بعضهم ظنّها صدفة طريفة، وبعضهم رأى فيها علامة غريبة على صداقة لا يفهمها البشر. وعندما جاء وقت العودة، لم تستطع أن تتركه. حملته معها عبر البحر، عبر الحدود، ليصير ضيفًا جديدًا في بلد لا يعرف الضياع ولا الشوارع القاسية. هكذا، تحوّلت لحظة عابرة في زقاق مغربي إلى حكاية استثنائية: عن كلب وجد وطنًا جديدًا، وعن سائحة وجدت صداقة تتجاوز الصور والكلمات.
إذا كانت اللغة بيتًا للكيْنونة كما قال هايدغر، فإن بعض السّياسيين هذا الأسبوع أثبتوا لنا أن البيت قد يتحوّل بسهولة إلى خيمة سيرك. حين نسمع سياسيًا يتحدث عن “تحسن القدرة الشرائية” بينما المواطن يكتشف أن جيبه صار أخف من ريشة في مهب الريح، ندرك أن اللغة ليست فقط أداة للتعبير، بقدر ما هي وسيلة للتمويه. الكلمات هنا تخفي الروح وراء ستار من المصطلحات البرّاقة.
دهشتُنا مضاعفة: فبينما نؤمن أن اللغة تبني واقعًا مشتركًا، نرى السياسي يبني بها واقعًا موازيًا. إنه يستخدم الجملة مثلما يستخدم الساحر قبعته ليُخرج أرنبًا وهميًا من فراغ. بهذا المعنى، تصبح اللغة، بدل أن تكون بيتًا للروح، بيتًا للأشباح. المفارقة أن الشعب يسمع الكلمة بمعناها المباشر، بينما السياسي يقصد بها معنى إداريًّا باهتًا؛ حين يقول السياسي: “إصلاح التعليم”، يفكر المواطن مباشرة في مدرسة مُضاءة ومُعلّم مرتاح، بينما السياسي يقصد “وثيقة من 300 صفحة” تُحفظ في الأرشيف. من هنا يتجلى التباعد الغريب: بيتان مختلفان للغة، أحدهما مسكون بالواقع، والآخر مفروش بالوعود.
اللغة، متى نزحت من بيت الكيْنونة إلى بيت السّياسة، تغيّر جوهرها؛ فهي لا تعود مسكنًا للمعنى، وإنما شبكة من المتاهات. والمفارقة المدهشة التي تكشفها أحداث هذا الأسبوع أنّ بعض الفاعلين السياسيين شيّدوا لأنفسهم “قصورًا فخمة من الكلمات”، بينما تُركت الجماعة في العراء، لا تجدُ حتى كوخًا صغيرًا من الصّدق يقيها برْد الزَّيْف.
في بعض القرى النائية حيث يتجاور الغبار مع الحلم، ويسكن الأمل في بيوت طينية أرهقها الانتظار، تتفجّر بين الحين والآخر احتجاجات صامتة أحيانًا، صاخبة أحيانًا أخرى، مطالبها متواضعة إلى حدّ الفضيحة: طريق سالك، ماء جارٍ، ونصيب من حياة القرن الحادي والعشرين.
ليست هذه القرى مسرحًا للترف الفكري ولا ساحة لمعارك أيديولوجية؛ إنها أرض يختبر فيها الناس معنى الكرامة في أبسط تجلياتها. عندما يحتج الفلاح أو المرأة الريفية أو الشاب العاطل، فإنه لا يطلب مستشفى جامعيًا أو مشروعًا فضائيًا، وإنما يصرخ من أجل شُربة ماء لا تُنقل في براميل صدئة، أو طريق معبدة لا تغلقها الأمطار في كل شتاء.
المغرب الذي أطلق مشاريع كبرى في المدن، من قطار فائق السرعة إلى موانئ عملاقة، ما زال يحتفظ بوجه آخر: قُرى نائية تكاد تكون خارج الزمن. منذ عقود، ظلّ سكان هذه القرى يراهنون على وعود انتخابية موسمية: “سيأتي الماء قريبًا”،” ستُشيد الطريق غدًا”، لكن الغد يتأخر حتى يشيخ الشباب قبل أن يصلَ. هكذا، حين يقطع سكان قرية جبلية عشرات الكيلومترات سيرًا على الأقدام أو على ظهور البغال ليصلوا إلى مقر جماعة أو عمالة، فإنهم يمارسون فعلًا سياسيًا أعمق من خُطب البرلمان؛ إنهم يضعون سؤال التنمية في قلب النقاش العمومي، ويُعيدون تعريف السياسة باعتبارها مسؤولية عن الماء، والطريق، والكهرباء، والمدرسة، والعيادة.
تقول هذه الاحتجاجات الصغيرة في الجغرافيا، الكبيرة في الدلالة، شيئًا قاسيًا: إن الحق في البقاء نفسه صار موضوع تفاوض. حين تجف العيون والآبار، يخرج الناس للاحتجاج لأن حياتهم مرتبطة مباشرة بقطرة ماء؛ النساء اللائي يحملن الدّلاء يوميًا من منابع بعيدة هنّ أول الأصوات التي تتحول إلى احتجاج جماعي. الطريق والماء إذن ليسا “مطالب تنموية” عابرة، إنهما أساس العقد الاجتماعي في هذه المناطق.
على أن الطريق في المخيال القروي هي الأكسجين الذي يربط القرية بالعالم. بدونها تبقى سيارات الإسعاف عاجزة عن أداء مهمتها، والمدرسة بعيدة، والمنتجات الفلاحية حبيسة الحقول. لهذا، فإنّ كل احتجاج قَروي على غياب الطريق هو بكل بساطة إعلانٌ ضدَّ العزلة. صرخة القرى مقاومة ضد التهميش، ومطالبة بالاعتراف. إنها إعلان أن المواطن القروي لا يقبل أن يكون مجرد رقم في تقارير الإحصاء أو مشهد فولكلوري في الحملات السياحية؛ بهذا، تكشف الاحتجاجات الجبلية في القرى أن الطريق والماء جوهر السياسة والتنمية. ومن لم يسمع هذه الصرخات في الزمن المناسب، سيجد نفسه أمام جغرافيا تتحول فيها المطالب البسيطة إلى غضب عميق.
كان لا بد أن أكتب هذا الأسبوع عن سلسلتي المفضلة، تلك التي طالما رافقتني في لحظات السكون والضجر، لكنني أرجأت الكتابة مرارًا، ربما خوفًا من أن تفقد مُتعتها حين تتحوّل إلى كلمات، أو لأنني شعرت بأن الحديث عنها يتطلب صفاءً لا يتوفر كل يوم؛ لذلك، أن أكتب عن سلسلتي المفضلة التي أقضي معها نهايات الأسبوع ليس مجرد تمرين في الحنين، أو طقسا يشبه الاعتراف. حلقة وراء أخرى، من غير ملل ولا فتور، أتابع سلسلة “كولومبو” بمعطفه المهترئ وعينيه نصف النائمتين وهو يفضح بأبسط الأسئلة أكثر العقول دهاءً. ما يدهشني أن الملل نفسه يتبخر مع كل تكرار: الحيلة واحدة، لكن الانكشاف مختلف؛ المجرم يظن نفسه أذكى، لكن “كولومبو” يظل أذكى بصَبْره. أليس غريبًا أن يتحوَّل الروتين إلى متعة، وأن يُصبح التكرار درسًا في الدهشة؟
في زمن امتلأت فيه الشاشات برجال شرطة مفتولي العضلات، وبقصص مطاردات سريعة وسيارات تشتعلُ، ظهر مفتّش غريب: معطفه مُهترئ، سيجارته نصف منطفئة، شعره غير مرتّب، وزوجة يتحدّث عنها كثيرًا دون أن نراها أبدًا.
لكن المفاجأة أن هذا الرجل، الذي يبدو عاديًا إلى حدّ الابتذال، كان يمتلك عينًا ثاقبة تحوّل التفاصيل التافهة إلى مفاتيح للحقيقة. لم يكن يتعقَّب المجرمين بالعنف، وإنما بالدهاء. كان يتركهم يظنون أنهم أذكى منه، ثم فجأة، بابتسامة باردة وسؤال عابر، يضعهم أمام مرآة ذنبهم.
سرّ عبقرية “كولومبو” أنه قلَب مُعادلة السلسلة البوليسية رأسًا على عقب: نحن نعرف المجرم منذ البداية. لا تشويق في معرفة “من القاتل”، وإنما في كيفيّة انكشافه. هكذا يتحول المشاهد إلى شريك في لعبة عقلية، يتابع تفاصيل صغيرة جدًا: باب لم يُغلق جيدًا، كوب موضوع في غير مكانه، أو جملة قيلت في لحظة غير مناسبة. الأعمق من ذلك أن “كولومبو” لم يكن مجرد محقق، كان في تقديري فيلسوفا؛ فهو يعرف أن الشرّ نادرًا ما يكون همجيًا صريحًا، وإنما أنيقًا، متعاليًا، يرتدي بدلة فاخرة ويعيش في فيلا فخمة. “كولومبو”، بمعطفه الرخيص، كان يقف في مواجهة “أرستقراطية الجريمة”، ليذكّرنا بأن الذكاء يكمنُ في الإصغاء، وفي الصبر، وفي الانتباه للتناقضات. إنه يمثل حكمة البَساطة: كيف يمكن لرجل يبدو ضعيفًا، مُهملًا، مملًا أحيانًا، أن يكشف أكثر العقول إجرامًا. وكأن المسلسل يَقولُ لنا: العدالة ليست سيفًا يقطع، بقدر ما هي خيط دقيق من أسئلة متكررة حتى ينهار الكذب من تلقاء نفسه. لم يكن “كولومبو” ينتصر بالقوة، وإنما بالوقت. يطارد المجرم داخل نفسه، لا في الشوارع. وفي كل حلقة، يتكرّر الدرس: الحقيقة لا تختبئ في الظلام، لأنها تكمنُ في تلك اللحظة الصغيرة حين يظن المجرم أنه تخلّص من كل الشبهات. لذلك ظلّ المسلسل، رغم بساطته الشكلية، تحفة تلفزيونية عن الإنسان، والغرور، عن الصبر، وعن انتصار البديهة على المكر.
ما يشدّ هذه الوقائع المتباعدة إلى خيط واحد ليس اختلاف موضوعاتها، وإنما تلك الدهشة التي تُومض من قلبها: دهشة أن يغدوَ الكلب الضَّال رفيقًا للرحلة لا عابرًا مجهولًا، وأن تنقلب اللغة من فضاء تسكنه الروح إلى مأوى تتجسد فيه أشباح المعنى، وأن ترتفع صرخات القرى من أجل قطرة ماء بوصفها صرخة الوجود في وجه الفناء، وأن يفضح رجلٌ بسيط، بعين لا تنام هشاشة أولئك الذين يتقنّعون بالشرّ وكأنهم يتقنّعون بالقُدرة.
وعلى هذا، أليس غريبًا أن يتحول كلب ضالّ إلى مُعَلّمٍ في الصّداقة، بينما تتحول اللغة بين السياسيين إلى قناع يخفي الروح؟ أليس لافتًا أن صرخة قرية من أجل الماء والطريق تكشف عن معنى أعمق للسياسة مما تفعله خطب المدن؟ أليس مدهشًا أن محققًا بائسًا مثل “كولومبو” يعرّي شرّ الأثرياء بمجرد سؤال عابر؟ فهل تكون دهشتنا هذا الأسبوع دعوةً إلى إعادة الإصغاء: إلى الحيوان والإنسان، إلى القرية، إلى الكلمة والسّؤال؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.