تشغل أوضاع المستشفيات العمومية في المغرب الرأي العام الوطني منذ أيام، في ظل ما تعرفه من “اختلالات” في التدبير تسببت في موجة استياء شعبية عارمة، لعلّ أبرزها ما شهدته مدينة أكادير، بعدما أدت الأحداث المتلاحقة إلى إعفاء مدير المستشفى الجهوي الحسن الثاني والمندوب الإقليمي للصحة بأكادير ـ إداوتنان، فضلا عن المديرة الجهوية للصحة بجهة سوس ماسة.
وفي هذا الصدد أعلنت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية عن “إحداث لجان ميدانية لمواكبة إصلاح جميع المؤسسات الصحية العمومية ابتداءً من شهر شتنبر الجاري، وذلك في إطار الجهود الوطنية الهادفة إلى ترسيخ أسس الدولة الاجتماعية وتعميم الحماية الاجتماعية، وضمان الحق في خدمات صحية ذات جودة”.
وبحسب ما جاء ضمن دورية للوزارة، وُجهت لمسؤوليها الإقليميين والجهويين ومديري المراكز الاستشفائية، فإن هذه اللجان “تهدف إلى دعم المستشفيات العمومية تقنيا وإداريا، ومساندة الفرق الطبية والإدارية في إرساء دينامية التحسين المستمر، وتطوير أساليب التدبير والحكامة بما يستجيب لتطلعات المواطنين”.
“تضم هذه اللجان ممثلين عن مختلف المديريات المركزية والجهوية والإقليمية، وستعمل على تقييم الأداء وتقاسم التجارب الناجحة وكذا تعميم الممارسات الفضلى، إلى جانب المساهمة في تنفيذ الإجراءات التصحيحية عند الحاجة”، يقول المصدر ذاته، مفيدا بأن محاورها تشمل “تطوير الحكامة والتدبير الإداري والمالي، وتحسين مسار المريض وظروف الاستقبال والإقامة، ثم ضمان جودة وسلامة العلاجات وتوفير الأدوية، زيادة على توفير التجهيزات الطبية وصيانة البنيات التقنية”.
ومن المرتقب أن تعمل اللجان ذاتها على “تحديث أنظمة المعلومات وتدبير المعطيات، وتعزيز العلاقة مع المرتفقين، وفتح الحوار الاجتماعي مع الشركاء المعنيين، على أن تُعِدَّ، بعد كل زيارة ميدانية، خطة للتحسين المستمر بتنسيق مع الفرق الاستشفائية، تتضمن الأولويات والإجراءات العملية وآجال التنفيذ وآليات التتبع والتقييم”.
الدورية ذاتها ذكرت أن “وزير الصحة والحماية الاجتماعية سيقوم بزيارات دورية لمتابعة أعمال هذه اللجان عبر مختلف جهات المملكة، والوقوف عن قرب على التحديات والارتقاء بجودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنات والمواطنين”.
انطلق النقاش العمومي الدائر حاليًا بالمغرب من أكادير، حيث كان الحديث مستمرا عن الحالة الصعبة للمستشفى الجهوي الحسن الثاني، بالنظر إلى احتياجاته التقنية واللوجستية وضغط الإقبال عليه؛ وهو ما يرجح أنه كان وراء وفيات يجري حاليا التحقيق بشأن حيثياتها قبل إحالة النتائج النهائية على النيابة العامة، وفق ما أكده الوزير أمين التهراوي.
ومنذ أيام استنفرت الوزارة الوصية على القطاع مصالحها للقيام بزيارات ميدانية إلى عدد من المستشفيات الجهوية والإقليمية، سواء تعلق الأمر بجهة سوس ماسة أو العيون الساقية الحمراء، أو إقليمي الناظور والدريوش (..) سعيا منها إلى الوقوف على مستجدات العرض الصحي بها وجودة الخدمات المقدمة لعموم المواطنين.
وشرح مصدر مطلع لهسبريس أن “هناك سعيا حثيثا من أجل جرد الاختلالات التي تعاني منها المستشفيات العمومية بالمملكة، في أفق تقديم حلول مستعجلة وأخرى على المديين القريب والبعيد، مع توقع اتخاذ قرارات صارمة”.
ويخلق توالي هذه الزيارات حالة من الترقّب في صفوف مهنيي الصحة والمسؤولين عن إدارة المراكز الاستشفائية العمومية، وكذا المسؤولين الجهويين والإقليميين، بالمناطق التي مازالت تنتظر زيارة الوزير من جهة، واللجان الميدانية من جهة ثانية.
وفي مقابل التحركات الرسمية لا يُخفي عدد من المغاربة سخطهم حيال ما آل إليه العرض الصحي بعدد من الجهات، وسط ترقب “تحسّنه” عند افتتاح الجيل الجديد من المستشفيات الجامعية التي تم بناؤها مؤخرا أو التي تنتظر انتهاء الأشغال.
ومرد هذا السخط إلى مجموعة من الاختلالات المسجّلة ميدانيا، بداية بالتوزيع المجالي للمؤسسات الصحية، ونقص التجهيزات والمعدات الطبية اللازمة داخلها، وتحديدا بأقسام المستعجلات، زيادة على طول مواعيد الفحص والاستشفاء والغياب غير المبرر لمهنيي الصحة، فضلا عن تدني جودة الخدمات التي تقدمها شركات المناولة المتخصصة في الحراسة أو في النظافة.
وأكدت عدد من الهيئات الحقوقية متابعتها هذه المستجدات التي تهم واقع الصحة بالمغرب، على اعتبار أن الأمر يتعلق بقطاع حيوي وأساسي يرتبط مبدئيا بضمان الحق الدستوري في الصحة (الفصل 31 من دستور 2011).
وتتفق توضيحات هذه الهيئات على وجود عدد من الاختلالات بقطاع الصحة بالمغرب، ما يجعل الدولة، بحسبها، ملزمة بتقوية العرض الصحي العمومي، من خلال الرفع من ميزانيته السنوية (بلغت 32,6 مليار درهم في 2025)، والرفع من تكوين الأطباء والممرضين والتقنيين، مع ربط المسؤولية بالمحاسبة واعتماد الحكامة في ما يتعلق بالتعيينات.
من منطلقه رئيسًا للعصبة المغربية لحقوق الإنسان قال عادل تشيكيطو: “إن ما يشهده قطاع الصحة، اليوم، لم يكن مفاجئا، فقد سبق لنا أن نبهنا إلى حجم الاختلالات البنيوية التي يتخبط فيها هذا القطاع؛ آخرها ما جاء في الرسالة المفتوحة التي وُجهت إلى وزير الصحة بمناسبة اليوم العالمي للصحة”، مبرزا أن “الاختلالات المرصودة تشمل ضعف الميزانيات ونقص التجهيزات، فضلًا عن غياب الحكامة(..)”.
وأضاف تشيكيطو، في تصريح لهسبريس، أن “الإجراءات يجب أن تشمل ثلاثة مستويات، بداية بالتنصيص التشريعي على التزام الدولة بضمان حق المواطنين في الصحة، باعتباره حقا دستوريا، وكذا إرساء آليات محاسبة شفافة، فضلا عن ضمان استقلالية الجهات الرقابية”.
وسجّل المتحدث ذاته “الحاجة الملحة إلى رفع ميزانية قطاع الصحة إلى الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، مع إرفاقه بإصلاحات هيكلية تشمل التكوين الجيد والتوزيع العادل للموارد البشرية الصحية”، مبرزًا أن “بناء المستشفيات لن يحل المشكلة القائمة، ما لم يُرفق بدوره بالحد الأدنى المطلوب من هذه الموارد”.
وتابع الحقوقي ذاته شارحًا: “جولات وزير الصحة بجهات المملكة رغم كونها تبعث برسائل طمأنة للمواطنين إلا أنها تظل بمثابة إجراءات ظرفية ذات طابع رمزي. والمطلوب هو بدء إصلاحات عميقة على المديين المتوسط والبعيد، مع القطع التام مع منطق الارتجال والفساد، زيادة على إقرار سياسة وطنية شاملة تضع الحق في الصحة في صلب أولويات الدولة”.
يرى علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، أن “ما وصلت إليه الخدمات الاستشفائية العمومية بأكادير ليس بحالة خاصة أو شاذة، على اعتبار أن الأمر ينطبق على عدد من المدن المغربية التي تنتظر، هي الأخرى، تدخلات على أعلى مستوى”.
وقال لطفي لهسبريس إن “الصحة العمومية بالمغرب تعيش على وقع خصاص كبير في الموارد البشرية والمالية، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بتخصيص نسبة محددة من الناتج الداخلي الخام لهذا القطاع، وهو ما لا يتحقق لدينا في المغرب مع الأسف”.
وأكد المتحدث أن “الزيارات الجهوية للوزير محمودة ومستحسنة، غير أن الوضعية تستدعي إعادة النظر في السياسة الصحية العمومية المتبعة، ما دام أن هذا القطاع يعيش واقعا صعبا، ما يجب أن يدفع الوزارة إلى إعادة النظر أيضا في سياسة التعيين في مناصب المسؤولية، إذ يجب أن تُقترن بمبادئ المسؤولية والمحاسبة والكفاءة، طالما أن الواقع بيّن أن بعض التعيينات لم تكن موفقة”.