سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي
الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.
في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.
بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.
الحلقة الأولى.. من الانتظار الطويل إلى رحاب البيت العتيق
مقدمة السلسلة
1- نصوص في فريضة الحج:
قال تعالى: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ” (الحج: 27-28).
وَقَوْلُهُ جل وعلا: “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا” (آل عمران:97).
وكذلك قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: “وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ” (البقرة: 196).
ومن الأحاديث النبوية:
– عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: “خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، فَحُجُّوا، فَقَالَ رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ”.
– “بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا”.
– “الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم”.
2- ذهابي للحج بعد سنوات من الانتظار:
استجاب الله لدعواتي المتواصلة فكتب لي أداء فريضة الحج هذا العام (1446) والحمد لله رب العالمين، بعد 14 عاما من المشاركة في القرعة والبحث عن إمكانية الحج من خلال قنوات أخرى خصوصا في خارج البلاد والتي باءت كلها بالفشل.
طبعا، تجربة الحج تجربة فريدة، فهي رحلة العمر، وفاصل بين مرحلتين إذا تقبلها الله وإذا لم تنعم بالقبول –لا قدر الله- تكون وصلا لما سبق واستمرارا له.
لهذا، ارتأيت أن أتقاسم تجربتي الشخصية، وأنشر انطباعاتي ومشاعري وملاحظاتي ومقترحاتي، لعلها تكون مفيدة للجميع، لي وللمقبلين على هذه التجربة وللقيمين على تدبير وإدارة شعيرة الحج.
وقبل أداء الفريضة بحوالي سبعة أشهر قمت بأداء العمرة، وكنت أنوي نشر يومياتي، تحت عنوان “يوميات معتمر مغربي”، لكني ترددت في ذلك في الشهور الأولى ولم أفعل، وقررت عدم النشر بعدما اقترب موعد الذهاب للحج.
وللعلم، فأنا أدون كل تجاربي ورحلاتي، ونشرت عددا منها في كتب، أهمها كتاب “السلوقية أولا.. قصة نضال لإنقاذ محمية طبيعية بمدينة طنجة” في عام 2024، وكتابي الأخير الذي صدر في 2025 “قصتي مع التراث.. مقاطع من السيرة الذاتية للمؤلف التي لها علاقة بالتراث” والتي هي خلاصة ليومياتي ومذكراتي في مختلف المجالات التي عشتها واشتغلت فيها.
كنت حريصا على أداء الركن الخامس للإسلام منذ تحققت الاستطاعة، بأنواعها الثلاثة: الاستطاعة المالية والاستطاعة البدنية وأمن الطريق والسفر، ولا أكتفي بإعلان النية، بل اتخذت كل الأسباب المتاحة من أجل بلوغ المراد، مع الإلحاح في الدعاء.
كنت أحزن كثيرا إلى درجة البكاء، كل عام فاتني فيه أداء هذه الفريضة، خصوصا لما كنت أتابع على التلفزيون مشاهد الوقوف في عرفات وباقي المناسك. لكني كنت راضيا بقدر الله مطمئنا بل متيقنا بأن الله سيكتب لي أجر هذه الفريضة إذا قبضني إليه، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”.
وكنت عند الدعاء متيقنا بالاستجابة، بل إنني عند عودتي من العمرة ودعائي فيها بأن يردني إلى ذاك المقام العظيم حاجا مرة أخرى، كنت أردد كثيرا على أهلي بأن الله سيكتب لنا الحج في هذا العام.
تحقق الحلم، واستجاب الله لدعائي، فله الحمد والشكر، وأسأل الله القبول، الذي هو المبتغى من الأعمال الصالحات.
فمن خلال تجربتي، أوصي:
– أولا، بأن يبادر كل مسلم إلى أداء الركن الخامس للإسلام كلما تحققت الاستطاعة،
– ثانيا، بالذهاب إلى العمرة قبل الحج بسنوات أو قبيل الحج، ذلك يجعل الحج ميسرا، وشخصيا لم أجد الأماكن في الديار المقدسة غريبة عني لأني زرتها من قبل ولم أجد صعوبة في أداء المناسك لأنني أديت أغلبها في العمرة،
– ثالثا، بعدم إهمال الدعاء والتضرع إلى الله لكي يكتب له أداء هذه الفريضة، وأن يكون الدعاء بتيقن الاستجابة. ومن الأفضل أن يكون الدعاء بهذا الأمر في الأماكن المقدسة خلال أداء العمرة، فمن خلال التجربة تكون الاستجابة سريعة عند الدعاء في هذا المقام، وأذكر ثلاث حالات لهذه الاستجابة: لي وللوالدة قبلي ولأحد الأصدقاء بعدي الذي عمل بنصيحتي.
3- لماذا السلسلة:
السلسلة هي عبارة عن تذكير بمناسك الحج، تعريفا وشرحا، وسرد للظروف التي أديت فيها الفريضة، وتقديم لبعض المقترحات من أجل تحسين الخدمات في المستقبل.
طبعا، لا مجال للمقارنة بين مواسم الحج السابقة والمواسم الأخيرة، فهناك تطور وتحسن مستمرين، تجهيزا وتنظيما، سواء من قبل السلطات السعودية أو من قبل السلطات المغربية.
كما أنه يمكن اعتبار موسم 1446 هو أفضل موسم للحج، فلم تسجل فيه الحوادث التي كانت تقع في الماضي وينتج عنها ضحايا بأعداد كبيرة، كما تميز بعدم وجود مشاكل تحول دون أداء المناسك بيسر.
والسلسلة سأنشرها، إن شاء الله في 17 حلقة، وذلك كالتالي:
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ
* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية