ملاحظة أولى: لا تعنينا في هذا المقال تلك النظريات التي تنفي وجود إبراهيم ويوسف ويعقوب، بل وموسى وكذا وجود العهد العتيق، ولا تعنينا أيضاً تلك التي تختلف حول مكان مهبط اليهودية، الذي يعنينا هو الرد على دعوى في كتاب يؤمن به صهاينة اليوم كما هو، لنبين هل ما ادَّعَوْه هو الحقيقة أم لا.
فشلنا في الدفاع عن القضية الفلسطينية، نحن العربَ، لأننا ندافع عنها بعجز معرفي غير مفسر وغير مقبول. ونريد في هذا المقال الذي سبق أن نشرنا بعضاً منه أن نفك هذا الطوق المعرفي، لعل عملنا هذا يعين على فهم هذه القضية القديمة الجديدة، المؤلمة إلى أبعد الحدود. وهنا ينحصر عملنا نحن، وهو عمل لا يمثل اجتهاداً منا، وإنما هو قراءة متأنية لما جاء في “التوراة” التي يقرؤها الصهيوني الإسرائيلي كما يريد. في حين نريد نحن العرب الدفاع عنها دون قدرة لنا على تبيان حقيقتها. ونأمل أن يتلقف السياسي العربي إيماءات ما ورد في هذه السطور عندما يكون في منبر الدفاع، بحيث لا يكتفي بالاحتجاج على ما قاله فلان أو علان ممن يدعي ما ليس موجوداً في كتاب، وإنما يكون الدفاع بأمر معرفي لا مشاحة فيه، يستوجب رد القوى بالقوى ولو في ميدان الحقوق والمعرفة إذا لم يستطع غير ذلك.
وردت الإشارة إلى “الأرض الموعودة”، مراراً، في صيغ متعددة، في التوراة، منها ما وعد به الربُّ إبراهيمَ ونسلَه، ومنها ما خص به الربُّ إسحق حيث كلمه، أو ما خص به موسى ويشوعُ بني إسرائيل، كما كلمهما الرب. ويظهر أن تلك التي كلم الرب فيها إسحق أو يعقوب أو يشوع هي زيادات، لأن الرب لا يكلم إلا نبياً واحداً مما يقتضيه السياق هنا. وجل هذه النصوص لا توضح للأرض حدوداً أو امتداداً أو هي في ذلك مختلفة. وذلك في سفر التكوين وسفر التثنية وسفر يشوع وسفر إشعياء، في العهد العتيق، وفي بعض المصادر المسيحية كـ”الرسالة إلى العبرانيين” مثلا.
ويفهم من سياق النصوص أن امتداد الأرض الموعودة لا يتعدى بلادَ كنعان التي هي أكثر شساعة، وكانت منحصرة في فترة إبراهيم المشار إليها، في بلاد (فلسطين) التي وعد بها الرب كل نسل إبراهيم؛ حيث انتقل إبراهيم إليها من مدينة “أُورْ” في العراق القديم، مجتازاً نهر الفرات نحو الشمال، ثم انعرج إلى الجنوب نحو شكيم القريبة من القدس، ورحل هروباً من المجاعة إلى حين، إلى مصر. ولا يوجد في التوراة ذكر لرحلة سيدنا إبراهيم إلى الجزيرة العربية على الإطلاق.
رحلة إبراهيم من العراق إلى فلسطين “وعداً” ومصر رحلةً. (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص. 33، 34)
هكذا ورد ذكر “الأرض الموعودة” في المواضيع المختلفة في القسم الأول والثاني من كتاب العهد القديم المؤلَّف من ثلاثة أقسام: التوراة، الأنبياء، المكتوبات. ومعلوم أن نص العهد القديم هو نصوص متعددة متداخلة، جُمعت من موروثات شفوية في أزمان مترامية، كما أوضح ذلك عِلمُ نقد العهد القديم الذي كان فاتحتُه ابنَ حزم، وزاده وضوحاً أولُ فيلسوف يهودي، وهو باروخ سبينوزا، ثم عمقته المدارس النقدية الي ظهرت في ألمانيا وفرنسا وإنـﮕلترا… في ما بعد وإلى اليوم؛ ومن بين أعلامها يهود ذوو اطلاع عميق على العهد القديم وتاريخه، وفيهم يهودٌ درسنا على أيديهم في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (INALCO) والمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (E. P. H. E) السوربون باريس. ويكفي أن نشير إلى بحوث أعلام مختصين من “مدرسة علوم العهد العتيق والأركيولوجيا”، الفرنسية، التي أسسها في القدس الأب Marie-Joseph Lagrange سنة 1890، وهي l’École biblique et archéologique، للدلالة على ما صدر في هذا الموضوع من مؤسسة لاهوتية ذات مصداقية علمية عليا.
خريطة إسرائيل الكبرى كما قدمها مؤخراً نتنياهو والصورة نفسها على عضد جندي إسرائيلي مكتوب عليها بالعبرية ארץ ישראל המובטחת: “أرض إسرائيل الموعودة” (نقلا عن ﮔوﮔـل).
والأهم هنا أنه رغم اختلاف النصوص الدال على عدم اتفاقها والزيادة فيها فإنها كلَّها تحدثت عن نسل إبراهيم، بعبارة: “سأعطي نسلك هذه الأرض…”. والخطاب هنا في التوراة موجه لسيدنا إبراهيم، ونسلُه لا يَخرج عن إسماعيل ونسلهِ أولا، فهو الابن البكر، وبعده ابنه إسحق. وهناك نصوص أخرى تعيِّن النسل في إسحق أو يعقوب، وهي مُزادة، والدليل على زيادتها تضاربها. وحتى مع هذه النصوص يبقى إسماعيل داخلا في النسل، بدليل ما ورد في سفر التكوين: “… وَاسْمَعْ [خطاب الرب لإبراهيم] لِكَلاَمِ سَارَةَ فِي كُلِّ مَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ لأَنَّهُ بِإِسْحقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَةِ [إسماعيل] أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ” (اصحاح -21: 12). جاء التأكيد هنا للحفاظ على حق إسماعيل في إرثه كاملا، لأن سارة لم تطرد جاريتها أُمَّ إسماعيل إلا خوفاً من تقاسم الإرث بين إسماعيل وإسحق. جاء في الإصحاح نفسه: “اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ” (21: 10). أخرج إبراهيم سارة وصرفها وتاهت في برية بئر سبع. (تكوين 21: 14).
ويتأكد حق إسماعيل في الإرث لأن شرط العهد جار عليه، وهو الختان، فقد جاء في سفر التكوين: “10 هذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي [الرب] وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ [الخطاب لإبراهيم] مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ،11 فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُم”ْ (17: 10-11). ولا يتم الاستئصال من النسل إلا بترك “الختان”. جاء في التوراة: سفر التكوين: “14 وَأَمَّا الذَّكَرُ الأَغْلَفُ الَّذِي لاَ يُخْتَنُ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا. إِنَّهُ قَدْ نَكَثَ عَهْدِي” (إصحاح 17″ 14).
ويظل إسماعيل ضمن العهد بحجة أخرى، وهي صفة “عبري” التي تناسها تاريخ بني إسرائيل. فقد لُقِّب إبراهيم بـ”العبري” نسبة إلى جده السادس “عابر” المذكور في التوراة، حيث جاء: “إبراهيم بن تارح ابن ناحور ابن ساروغ ابن أرغو ابن فالغا بن عابر… “؛ وقيل كذلك إنه لقب بـ”العبري”، لكونه عبر نهر الفرات في رحلته إلى فلسطين. وبما أن إسماعيل من نسل إبراهيم الموصوف بـالعبري فهو أيضاً “عبري”؛ فالنسل يشرك أبناء إبراهيم كلَّهم العبريين في الأصل والإرث، ويشركهم أيضاً في الصفة، وجدهم الأعلى هو “عابر”. أما خَصُّ إسماعيل بصفة “عربي” فقد خصته به التوراة، مع أنها سكتت عن سبب ذلك أصلا ولم تشر إليه، عندما لم تذكر رحلة إبراهيم إلى الجزيرة العربية وارتباط نسل إسماعيل بها؛ وفي جميع الحالات فمحرر التوراة نسبه إلى أُمه، وهي ليست عربية (مصرية)، لأن اليهودية تَنسِب إلى الأم وليس إلى الأب، ليُنهي الأمر، كما في حالة أخرى أبعد فيها محرر التوراة أبناءَ موسى عن إرثهم المعنوي، لأن أمهم عربية. وهذا حديث آخر تناولناه في مكان آخر.
هناك فرضية ثالثة تجعل أصول “العبريين” تعود إلى أقوام غزوا مصر، وهم “الحَبِرُو/العبرو”، وهي تخالف ما جاء في العهد العتيق. وإذا كانت هذه صحيحة يكون الصراع حول مَن يملك فلسطين عبثاً في أصله. ونحن لا نرى هذا الرأي، وإنما ذكرناه لأن عملنا أكاديمي لا يهمل أي عنصر من عناصر القضية التي يناقشها.
ويتضح لنا من كل هذا أن التوراة لم تَخُص بني إسرائيل وحدهم بـ”أرض موعودة”، لأن إسماعيل من نسل إبراهيم بوصفه أباً أعلى، وبوصفه عبريا. ومن المنطقي أن يجري وصف “عبري” على أسماعيل أيضاً.
انطلاقاً من هذه القراءة التوراتية التي فصلت في أمر النسل يلزمنا أن نبين أمر قضية أخرى ترتبط بهذه، وهي: هل كل اليهود في فلسطين اليوم من نسل إبراهيم وإسحق؟.
الواقع أن كل اليهود الموجودين اليوم في فلسطين لا ينسبون إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ فقد خرج من مدينة “أور” العراقية، وهي أصله، كما جاء في التوراة، وفي خاتمة حياته استقر بـ “حبرون” التي معناها بالعربية “الخليل”، ويدل اسمها على أنها لم تسم بهذا الاسم “حبرون” أيام الخليل، لأن العبرية لم تكن موجودة إذ ذاك، فهي ترجمة لأصلها الإبراهيمي بعد عهود طويلة. وحفيدُ إبراهيم يعقوب طاب له المقام في مدينة جاسان المصرية التي تقع شمال النيل عند تفرعاته، بعد أن دعاه ابنه يوسف مع أهله. ولما جاءت دعوة موسى، ودخل يشوع أرض فلسطين، تهود من العبرانيين من تهود، وتهود مَن مِن الأصول الفلسطينية من تهود. (وهم المسكوت عن تهودهم للتلبيس على حقهم بأصولهم اليهودية في فلسطين). ومن هذه المجموعة كان اليهود السفرديون الذين هم من قدماء العبرايين.
أما الفرع المتهود “الإشكناز”، وهم الذين يكونون الطبقة الحاكمة المستبدة بالأمور اليوم، فلا علاقة لهم بفلسطين التاريخية أصلا، كما يدل عليه التاريخ، واسمهم “إشكناز” الذي يعني في أصل اللغة “ألمانيا”. وعُمم اللفظ ليطلق على كل يهود أوروبا. وأصول كل هؤلاء ترتبط في البدء بمجموعات من سكان آسيا- أوروبا، وخصوصاً منهم “الخزر” الذين قطنوا القوقاز على امتداد شمال ما بين بحر قزوين والبحر الأسود، (جنوب الأراضي الروسية حاليا). وفي القرن الثامن الميلادي تهود ملك هؤلاء الخزر فتهود معه شعبه، وهم أصل “الإشكناز” ومن التحق بهم من متهودي أوروبا؛ وهم يهود ديناً وأوروبيون-أسيويون مَوَاطِنَ لا مشاحة في الأمر؛ والسماح لهم بالعودة المطلقة إلى فلسطين، الذي يعني إعطاء الحق في وطن بمجرد الانتساب إلى دين، هو الأمر غير الطبيعي الذي لم نناقشه في يوم من الأيام بعقل ونظر في النصوص اليهودية نفسها، ونظرٍ في أصول وأنساب من تهودوا. إننا ننبه من له أدنى مسؤولية إلى أن هذا الأمر الملتبس بهذا الشكل هو الذي أضر ويضر بالمؤمنين بالأديان الثلاثة، في أي أرض كانوا، ويصيبهم بجميع أنواع الأذى؛ ذلك أن عامة الناس لا تستطيع التفرقة بين اليهودي ديناً والصهيوني مذهباً، تخاصمه سياسياً.
وبسبب هذا الخلط الذي سعت إليه الصهيونية كان البلاء الذي أضر باليهودي المؤمن بيهوديته ديناً بعيداً عن مكر السياسية. وكيف ما كان الحال نضع السؤال: أليس ما نراه في قانون العودة الإسرائيلي، الذي يُخَوِّل لكل يهودي في العالم أن يحصل على الجنسية الإسرائيلية والمواطنة في فلسطين لمجرد كونه يهوديا- رغم ما بيناه من ملابسات في علاقة بني إسرائيل بفلسطين- هو بناءُ وطن من دين؟ بل الأكثر من ذلك تسير إسرائيل في الاتجاه المعاكس، إذ تعتبر الدين وطنا، فهي تجعل كل رعايا دول العالم اليهود رعاياها هي، لأنهم يهود.
فيكون اليهود لها في دولتها ودول الناس. وبموجب ذلك تتدخل في سيادة هذه الدول كلما اقترف يهودي فرنسي أو مصري أو إنجليزي جريمة في الحق العام، ليكون لها وحدها الحكم له أو عليه، وهي في كل الأحوال تعتبره بريئاً، وكأن البراءة صارت مرتبطة بالدين اليهودي، مع أن من تتدخل في شؤونهم لا علاقة لهم بالدين كفعل في حياتهم كأفراد، ولا نريد ضرب الأمثلة فهي كثيرة. أمر لا يتمثل اليوم إلا في إسرائيل وحدها نظرياً، وتريد حسب عديد من المفاوضات، ومنها مفاوضات سبق أن وقعت في شرم الشيخ، أن تحققه وإلى الأبد على أرض الواقع.
وليس علينا أن ننسى بعض مجريات هذا الاتجاه المعاكس، الذي عبر عنه تصريح كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، في شهر سبتمبر 2003، إذ قال: “إن الأمة الأمريكية مســيحية يهودية”. وكان الأمر سيكون طبيعيا لو قال: “ذات ثقافة مسيحية يهودية”، وكان الأمر سيكون طبيعياً أكثر فأكثر لو أضاف “وإسلامية”، لأن عدد المسلمين في الولايات المتحدة أكثر من عدد اليهود، أو أضاف و”بودية”… وعدَّدَ الأديانَ الموجودة في الولايات المتحدة أيضاً! وكيفما كان الحال لو كان الدين وطنا لطالب بقية الخلق بأربعة أماكن في الدنيا لا غير؛ فيطالب البراهمة بالمواطن التي بين ضفتي نهري “الهندوس” و”الكانج” في الهند، ويطالب أتباع بودا بأدغال النبال، ويطالب المسيحيون بمذاهبهم بمدينة الناصرة، وبالضبط في فلسطين، وهم وحدهم ولا غير، لأن سيدنا عيسى ولد حقاً في بيت لحم بفلسطين، وتلقى الرسالة حقاً في فلسطين.
ولو كان الدين وطناً لطالب كل المسلمين بجميع مذاهبهم بالعود إلى مكة. ومن البين أن فكرة “الدين الوطن” عند الصهاينة تختلف كل الاختلاف عن مفهوم بلاد الإسلام. فالمراد من التعبير الأخير أن تكون العقيدة هي الجامعة في أوطان متعددة تختلف أجناساً وشعوباً وحدوداً ومذاهب سياسية ولغات أيضاً، والجامع بينها هو وحدة المعتقد وأخلاق الإسلام. وما يؤكد هذا ما ثبت في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بعد فريضة حج قال: “يا أهل اليمن يمنَكم، ويا أهل الشام شامَكم، ويا أهل العراق عراقَكم”، يحث الذين أرادوا الاستقرار في مكة من الحجاج على العود إلى ديارهم حتى لا يكون الدين وطناً.
وبعد، فهل كانت فلسطين أصلا مهبطاً لدين اليهودية لتكون له وطناً؟.
ولْنَعُدْ قليلا إلى الورى في التاريخ القريب، حيث ألح مسؤولو إسرائيل في قمة شرم الشيخ المنعقدة في 6/3/ 2003 على إثبات أن “إسرائيل [في فلسطين] دولة يهودية”. ففي صبيحة الثلاثاء الأربعاء (7/3-8/3/2003) (في خضم القمة) سألت مذيعة من الـ(B.B.C) أحد المحللين السياسيين الإسرائيليين عن أصعب القضايا في نقاش شرم الشيخ فأجاب المحلل: “اثنتان: 1 المستوطنات، وهي أمر سهل – ولا ندري نحن كيف، اللهم إذا كان الأمر يعني اعتبارها واقعا لا يتغير- و2 عودة اللاجئين، وهذه لا يمكن لإسرائيل أن تتنازل فيها عن شيء مهما كان”. -المذيعة: “لماذا؟” – المحلل: “لأنها ستغير من ديموغرافية إسرائيل”. -المذيعة: “ومهاجرو أوروبا وغير أوروبا اليهود، ألم يغيروا من ديموغرافية فلسطين؟”. -المحلل: “اليهود ليس لهم إلا وطن واحد، ولهم الحق في أن يعودوا إليه متى شاؤوا ومن أي مكان شاؤوا”. -المذيعة: “والفلسطينيون الذين شردوا من وطنهم؟” -المحلل: “سيدتي، للفلسطينيين أولا كل الدول العربية، وثانياً هل يمكن لأناس أخرجوا من ديارهم قبل خمسين سنة أن يعودوا إليها؟! إن هذا غير مقبول إطلاقا في إسرائيل”.
منطق مبني على كثير من المغالطات، أولها أن الفلسطينيين ما كانوا يوماً يملكون وطناً، فهم مجرد عرب، ولينحشروا في أي وطن عربي، واليهود هم الذين ليست لهم إلا دولة واحدة، وعليهم أن “يُفرَّغوا” فيها كما يحلو لهم؛ وثانيها أن يُرفض من هُجـِّرَ من بلده وبيته قبل خمسين سنة، وهو مؤيد بقوانين وقرارات دولية ومعه مفاتيح بيته ووثائقه، لأنه سيغير من ديموغرافية إسرائيل، ولهذا السبب فقط، ويعود إليها من ينتسب لدين قبل ثلاثة آلاف سنة؟!!!.
حديث وراءه خلفيات عميقة عمق القضية أو بالقضية، ومن أهمهما أن معظم المهتمين بها أو المتضررين منها من غير أهلها، لا يفهمون أصولها الفهم الصحيح. فمفهوم القضية الفلسطينية-الإسرائيلية استهلكه الناس على غير فَهْمٍ، حتى أصبح كل واحد، خصوصاً ممن كان لهم نوع من الأخذ والرد فيها، من الجانب المنكر للحق الفلسطيني، أو حتى كثير من المتعاطفين مع الفلسطينيين، يؤمن بأن هذا هو المشكل الأكثر وضوحاً على وجه الأرض، بمفهوم: “أن لإسرائيل الحق في فلسطين، لأنها وعد إلهي، ولأن كل اليهود ينتسبون إليها تربة من سالف العهود”؛ إضافة إلى ما يعتقده اليهود، وهو “أن “الرب” وعد شعبه بإسرائيل كبرى” كما رأينا أعلاه.
هذا هو المفهوم الشائع الذي تنبني عليه شرعية إسرائيل في فلسطين، بوصفها كياناً قام على “شريعة تاريخية” و”شرعية عصبة الأمم أو الأمم المتحدة”. إننا لا نستطيع أبداً أن نغير في الأمر شيئاً، أو نبحث عن العدل فيه، إذا لم نتحقق من كل هذه المفاهيم، نحن المسلمين الذين نعاني بالدرجة الأولى أضراره على مستوى شعوبنا، عندما نعجز عن تفسير الظاهرة لهم. وعلى المستوى الدولي لأننا نجهل الفكر المدافع عن الأطروحة المعاكسة، وقد صنع كل ترسانة دفاعه من تراثه و”توراته” التي يعرف مجاهلها هو وحده، فصار قوله فصلا لا يمكن رده. وباعتبار أن نص التوراة ينص على أن الرب “سيعطي بني إسرائيل إسرائيل كبرى” اكتفينا نحن بالدفاع المتردد الوَجِل الذي يطلب العدل من ظلم لم يعرف كيف يشرح أسبابه.
وإليك قارئي العزيز، وإلى الأمم المتحدة، وإلى من يجور على أرض فلسطين، وإلى من يشارك شعبها آلامهم وآمالهم، حقائقَ، يصعب دحضها، لأنها توراتية وليست من خيالنا، وأولها “أن لا وعد بأرض تخص بني إسرائيل”، وأن “اليهود الإشكناز أوربيون أسيويون ولا أصل لهم في فلسطين”. كما رأينا أعلاه. كما أن اليهودية لم تهبط في فلسطين بنص التوراة:
نبدأ النقاش أولا بمفهوم “لإسرائيل الحق في فلسطين لأنها مهبط اليهودية”. ونسأل هل أرض فلسطين هي مهبط الديانة اليهودية كما سار بداهة عند الكثير؟ الجواب بالنفي، كما هو مثبت في التوراة: “كتاب اليهودية وشريعتها”؛ فقد جاء فيه أن الرب تجلي لسيدنا موسى عليه السلام، أول ما تجلى، وهو في مفازة من مفازات مـَدْيـَن، التي كانت تقع غرب شمال الجزيرة السعيدة شمال البحر الأحمر من ديار مصر، في الطرف الشرقي الجنوبي لسيناء. جاء في التوراة: “وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ”.(سفر الخروج 3، إصحاح 1).
وكان الظهور الثاني بعد توجهه إلى مصر ثم الخروج منها، في صحراء سينا، كما جاء في سفر الخروج: “1 فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فِي ذلِكَ الْيَوْمِ جَاءُوا إِلَى بَرِّيَّةِ سِينَاءَ. 2 ارْتَحَلُوا مِنْ رَفِيدِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَرِّيَّةِ سِينَاءَ فَنَزَلُوا فِي الْبَرِّيَّةِ. هُنَاكَ نَزَلَ إِسْرَائِيلُ مُقَابِلَ الْجَبَلِ. 3 وَأَمَّا مُوسَى فَصَعِدَ إِلَى اللهِ” (إ19: 1). ومات موسى وهو لم يدخل أبداً فلسطين، كما هو مثبت في سفر الثنية.
في كليات مجريات هذا التاريخ تبينت حقيقة “الأرض الموعودة: و”مَن هم نسل إبراهيم” وأين كان “تجلي اليهودية”.
ما في إمكان هذا المقال أن يصنع شيئاً في حرب إبادة لم ير التاريخ مثلها أبداً، ولكنه جهد العاجز، وكل حرف من حروفه دمعة حَرَّى وما يهدأ الفؤاد.