من يقرر ملامح زمننا في الأصل: نحن أم ما يفرض علينا من جداول وطقوس ومواسم؟ أليس الزمن، في النهاية، اختراعا جماعيا نتواطأ على تصديقه كما نتواطأ على الأساطير؟ وإذا كان التاريخ نفسه ليس سوى تأويل متكرر للحظة عابرة، فكيف نثق بأن “اليوم” أكثر واقعية من “الأمس” أو “الغد”؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش حقا خارج وهم التقويمات والساعات والجرس والمنبه؟ وإذا كان الحلم يختزل كل شيء في لحظة واحدة متدفقة بلا بداية ولا نهاية، فهل يكون الحلم أكثر وفاء لحقيقة الزمن من الواقع الذي نقسمه إلى دقائق وساعات؟ أليس سؤال الزمن في جوهره محاولة يائسة لإمساك ماء يتسرب دائما بين الأصابع؟
يشكل الدخول المدرسي لحظة انتقالية بالغة التعقيد في وعي المتعلم. فبعد شهرين من الانغماس في زمن العطلة – زمن اللعب والانفلات والتراخي – ها هو يجد نفسه فجأة داخل بنية زمنية مغايرة، قوامها النظام والانضباط والجرس الذي يجزئ اليوم إلى حصص مرقمة من الثامنة إلى التاسعة ومن التاسعة إلى الحادية عشرة… وهكذا دواليك. من هنا تنبثق المفارقة: كيف يمكن للطفل أن يستوعب هذه القطيعة الحادة بين “زمن الحرية” و”زمن المؤسسة”؟
ابتكر الخيال الطفولي جوابا مدهشا: أن يفسر العطلة نفسها باعتبارها حلما طويلا، امتد في غفلة من المراقبة المدرسية. يخفي هذا التصور، على سذاجته، وعيا فلسفيا دقيقا بمسألة الزمن؛ فالطفل، حين يستيقظ في صباح الدخول المدرسي الأول ليجد نفسه في مواجهة السبورة والطبشور، يشعر وكأن فراديس الصيف لم تكن سوى وهم مر في لحظة غفوة فوق مقعد الرياضيات.
يضعنا هذا “الحلم الكلي” أمام إشكالية “وجودية”: هل الزمن المدرسي أكثر “حقيقة” من “زمن العطلة”؟ وإذا كان الزمن يقاس بالامتحانات والواجبات، فهل تفتقد لحظات اللعب والسهر والسفر إلى قيمة “المعرفة”؛ لأنها لا تقاس بالعلامات والدرجات؟ هكذا، يتحول الدخول المدرسي من مجرد موعد إداري إلى تجربة وجودية تضع المتعلم أمام سؤال هايدغري صغير: أي زمن هو زمني؟
يدخل الأب المكتبة بثقة جنرال وفي يده لائحة كتبها المعلم بخط أشبه بالشفرة السرية. يبدأ البحث: “12 كراسا، 4 بألوان مختلفة، ودفترا كبيرا للرياضيات، علبة ألوان خشبية (وليست مائية!)، مسطرة 30 سم شفافة (وليس خضراء!) …”، فيكتشف سريعا أن القائمة أقرب إلى وصفة سحرية لإحياء مومياء فرعونية. الأطفال، من جهتهم، يرون المكتبة مثل مدينة ملاهٍ: يقفزون بين الرفوف، يطالبون بدفاتر عليها رسوم الأبطال الخارقين بدل الدفاتر العادية.
ـ “بابا، هادْ القلم السحري يكتب ويختفي بوحْدو، خاصْني واحدْ!”
ـ “راه خاصك قلم بسيط، ماشي نينْجا!”
الأم تحاول الموازنة بين المنطق والواقع، فتقف في المنتصف مثل قاضية في نزاع أسري عالمي:
ـ “خذْ له قلم سبايدرمان واحد، والباقي عادي.”
لكن الطفل يستغل الثغرة:
ـ “واخا… وبغيت معاهْ محفظة سبايدرمان، ومسطرة سبايدرمان، وستيكْر سبايدرمان.”
وهكذا، تتحول لحظة شراء الأدوات إلى مسرحية من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الحماس والانبهار؛ الفصل الثاني: المفاوضات والدموع؛ الفصل الثالث: الصدمة عند صندوق الأداء، حين يدرك الأب أن الأدوات تكلف أكثر من ثمن هاتف جديد.
يخرج الجميع من المكتبة بِوجوه مختلفة: الطفل مبتسم كأنه عاد من “ديزني لاند”، والأب شاحب كأنه خرج من بنك بعد سلفة ثقيلة، والأم تهمس لنفسها: “الحرب المقبلة اسمها واجبات مدرسية”.
ليلة الدخول المدرسي ليست مجرد ليلة عادية، إنها برزخ صغير بين عالمين: عالم عطلة يفيض باللعب والهواء الطلق، وعالم مدرسة يضبطه الجرس في كل وقت وحين. في تلك الساعات، يتعايش الأرق مع الذكريات، وتتمازج الكوابيس مع أحلام اليقظة. الأطفال، بدل أن يناموا باكرا كما يوصي الكبار، يتحولون فجأة إلى حكماء صغار، يسائلون الليل بأسئلة تفوق طاقتهم:
– ماما، علاش المدرسة ما تبْداش حتى العشية؟
– بابا، شنو الفرق بين الرياضيات والحياة؟
– واش الأستاذ الجديد غادي يحبني ولا لا؟
الأمهات ينشغلن بترتيب الطقوس الصباحية: ملابس مكوية كما لو كانت أزياء عرض عسكري، محفظة منظمة بدقة تذكر بالخرائط الهندسية، سندويتشات مرصوصة في الثلاجة مثل قنابل غذائية تنتظر لحظة الانفجار. أما الآباء، فيجلسون في صمت وجودي أمام التلفاز. أجسادهم حاضرة لكن عقولهم تسبح في الأعالي، تحسب في سرها عدد السنوات المتبقية من هذا الماراطون المتكرر.
وفجأة يتحول البيت إلى مسرح أصوات متداخلة:
– نعس بْكري، غادي تفيق مع السبعة!
– ما بغيتش نرقد!
– غدا المدرسة!
– ما بغيتش المدرسة!
وفي حدود منتصف الليل إلا قليلا ينام الأطفال على مضض، كما لو استسلموا لهدْنة مؤقتة. بينما يظل الآباء مستيقظين، يتأرجحون بين دعاء خفي: “يا رب دوزْها على خير”، وبين حنين غامض لليلة دخولهم المدرسي الأول، حين كانوا يعتقدون أن الحياة لا تتجاوز دفترا جديدا ورائحة أقلام ملونة.
يشكل الفطور لحظة يومية ذات قيمة رمزية كبرى في البناء الاجتماعي للزمن. ففي العطلة الصيفية، يتحوّل هذا الفطور إلى طقس احتفالي مؤجل، يمارس عادة في منتصف النهار: مائدة مترفة، أصناف متنوعة، وأحيانا جلسة طويلة أمام التلفاز أو الهاتف الذكي. إنه “فطور المتعة”، حيث تتكامل وفرة الطعام مع فراغ الجدول الزمني، لتؤسس معنى جديدا للراحة والترف؛ غير أن هذا المشهد ينقلب رأسا على عقب عند الدخول المدرسي. فالفطور، الذي كان بالأمس مساحة للتذوق والتأمل، يصبح مجرد “إجراء إسعافي” تمارسه العائلة على عجل. يختزل التلميذ وجبته في لقمة جافة أو رشفة حليب مسروقة، غالبا وهو يركض خلف الحافلة المدرسية. هكذا يولد ما يمكن أن نسمّيه “الفطور المستحيل”: وجبة لم تعد مرتبطة بالشبع أو بالمتعة، وإنما بالإكراه الزمني الذي يفرضه النظام التعليمي.
تكشف هذه الظاهرة، من زاوية سوسيولوجية، عن تحول في اقتصاد الزمن الأسري: فالبيت الذي كان فضاء للاسترخاء يتحول فجأة إلى ممر سريع نحو المؤسسة. مثلما يعكس “الفطور المستحيل” هشاشة التوازن بين حاجات الجسد وإكراهات الزمن الاجتماعي. فهل يمكن للتلميذ أن يستوعب درس الرياضيات ببطن فارغ؟ وهل يكون العقل قادرا على استقبال المعرفة حين يختزل الجسد في حركة استعجالية؟
ليس الفطور المدرسي في نهاية الأمر إلا تمرينا مبكرا على “التقشف الوجودي”، حيث يتعلم الطفل كيف يفاوض بين كسرة خبز وبين لحاقه بالحافلة، وكأن التربية تبدأ أساسا من المعدة قبل أن تصل إلى الدماغ.
من الملاحظ أن الدخول المدرسي في المتخيل الاجتماعي ليس مجرد حدث تقويمي؛ بيد أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بتحولات مناخية تكاد تكتسب طابعا أسطوريا. فالتجربة الميدانية في مجتمعات متعددة تظهر أن الغيوم والأمطار تتواطأ بشكل مدهش مع أول يوم دراسي، وكأن السماء نفسها موظفة في وزارة التربية، لا تباشر عملها إلا حين يقرر التلاميذ العودة إلى مقاعد الدراسة.
تستدعي هذه الظاهرة مقاربة “سوسيو-مناخية”: إذ يمكن النظر إلى المطر في يوم الدخول المدرسي باعتباره “طقسا طقوسيا” إن صح القول، يضفي على العودة إلى المدرسة بعد العطلة مسحة درامية، حيث يتحول الطريق نحو القسم إلى رحلة ملحمية وسط البِرك والطين. وهنا، يصبح المطر جزءا من “بيداغوجيا غير مرئية”، يعلم التلميذ منذ اليوم الأول مهارات النجاة، والتحمل، والمناورة بين المظلات المزدحمة.
يكشف هذا الارتباط بين الطقس والدراسة عن بنية عميقة في تصورنا للزمن: كأن الطبيعة تتآمر على الإنسان لتذكيره بأن المعرفة لا يتم تحصيلها في أجواء الصيف المشمسة، وإنما في برد ورطوبة ومشقة، أي في قلب “الجدية المناخية”. بهذا المعنى، يصبح التعليم تمرينا على الانضباط داخل شروط وجودية قاسية. قد نتساءل: أليس غريبا أن العطلة الصيفية تباركها الشمس الساطعة، بينما يستقبلنا الدخول المدرسي بالغيوم والمطر؟ كأن الكون نفسه يعلن بوضوح انحيازه لصالح اللعب، لا لصالح الدراسة.
تخيل ساحة المدرسة صباح الاثنين: عالمٌ مدهشٌ قائم بذاته، أقرب إلى كوكب صغير يدور خارج قوانين الفيزياء. الأطفال يتدفقون إليها مثل أسراب عصافير، لكن كل واحد منهم يعتقد أنه نسرٌ منفرد. هناك من يركض كعداء أولمبي، يصرخ بلا سبب. بينما يجلس طفل آخر في الزاوية مثل فيلسوف شاب، يحدق في الحائط ويتأمل: “لماذا الجرس يرن دائما قبل الفسحة بخمس دقائق؟”.
في وسط الساحة، تتشكل طقوس غامضة: مباراة كرة بعلبة بلاستيكية، تدار كأنها نهائي كأس العالم. المرمى مجرد حقيبتين ملقيتين على الأرض، والحكم طفل يملك أعلى صوت لا أكبر سلطة. كل هدف يحتفل به بطريقة هستيرية، حتى أن بعضهم يسقط على الأرض كما لو أنه أصيب في معركة تاريخية. على مقربة من ملعب المباراة، هناك مجموعة تفاوضية: أطفال يتبادلون أقلام الرصاص وقطع الحلوى بجدية تفوق بورصة وول ستريت:
– “هادي حلوة بطعم الفريزْ مقابل جوج كوارط زرْق.”
– “زيدْ ستيكر ديال سبايدرمان ونكملو اللعبة.”
أما الفوضى الصوتية فهي سيمفونية كاملة: ضحك، بكاء، صراخ، نداءات المعلمين، وأحيانا صفارات إنذار صادرة من أفواه الأطفال أنفسهم. وما أن يرن الجرس، حتى تتحول الساحة من غابة حرة إلى صفوف محكمة التنظيم، يصطف التلاميذ في طوابير مستقيمة بشكل سحري.
ليست ساحة المدرسة مجرد فضاء للعب؛ إنها مختبر لفهم الإنسان: كيف يبدأ مثل طفل يركض خلف كرة بلاستيكية، ليصبح لاحقا بالغا يركض خلف ورقة نقدية.
الآباء متحلقون أمام باب المدرسة كأنهم طلبة ينتظرون إعلان نتائج الاختبارات. واحد يضرب كعبه في الأرض بعصبية، وكأن ابنه متأخر عن الخروج من اجتماع مجلس الأمن. آخر يتظاهر بالهدوء؛ لكنه كل دقيقتين يفتح حقيبة ابنه الوهمية في خياله ليتأكد: الله يرضي عليك، ما تكونش ناسي السانْدويتش!”. وهناك ذاك الأب الذي قرر أن يحول الانتظار إلى طقس رياضي: يمشي جيئة وذهابا أمام الباب كما لو كان يحرس حدود الوطن، يوزع نظراته على بقية الآباء بنوع من التفاخر: “أنا الوحيد اللي عندي لياقة هنا”.
لكن أكثر المشاهد إثارة حين تفتح المدرسة بابها قليلا، فيتدفق تيار صغير من الأطفال، فيتحرك الآباء دفعة واحدة إلى الأمام، وكأنهم جمهور حفل غنائي لفرقة أسطورية. ثم يغلق الباب ثانية، فيرتدون للخلف، خائبين، مثل موجة بحر كسرت نفسها على صخرة.
المضحك هو أن كل أب يقسم في سِره أنه في المرة المقبلة لن يأتي باكرا ولن يقف وسط هذا الجنون… لكن في اليوم التالي، ستجده واقفا بنفس الوضعية، عند نفس الجدار، وبنفس الملامح: وجه متوتر، عيون متأهبة، وأمل صغير بأن ابنه سيكون أول من يخرج هذه المرة.
ليلة الأحد مؤسسة تربوية غير معلنة، يتواطأ عليها الجميع بصمت ثقيل. فمنذ عقود والطفل يكتشف أن نهاية الأسبوع ليست للراحة وإنما لمفاوضة قاسية مع الدفاتر والتمارين المؤجلة. إنها ليلة المراجعة الكبرى، حيث يتحول البيت إلى مختبر عصبي، والواجبات المنزلية إلى أشكال مستترة من العقاب الجماعي. في هذه الليلة بالذات، تخرج الفلسفة من صمتها لتجلس على مكتب صغير مغطى بالأقلام المبعثرة. يرفع الطفل رأسه من صفحة الرياضيات متسائلا: “لماذا اخترعوا الكسور؟ أليس العدد الصحيح كافيا لفهم العالم؟” وفي الجهة الأخرى، يستعد ولي الأمر لكتابة أطروحته في الصبر، وهو يحاول إقناع طفله بأن التمارين ليست مؤامرة، بقدر ما هي مجرد “تدريب معرفي”. أما الأم، فهي تؤدي دور المنسق البيداغوجي، موزعة بين تحضير عشاء متأخر وإطلاق تصريحات من قبيل: “غدا ستشكرني حين تكبر”.
هكذا، تتحول ليلة الأحد إلى مختبر للخطابات المتعارضة: خطاب الطفولة المتذمرة، خطاب السلطة الأبوية الصلبة، وخطاب المؤسسة الحاضر غيابا. والنتيجة: أن يتعلم الطفل، قبل أي قاعدة في النحو أو الرياضيات، أن المعرفة لا تنفصل عن الألم، وأن الكتاب المدرسي نص محمل بإكراهات زمنية. بهذا الخيار، تنقلب هذه الليلة، التي يفترض أنها تكملة للأسبوع، إلى محكمة صغيرة: الأب قاض، الطفل متهم بالتأجيل، والأم محامية تحاول التوفيق بين الطرفين. والحكم يصدر دوما لصالح الجرس الذي سيعلن صباح الاثنين بداية دورة جديدة من النسيان والاستذكار.
ليلة الأحد درس عملي في فلسفة الزمن، حيث يتقلص المستقبل إلى امتحان قصير، ويتحول الماضي إلى صفحات لم تراجع بعد، بينما الحاضر يتبخر بين تثاؤب الطفل وارتباك الآباء. وما لم يكتبه المنظرون في كتب التربية، كتبه الأطفال بِوضوح: “المراجعة ليلة الأحد ليست فعل تعلم، إنها بروفة صغيرة على عبثية الوجود”.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.