آخر الأخبار

الفيلم الياباني "موسمان وغريبان" .. رحلة الحب والكتابة ومزاجية الفصول

شارك

هل يوقظ الغريب ما غفا فينا؟ وهل يستطيع فصلا الصيف والشتاء أن يلتقيا في لحظة واحدة فتنبثق من ذلك يقظة داخلية؟ حين تتوقف الحركة، هل يبدأ الإدراك؟

“لكي نراقب تدفق النهر، ونندهش من تغيراته الساحرة، أعتقد أنه ينبغي الوقوف ساكنين على ضفته دون حركة”، بهذه الكلمات يفتح المخرج الياباني شو مياكي نافذة التأمل، ويمنح السينما فرصة للسكينة، حيث يعلّمنا أن الوعي لا يُدرك إلا حين يُصغى للصمت.

سينما التأمل والحركة البطيئة

يعتبر المخرج شو مياكي من الأصوات اليابانية المعاصرة التي تشتغل على سينما التأمل والحركة البطيئة والاتصال العاطفي غير المباشر. يقوم أسلوبه على ما يمكن تسميته “الميكانيزمات الحسية”؛ حيث يُعلي من شأن التفاصيل الصغيرة كأدوات تعبيرية: الضوء الطبيعي، الصوت المحيطي، النظرات الصامتة وبطء الحركة. ويعمد إلى جعل الزمن شخصية ثالثة في أفلامه حيث لا تتحرك القصة بدافع الحدث بل بدافع الشعور الداخلي. ويعتمد على الإطار الثابت والتصوير الفوتوغرافي الذي يعكس الذاكرة أكثر مما يعكس الواقع.

مصدر الصورة

ومن أفلامه السابقة نذكر “The Wild Goose Lake” (بحيرة الأوز البري) (2019)، وفيلم “Small Slow But Steady” (صغيرة بطيئة لكن ثابتة) (2022)، وهو عمل عن ملاكمة صمّاء يجد فيه مياكي نقطة التقاء بين الجسد والسكينة. وتسير أعماله على خيط دقيق بين الحزن والتسامح، بين الخسارة والبعث.

رحلة الشتاء والصيف

يختار فيلم “Two Seasons, Two Strangers” أن يسلك طريقًا غير مألوفة، فيعيد تشكيل قصتين قصيرتين عبر سرد مزدوج، يدمج بين قصة داخل فيلم ورحلة وجودية. ويتقدّم الفيلم في مسارين متوازيين، أحدهما صيفي والآخر شتوي، ويُعيد صياغة الحياة من خلال لحظات لا تُقال، بل تُحسّ.

تنطلق قصة فيلم “موسمان وغريبان” (15 غشت 2025/المدة 89 دقيقة) مع لي، كاتبة سيناريو تعيش فراغًا داخليًا، وتبحث عن معنى في كتاباتها. تعبّر عن رغبتها في “البقاء على الشاطئ دون حركة”، وتُعرض على الشاشة قصة ناغيسا وناتسوو، لقاء صيفي في منتجع ساحلي، حيث تتبادل الشخصيتان نظرات صامتة وابتسامات خجولة، تتمايل مع خطوات الماء المتلاشية. وتقطع الكاميرا، وتعود إلى الكاتبة لي، التي تواجه جمهورًا متسائلًا، وتغيب بعدها إلى مدينة ثلجية، بحثًا عن ذاتها.

يتقدّم السرد إلى الجزء الشتوي، حيث تلتقي لي بـ”بنزو”، صاحب نزل متقشّف، يحمل في داخله انفتاحًا غير متوقّع. ويتحوّل اللقاء إلى تعاون فكري، ثم إلى مغامرة حساسة، حين تُكسر بركة أسماك الزينة، في محاولة لإحياء الحياة وسط الثلج. وتنشأ من هذا الفعل إشارة إلى عودة الإبداع، وإلى انبعاث الروح من جديد.

تُقدّم السينما هنا تجربة تأملية، لا تعتمد على السرد المباشر، فهي تخلق مزاجًا داخليًا، وتدفع المشاهد إلى الغوص في التفاصيل. وتُستخدم الكاميرا الثابتة، والنسبة المربعة، والإضاءة الهادئة، وحركة الظلال، وحتى تنفّس الملابس، لتصوير ما سمّاه المخرج مياكي “الوعي بالحياة”. تُصاغ كل لقطة لتكون لحظة تأمل، لا مجرد مشهد.

يتكثّف الجمال البصري من خلال التحوّل اللوني: الصيف ينبض بألوان مشرقة، والشتاء يغرق في أحادية باردة، تعكس الحالة النفسية للبطلة لي. ويُعبّر مياكي عن هذا التحوّل بقوله: “في البداية، غطّى اليأس الشخصيات، ثم بدؤوا يراقبون الرياح والثلج، فشعروا بأنهم على قيد الحياة من جديد، كأنهم وُجدوا من جديد”.

تُعيد اللغة السينمائية تعريف نفسها في هذا العمل، وتطرح سؤالًا حول ما يمكن للسينما أن تفعله في عالم يضج بالعنف والتسرّع. ويُصرّح مياكي: “أردت أن أتابع أثر السينما في عالم يفتقر إلى الصبر وتغمره حالات العنف. ويعلّمنا الفيلم كيف نرى الآخر حقًا”.

مصدر الصورة
تتداخل الموضوعات المطروحة في الفيلم، وتدفع نحو إعادة الاتصال بالذات، وتجاوز العزلة، والاحتفاء بالصمت. وتُطرح الأسئلة دون كلمات: هل يوقظنا اللقاء؟ هل يعيد الغريب الحياة إلى الروح؟ وتظهر الإجابات في ابتسامة، في الشربة والحساء، في ضباب النظارات، في مرور قطار ليلي. وتُغرق هذه اللحظات الزمن في عمق بعيد، وتُبعده عن الحكاية الخطية.

يستعير الفيلم من مدرسة تامغا اليابانية للمانغا، التي تُعدّ شكلًا من أشكال التعبير الذاتي، وتكشف النفس تحت السطح دون الحاجة إلى سياقات واضحة. ويتحوّل الفن إلى نافذة على اللاوعي، ويُصبح الصوت عنصرًا بصريًا، حيث تُسمع همسات الثلج، وحفيف الماء، وصدى الغرف الخالية، لتُشكّل تجربة حسية كاملة.

ثلاثية العابر والصدفة والتجدد

عرض فيلم “موسمان وغريبان” في مهرجان لوكارنو 2025 وحصد الجائزة الكبرى “Golden Leopard”، ليُصبح أول فيلم ياباني ينالها منذ عام 2007. يُعلّق المخرج مياكي على هذا الفوز: “في عالم تعيث فيه الفظائع، سألت نفسي: ماذا يمكن للسينما أن تفعل؟ دفعني هذا السؤال إلى ألا أستسلم، وأن أثق في الحرفة والعالم، وأن أشارك هذا الإحساس مع الآخرين”.

وتتوالى التأويلات الفلسفية والقراءات، وتُطرح أفكار حول العابر، والصدفة، والتجدد. ويُظهر الصيف الخفيف قدرة على إثارة الاهتمام، ويُقدّم الشتاء القاسي فرصة للانبعاث. وتُعبّر نظرات ناغيسا وناتسوو، وضحكة الكاتبة لي المترددة، وصمتها أمام نافذة الثلج، عن انكسار ثم صحوة، عن غياب ثم حضور.

يتجنّب الفيلم الحبكة التقليدية، ويُنسج كقصيدة مرئية، تتعانق فيها الحركة والثبات، والضوء والصمت، والكتابة والمشاهدة. تُصبح القصة رحلة نحو الذات، التي لا تُرى إلا حين تنعكس في عيون الآخرين.

يعبر الفيلم عن تجربة بعبور، عبور فصل، عبور زمن، عبور لحظة صمت، عبور نحو يقظة داخلية. ويُقدّم درسًا في أن السينما لا تعيش في الكلمات، وإنما في الانغماس في الهواء والطبيعة وبين الكلمات.

البحث عن صداقة الذات بين الفصول

يفتح المخرج شو مياكي باب الحساسية، ويقودنا إلى عالم من الهوية واللقاء، عبر سؤالين: هل تكفي صورة امرأة وحيدة خلف نظارات ضبابية على شاطئ فارغ لتُعبّر عن شوق لم يُنطق بعد؟ هل تقدر تلك النظرة على أن تطرح سؤالًا عن الاتجاه أو تلمّح إلى ابتسامة محتملة؟

تظهر الكاتبة لي، بطلة الفيلم، ككاتبة سيناريو تائهة في اليابان، وتستقبل لحظة صيف كأنها مرآة تُعيد لها وجودها. وتتجاوز صورتها حدود الشخصية، وتتحوّل إلى امتداد لعزلة تتصاعد عبر البصر والصمت والقشعريرة الأولى للقاء. ويُظهر المخرج عبر كل فيلم قدرة مذهلة على مزج مستويات من الحرفية الدقيقة تشبه الخزف مع قصص عن تعاطف إنساني فوضوي نسبيًا. ويُجسّد هذا التصوير الكاتبة لي كقناع شفاف على وجه إنساني، حيث تُقرأ تفاصيل صراع داخلي لا يُكتب.

مصدر الصورة

تبدأ الكاتبة لي بكتابة مشهد سينمائي على الشاطئ، وتشقّ شاشة الكتابة لتُظهر ناغيسا وناستو، شخصيتين ترمزان لمن نرغب أن نكون حين نلتقي بالآخر. ويتقدّم هذا اللقاء الصيفي كصورة لرغبة لي في الالتقاء، وفي محاولة مترددة للتواصل بين رجل وامرأة، كلاهما غريبان، مذعوران من الحياة، يبحثان عن السكون في العزلة. ويتحوّل تمثيل لي في الشاشة إلى رحلة نحو سؤال إنساني: ما الذي يدفعنا إلى السلام ولو للحظة؟ وتُحقّق هذه الحساسية الطفيفة صداقة مع الذات، وتبحث عن ملجأ بين الفصول.

يتقدّم الفيلم اقتصاديًا واجتماعيًا نحو فكرة طمس الذات في يد المجتمع. وتشعر الكاتبة لي بأنها غير مرئية، ويظهر ذلك في جلسة الأسئلة والأجوبة، حيث “المخرج يتحدث أكثر”، ويكشف هذا المشهد عن هيمنة صوت آخر على صوت البطلة، ويُقدّم رمزًا لحالة لا ترى فيها المرأة نفسها بلغة الآخرين. وتتحوّل الهوية إلى طيف مهدور أمام نظرة جماعية مسيطرة.

وتنسحب الكاتبة لي نفسيًا إلى الشتاء، وتلجأ إلى مساحات من الثلج، حيث يتحوّل الهدوء القاتل إلى فرصة للعودة. وعند درجة الصفر المطلقة، تبدأ بالكتابة. لتُؤسّس هذه الصورة النفسية لفكرة أن الصمت، أو السكون المتجمّد، قد يُشعل شرارة الإبداع. وتُبرز السينما كيف يمكن لنقطة تجمّد أن تُحرّر الروح، وتُعيد نبرة الكتابة إلى منبعها.

تتقدّم الرمزية في الفيلم من خلال طقس الصيف، الذي يُمثّل نبعًا تشتاق إليه المتعبة، إلى الثلج، الذي يُغطّي نبرتها ويُعيد خلقها من جديد. ويتحوّل اللون من الأزرق الزاهي إلى البني القاتم ثم الأبيض الشاحب، ليُجسّد تحوّلًا داخليًا في نفسية البطلة. ويغوص المشاهد في لعبة الضوء والظل والنفَس ولعبة الألوان، وتتحوّل الصورة إلى وثيقة حسّية، تُقرأ في إشارات الجلد، شهقة الهواء، والنظرات الضبابية.

الذات في فصلين: فصل يحلم، وفصل ينكسر

تُقدّم كاتبة السيناريو لي من منظور الهوية السردية كـ”كاتبة تكتب الرحلة”. وتتغيّر هويتها عبر تنقيح الذات من خلال السفر الداخلي، إلى الشتاء، إلى اللقاء، إلى ملكوت التجدد. ويُحوّل السرد الهوية إلى فعل طقسي عبر الفصول، وهذا فيلم نادر يبدأ بوضوح عادي… ثم يعود تدريجيًا، ليتركك مع أكثر الأمور تعقيدًا في الحياة. ويُنقّب السرد عن الحقيقة من خلف الشاشة، من خلال إعادة الكتابة والمعاينة.

مصدر الصورة

تظهر الشخصيات الأخرى كمرآة للحساسية الإنسانية. ويُجسّد بنزو، صاحب النزل المتجهم، المرآة الشتوية، ويجد في الكاتبة لي إيقاظًا لطيفًا. لا يُقال كلام كبير، ولا يُعرض حب صاخب، بل يُقدّم صمت يشبه الميلاد. ويتعاون الاثنان على التخلص من أسماك الزينة في بحيرة الكوي، كرمز لكسر قوقعة الحياة السابقة، ورمز لفعل رمزي يذوب في بساطة الحركة. وتبدو مغامرة بحيرة الكوي كأكبر مغامرة خجولة في السينما المعاصرة.

يفتح الفيلم نافذة سياسية على هاجس الفرد المجهول داخل المجتمع، ويبحث عن الكلمة واللقاء في عالم يُهمّش صوت بعض أفراده. وتُجسّد لي، الكاتبة الكورية في اليابان، هذا النوع من الهوية الهامشية، وجود لطيف يُرى فقط حين يواجه الصقيع. ويُقدّم الفيلم هذا التمثيل دون شعارات، ويُركّز على التفاصيل التي تُظهر كيف يُمكن للهوية أن تتشكّل في لحظة مواجهة.

وتتحدّث الصورة البصرية دون كلمات، وتُصمّم لتُعزف موسيقى داخلية. ويتم اللعب على الضوء، وعلى جدار غرفة نومها بينما يمر القطار ليلًا، وهو مشهد مشحون برموز موسيقى الهيب هوب. وتُسجّل هذه الصورة نبض المدينة، نبض البطلة، نبض الحياة نفسها. ولا تُقدّم المشاهد ما تراه العين فقط، وإنما ما يُحسّ كأنفاس لا تُرسم.

ويتقدّم تمثل البطلة لحضورها بين فصلين وقصتين كفعل جمالي ونفسي وسياسي، ويُعيد كتابة الذات في فصلين: فصل يحلم، وفصل ينكسر ثم يولد من جديد. وتُجسّد الكاتبة لي الحالة التي تلتقطنا حين نسأل بدهشة: هل أنا هنا؟ هل أستطيع كتابة زمني؟ هل يحقّ لوجودي أن يتنفس؟

تُختتم الرحلة بعودة إلى صوت الصمت، ويُفتح له باب عريض. وفي آخر مشهد، حين ترفرف ورقة على الطاولة. ويبدأ الثلج بالتساقط، وتهمس الكاتبة لي بصوت داخلي: “لحظة واحدة من السكون تكفي لكي تعرف أنك ما زلت حيًا”. وتُجسّد هذه الجملة فعلا مسموعًا من داخل المرآة، وتختزل كل ما سبق من حساسية وأبعاد ولقاء. وتُقدّم خاتمة تسكن داخل المتلقي طويلًا بعد خروج الصورة من الشاشة، وتبقى اللحظة سكونًا تأسيسيًا، وكتابة حية.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا