في سابقة قضائية تسلط الضوء على ثغرات إجرائية بمسطرة التبيلغ في نظام “بريد المغرب”، أصدرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط حكما يكشف عن خلل جوهري في ممارسات المؤسسة، مما يهدد الحقوق القانونية والمالية للمواطنين، خاصة في علاقتهم بالإدارات العمومية كالمديرية العامة للضرائب.
القرار القضائي، الذي حمل رقم 249 وصدر بتاريخ 30 يونيو 2025، لم يقتصر على إنصاف مواطن كاد أن يقع ضحية ظلم ضريبي، بل فتح الباب واسعا أمام مساءلة فعالية ودقة الإجراءات المتبعة من قبل مرفق عمومي حيوي.
وتعود وقائع القضية، المسجلة تحت عدد 2025/7213/174، إلى نزاع بين المديرية العامة للضرائب وأحد الملزمين، حيث استندت الإدارة الضريبية في مباشرة إجراءات الاستخلاص إلى مراسلة إدارية أعادها “بريد المغرب” مشفوعة بعبارة “غير مطالب بها” (Non réclamé).
قانونيا، تعتبر هذه العبارة بمثابة إقرار بأن التبليغ قد تم، وأن المرسل إليه قد أُشعر بوجود المراسلة لكنه تقاعس عن استلامها، مما يمنح الإدارة الضوء الأخضر للمضي قدما في إجراءاتها.
إلا أن الملزم، وفي منعطف حاسم، دحض هذه الحجة بتقديم دليل قاطع؛ شهادة إدارية رسمية صادرة عن قيادة سيدي عبد الرزاق (عمالة الخميسات). هذه الوثيقة، التي تتمتع بحجية قانونية، أكدت بشكل لا لبس فيه أن المنطقة التي يقطنها المواطن “لا تشملها التغطية البريدية من الأساس، ولا يوجد بها أي ساعي بريد مكلف بالتوزيع”.
وبناء على هذه المعطيات، خلصت المحكمة إلى “بطلان التبليغ”، معتبرة أن التبليغ عبر البريد في هذه الحالة “غير منتج لأي أثر قانوني”، إذ يستحيل واقعيا إيصال المراسلة أو حتى إشعار المواطن بوجودها، ذلك أن عبارة “غير مطالب بها” التي دونها “بريد المغرب” شكلت تضليلا للمديرية العامة للضرائب، حيث أوهمتها بأن إجراءات التبليغ كانت سليمة، بينما الحقيقة كانت غياب الخدمة بشكل كلي.
وشدد الحكم على أنه كان يتوجب على الإدارة الضريبية، خاصة مع علمها المسبق المحتمل بعدم وجود تغطية بريدية في بعض المناطق، اللجوء إلى وسائل التبليغ البديلة التي يضمنها القانون، مثل أعوان السلطة أو المفوضين القضائيين، لضمان وصول التبليغ بشكل فعلي.
خبير.. أبعاد أعمق للقضية
في تعليقه على الحكم، يرى الدكتور جواد لعسري، أستاذ المالية العامة والتشريع الضريبي بجامعة الحسن الثاني، أن القضية تتجاوز كونها خطأ فرديا لتكشف عن إشكالية بنيوية، معتبرا أن ما جرى يمثل “سابقة خطيرة تمس بمصداقية مراسلات بريد المغرب”، حيث ادعت المؤسسة محاولة التبليغ في منطقة لا تصلها خدماتها أصلا، وهو ما كذبته بشكل رسمي وثيقة صادرة عن وزارة الداخلية.
وأشار الدكتور لعسري إلى خطورة “المادة 219 من المدونة العامة للضرائب”، التي تنص على أن الوثيقة تعتبر مبلغة قانونيا بعد انقضاء عشرة أيام على تاريخ إرجاعها بعبارة “غير مطالب بها”. ووصف هذه العبارة بـ”المجحفة”، خاصة حين يكون سبب الإرجاع خطأ من جانب مؤسسة البريد، وهو خطأ يصبح إثباته “شبه مستحيل” على المواطن العادي في غياب أدلة دامغة كالتي توفرت في هذه القضية.
وأضاف أن اجتهاد الغرفة الإدارية بمحكمة النقض، الذي يعتبر عبارة “غير مطالب به” بمثابة تبليغ صحيح، يزيد من تعقيد الموقف، ويعرض الملزمين لإجراءات ضريبية جائرة بناء على معطيات خاطئة من مؤسسة يفترض فيها الحياد والدقة. وعليه، طالب الدكتور لعسري بـ”فتح تحقيق قضائي شفاف” لتحديد المسؤوليات ومنع تكرار مثل هذه التجاوزات.
رد “بريد المغرب”.. الإجراءات سليمة ولا وجود لخطأ
في مقابل الرؤية القضائية والقانونية، قدم “بريد المغرب” ردا رسميا يدافع فيه عن سلامة إجراءاته، مؤكدا أن معالجة المراسلة تمت وفق المساطر المعمول بها دون أي خطأ.
وأوضح “بريد المغرب” في توضيح توصلت به جريدة “العمق”، أن الرسائل المضمونة الموجهة إلى مناطق لا تتوفر على خدمة التوزيع إلى محل الإقامة، يتم الاحتفاظ بها في أقرب مكتب بريدي لمدة شهر، وفي حال عدم تقدم المرسل إليه لاستلامها خلال هذه المدة، تعاد إلى المرسل مع عبارة “غير مطالب”.
وأكد “بريد المغرب” وجود آليات مراقبة داخلية للتوزيع، وأنه يتم التنسيق مع السلطات المحلية في المناطق غير المغطاة، حيث يسلم البريد العادي لأعوان السلطة، بينما يتم إيداع البريد المسجل في أقرب مكتب بريدي وتحرير إشعار بذلك يسلم بدوره للسلطات المحلية لإخبار المعني بالأمر.
وبناء على تلك الإجراءات، خلصت المؤسسة إلى أنه “لا مجال لاتخاذ تدابير تصحيحية” لأن المعالجة كانت سليمة، وأنه لم يتم تسجيل أي إخلال يبرر فتح تحقيق داخلي أو اتخاذ إجراءات تأديبية.
تضارب المواقف وحقوق المرتفقين
تكشف هذه القضية عن تضارب لافت بين حكم قضائي نهائي اعتبر ما وقع خروقات جسيمة، وبين دفاع إداري من جانب “بريد المغرب” يشدد على سلامة المساطر المتبعة. غير أن جوهر الإشكال لا يرتبط بوجود مسطرة داخلية للتعامل مع المناطق غير المغطاة بالخدمة، بل بمدى نجاعة هذه المسطرة وضمان وصولها فعليا إلى المواطن.
فحتى في حال إيداع إشعار لدى السلطة المحلية، يظل السؤال مطروحا: هل وصل هذا الإشعار فعلا إلى المعني بالأمر؟ إذ يوحي منطوق الحكم القضائي بأن حلقة التواصل انقطعت في هذه المرحلة، مما يجعل المسطرة المتبعة، وإن بدت سليمة من الناحية الشكلية، عاجزة عن تحقيق الغاية الأساسية وهي التبليغ الفعلي.
ولا تقتصر هذه القضية على نزاع فردي، بل تفتح نقاشا أوسع حول الحاجة إلى مراجعة آليات التنسيق والتحقق داخل مؤسسة “بريد المغرب”، حتى لا تتحول بعض الإجراءات الإدارية إلى ثغرات قانونية تمس بحقوق المواطنين وتقوض الثقة في واحد من أبرز المرافق العمومية بالبلاد.