تعيش الزاوية القادرية البودشيشية، إحدى أشهر الزوايا الصوفية في المغرب، على وقع جدل غير مسبوق أعادها إلى صدارة المشهدين السياسي والإعلامي، بعد وفاة شيخها جمال بودشيش في غشت الجاري، وما تبع ذلك من خلافات حول من يخلفه في قيادة الطريقة.
فوفاة الشيخ جمال بودشيش لم تكن حدثا عاديا في المشهد الديني المغربي، إذ إن خلافة الزاوية القادرية البودشيشية تحولت بسرعة إلى جدل وطني، تجاوز حدود “الفقراء” وأبناء الطريقة ليطرح أسئلة عميقة عن موقع الزوايا في المغرب المعاصر.
هذا الجدل الذي تحول إلى “ترند” وطني، تجاوز البعد الروحي الداخلي، ليكشف حجم الرهانات المتشابكة التي تحيط بالزاوية ودورها في الحياة الدينية والسياسية بالمغرب.
في هذا الصدد، اعتبر أحمد بوز، أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق السويسي بالرباط، أن الطريقة القادرية البودشيشية لم يسبق أن حظيت بهذا القدر من الاهتمام الرسمي والإعلامي والشعبي كما هو الشأن اليوم، خاصة بعد وفاة شيخها جمال القادري في غشت الجاري.
وأوضح أن الجدل الذي رافق خلافته على رأس الزاوية، بين تداول وصية نسبت للأب الراحل، وحديث عن تنازل نجله الأكبر منير لصالح شقيقه الأصغر معاذ، ثم البيانات المتعارضة التي صدرت من داخل العائلة ورابطة الشرفاء البودشيشيين، أعطى للحدث أبعادا سياسية وإعلامية غير مسبوقة جعلته يتصدر النقاش العمومي لعدة أيام.
ويرى بوز في مقال خص به جريدة “العمق” تحت عنوان “ البودشيشية بين الروحي والسياسي “، أن ما وقع لا يمكن اعتباره شأنا داخليا محضا يخص “الفقراء” وأتباع الطريقة، بل تحول إلى قضية وطنية أثارت تساؤلات عميقة حول الحضور اللافت للزاوية في المشهد المغربي، وحول طبيعة الدور الذي باتت تلعبه عند تقاطع الحقول الروحية والاجتماعية والسياسية.
وأضاف أن الزاوية البودشيشية، التي تقدم نفسها باعتبارها إطارا صوفيا روحيا قائما على الذكر والتربية الروحية، نجحت خلال العقود الأخيرة في أن تتحول إلى فاعل اجتماعي وسياسي، بل إلى شريك ضمن حسابات الدولة في تدبير الشأن الديني، سواء من خلال التعبئة الميدانية أو عبر إدماج رموزها في مواقع مؤسساتية حساسة.
واعتبر أن هذا التحول يفرض التوقف مليا عند أسبابه، وكيف استطاعت الزاوية أن تتحول من فضاء صوفي محض إلى قوة تمتلك القدرة على التأثير في مجريات النقاش العام.
وأشار إلى أن حضور الزوايا في التاريخ المغربي لم يكن أبدا هامشيا، إذ تراوح بين المعارضة الصريحة للمخزن في فترات النزاع، وبين المولاة المطلقة حين تتقاطع مصالحها مع السلطة، قبل أن يتراجع دورها السياسي بعد الاستقلال لصالح الأحزاب الحديثة.
لكنه شدد على أن الدولة أعادت منذ التسعينيات الرهان على الزوايا، وعلى رأسها البودشيشية، كجزء من استراتيجيتها لمواجهة صعود الحركات الإسلامية وخطر التطرف العنيف، مشيرا في هذا الصدد إلى تعيين أحمد التوفيق، أحد مريدي هذه الزاوية، في منصب وزير الأوقاف، وهو منصب استراتيجي في تدبير الشأن الديني بالمغرب، حيث سمح له موقعه هذا بإعادة هيكلة الحقل الديني بهدف ضبط المجال وتوحيد الخطاب.
وذكر بوز بمحطات بارزة أبرزت تداخل الزاوية مع الأجندة السياسية للدولة، أبرزها مشاركتها في التعبئة ضد الإرهاب في مسيرة سنة 2003، وانخراطها في الدعوة للتصويت لصالح دستور 2011 في مواجهة الحراك الاجتماعي آنذاك.
واعتبر أن مثل هذه الوقائع تؤكد أن البودشيشية لم تعد مجرد زاوية للتربية الروحية، بل فاعلا ضمن هندسة السلطة، بما يمنحها مكانة خاصة في الإسلام الرسمي المغربي، لكنه يطرح أيضا تساؤلات حول حدود استقلاليتها الرمزية.
وخلص أستاذ العلوم السياسية إلى أن ما عاشته الزاوية في الأيام الأخيرة يعكس صورة دقيقة عن مفارقة “البودشيشية بين الروحي والسياسي”.
وحذر من أن هذا التداخل قد يحمل في طياته مخاطر متعددة، سواء على الدولة التي قد تجد نفسها أمام فاعل ديني يصعب ضبط توظيفه، أو على الزاوية التي قد تفقد رصيدها الروحي لصالح أدوار سياسية ظرفية، أو حتى على المجتمع الذي ينشد بناء مشروع ديمقراطي يقوم على مؤسسات حديثة وقيم المواطنة والحرية.
يُشار إلى أن رابطة الشرفاء البودشيشيين كانت قد أعلنت عن تزكيتها لمعاذ شيخا للطريقة القادرية البودشيشية، وذلك بعد ما قالت إنه إعلان أصدره منير القادري بودشيش برحاب الزاوية القادرية بمداغ، وسط حضور وُصف بالغفير من مريدي الطريقة وأفراد العائلة البودشيشية.
وجاء في بيان لها، الأحد المنصرم، أن “رابطة الشرفاء البودشيشيين تلقت ببالغ الارتياح والسرور الموافقة الشرعية الصريحة الصادرة عن الدكتور منير، بعد استخارة ومناجاة الله، على إسناد مشيخة الطريقة إلى شقيقه الأصغر معاذ، سبط الرسول الأمين، وقرة عين القطبين الأعظمين حمزة وجمال قدس الله روحيهما”.
واعتبر البيان أن “هذا القرار يشكل خطوة تاريخية هامة، ومستنداً شرعياً واضحاً، يمنح القطب الرباني معاذ صفة شيخ الطريقة القادرية البودشيشية”، مبرزا أن هذه المبادرة “تعكس ما يتحلى به الدكتور منير من قيم إنسانية وأخلاق إسلامية رفيعة، وأنها سابقة محمودة في تاريخ التصوف على الصعيد العالمي”.
وأشار البيان إلى أن “هذا القرار جاء في سياق منير، متناغم مع التوجيهات الملكية السامية لجلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، بما يحفظ للطريقة مكانتها الروحية والفكرية والاجتماعية والدبلوماسية، ويحصنها من كل أسباب التصدع والتشردم”.
كما شددت رابطة الشرفاء البودشيشيين على أن تزكية منير لشقيقه الأصغر “تمثل تفويضا شرعيا واضحا للسر المحمدي”، ودعت جميع المنتسبين والمنتسبات إلى الالتفاف حول شيخ الطريقة الجديد، ورص الصفوف، ومؤازرة الطريقة في هذه المرحلة الدقيقة، بما يضمن وحدتها ويحول دون محاولات إثارة الفتن أو الخلافات داخل صفوفها.
وأوضح البيان أن معاذ، الذي أسندت إليه مشيخة الطريقة، “عُرف بتبحره في العلوم الشرعية واللدنية، وجمعه بين الشريعة والحقيقة، إلى جانب إشعاعه الفني من خلال فرقة السماع البودشيشية التي تجاوز صداها حدود الوطن، حيث اعتُبر السماع عند الشيوخ ركنا أساسيا من أركان الطريقة، ووسيلة للتطهير الروحي وتهذيب القلوب”.