مع دنو موعد الاستحقاقات الانتخابية التشريعية بالمغرب يتجدد النقاش داخل الساحة الأمازيغية حول السُبل والآليات الأنسب لتعزيز المكاسب التي حققتها القضية الأمازيغية وحمايتها من التراجع، في ظل تعدد المقاربات وتباين الرؤى بين الفاعلين على هذا المستوى، بين من يظل وفيا للفعل المدني باعتباره قوة هادئة ومؤثرة، قادرة على الترافع المستقل، وطرح مختلف القضايا الجوهرية دون الخضوع لحسابات الأحزاب أو رهاناتها الانتخابية، وبين من يؤمن بأن العمل السياسي والحزبي هو المسار الأكثر إستراتيجية لممارسة تأثير حقيقي يخدم الأمازيغية.
وحتى داخل معسكر المؤمنين بجدوى العمل السياسي والحزبي يبرز اختلاف واضح في الرؤى والرهانات؛ فهناك من يدفع بقوة في اتجاه اقتحام الأحزاب القائمة والعمل من داخلها لفرض الأجندة الأمازيغية والتأثير في قراراتها وبرامجها، بينما يرفض آخرون هذا المسار، مستندين إلى ما يصفونه بـ”فشل” التجارب السابقة التي خاضها فاعلون أمازيغيون داخل الأحزاب، إذ انتهت، في نظرهم، إلى التهميش أو الاستغلال الانتخابي، وهو ما يدفعهم إلى الدفع باتجاه تأسيس حزب بمرجعية أمازيغية قادر على تمثيل القضية بشكل “مستقل وصريح”.
عبد الله بادو، عضو المكتب التنفيذي للشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة “أزطا”، قال إن “الإشكالات التي تطرح على مقربة من الانتخابات، أو خلال بعض المحطات المرتبطة بالنضال من أجل الأمازيغية في المغرب، هي تلك المتعلقة بمنطلقات هذا النضال، فهناك الداعمون والمخلصون للطرح المدني الذي أعطى الشيء الكثير للأمازيغية في العقود الأخيرة رغم محدودية آلياته، وهناك نزوعات للدفع في اتجاهات معينة، سواء بالانخراط في الأحزاب القائمة أو بتأسيس آلية سياسية جديدة”.
وأوضح بادو، في تصريح لهسبريس، أن “منطلق النضال من داخل الأحزاب السياسية القائمة أثبت قصوره ومحدوديته، وعدم قدرة الفاعل الأمازيغي الذي يشتغل من داخل هذه التنظيمات السياسية على التأثير في قراراتها، وهناك تجارب عديدة في هذا الشأن”، مسجلاً أن “الأحزاب السياسية تستغل فقط الظرفية الانتخابية لاستقطاب بعض الفاعلين الذين يتم تهميشهم بعد الانتخابات، أو في أحسن الأحوال يتم منحهم مناصب داخل هياكل التنظيمات دون أن يكون لهم أي تأثير”.
وشدد المتحدث ذاته على أن “حسابات الأحزاب السياسية رهينة بعدة عوامل، وأغلبها لا تضع الأمازيغية في صلب أولوياتها، والدليل أن الأحزاب التي تقود التحالف الحكومي فشلت حتى في تنزيل مضامين القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية المنبثق عن الدستور”، مبرزاً أن “جميع الأحزاب، باختلاف مرجعياتها، إما تناصب العداء المباشر للأمازيغية أو تحاول تحييد بعض الفاعلين من الحركة الأمازيغية من خلال استقطابهم من أجل تحقيق توازنات انتخابية لحظية”.
وفي ما يخص الدعوات إلى تأسيس حزب بمرجعية أمازيغية ذكر عضو المكتب التنفيذي للشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة “أزطا” أن “الحديث عن تأسيس آلية سياسية جديدة يتكرر منذ أكثر من عقدين من الزمن دون أن ينجح المؤمنون بهذا الطرح في مأسسة تحركاتهم، لأن الفاعل الأمازيغي لا يمتلك الإمكانيات الذاتية ولا الموضوعية لبناء آلية سياسية قوية لمواجهة الأحزاب الأخرى”.
وتابع الفاعل الأمازيغي ذاته بأن “تأسيس آلية سياسية جدية يفتقد إلى شروط النجاح الضرورية، لذلك فإن المبادرات من هذا النوع لا تتجاوز مستوى الإعلان عن النوايا، لكنها لم تخطُ بعد خطوات عملية، باستثناء بعض التجارب التي سارت في هذا الاتجاه ولم يُكتب لها النجاح، لعوامل متعددة، منها التضييق من جانب السلطة، كما حدث مع حزب تامونت للحريات”.
إلى ذلك أكد المتحدث أن “الفعل المدني يظل السبيل المتوفر والأنسب للنضال والضغط، فرغم ضعف إمكانياته فإنه على الأقل يقوم بأدوار مشاكسة ومنتقدة للكل، وله الجرأة في طرح قضايا لها صلة بالأمازيغية في مختلف المجالات”، معتبراً أن “الحديث عن حزب بمرجعية أمازيغية هو خطاب غير واضح، وليست لديه مرتكزات دقيقة متقاسمة مع الجميع، ولا يستوعب طبيعة الصراع السياسي في المغرب؛ ثم إن الأمازيغ عبر التاريخ أسسوا إمارات وممالك وإمبراطوريات وفق أنظمة حكم مختلفة، وبالتالي ليس لدينا نموذج أو مرجعية واحدة يمكن العمل على إحيائها”.
عبد الله بوشطارت، عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي، قال إن “المغرب اختار التعددية الحزبية والسياسية منذ عقود، ورسخ مبدأ الاختيار الديمقراطي في الدستور كأحد الثوابت الأساسية للدولة”، مضيفًا أن “الحقل السياسي والحزبي في المغرب وُلد بأعطاب بنيوية نسميها أخطاء النشأة والولادة، فالأحزاب السياسية نشأت في سياق سياسي صعب تمثل في الصراع من أجل الاستقلال في زمن الاستعمار، ثم الصراع مع الدولة بعد ذلك، حيث كانت سِمتها البارزة هي تورط النخب السياسية والحزبية في التيارات الأيديولوجية الخارجية والمستوردة”.
وأوضح بوشطارت أن “الخيط الناظم لهذه الأحزاب التي تهيمن إلى حد الآن على الحياة السياسية بسلفييها ويسارييها وإسلامييها هو العروبة والقومية العربية والإسلاموية، وهي أيديولوجيات مستوردة كانت تستهدف بالدرجة الأولى الأمازيغية في جميع أشكالها وامتداداتها لغةً وحضارةً وثقافةً ومجالًا وقوانين، وأيضًا كانت تستهدف كل الخصوصيات المغربية، منها طبيعة التدين المغربي، أي الإسلام الأمازيغي، عن طريق محاربة الزوايا والطرق، ومواجهة حتى النظام آنذاك، ومنها التي تمادت مع تيارات القومية العربية المتطرفة واصطفت مع الانفصاليين الذين يعادون الوحدة الترابية للمغرب”.
وشدد المتحدث، في تصريح لهسبريس، على أن “النسق الحزبي المغربي الحالي مبني على التمييز وعلى إقصاء الأمازيغية، واليوم بعد تحولات سياسية واجتماعية ودستورية وثقافية عميقة عرفها المغرب في العقود الأخيرة تشكّل وعي سياسي داخل أوساط الشباب والفاعلين، وداخل فئات واسعة من المجتمع المغربي تريد ممارسة السياسة وفقًا لتصورها وتحليلها الخاص للأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووفقًا لفكرها وفلسفتها السياسية ومنطلقاتها الفكرية والأيديولوجية، وهي ما نسميها المرجعية الأمازيغية”.
وتابع الفاعل الأمازيغي نفسه: “هذا حق طبيعي يكفله الدستور لجميع المغاربة. ثم هل تريد هذه الأحزاب القائمة، ومعها السلطة أيضًا، أن تحشرنا في أحزاب سياسية لا علاقة لنا بها ولا ارتباط فكريا ولا أيديولوجيا لنا بها؟”، معتبرًا أن “السياسة حقل حر لتدبير الاختلاف والتعددية، وليست حقلاً لتكريس الهيمنة والسلطوية والتبعية”، وزاد: ما دمنا نؤمن بالقانون وباحترام الدستور فإن لنا الحق في تأسيس أحزاب تعبّر عن هويتنا الأيديولوجية والسياسية وعن روح ثقافتنا وحضارتنا”.
وأردف بوشطارت: “إذا كنا حقيقةً مقتنعين بضرورة الجيل الجديد من الأفكار والمشاريع، وإذا كان نتحدث عن تجديد الحياة السياسية وإشراك الشباب والنساء ومحاربة العزوف، فعلينا فتح الباب للأفكار الجديدة والنيرة والخلاقة التي تجتهد في بناء تصورات جديدة للعمل السياسي. أما الحديث عن استقطاب واحتواء بعض الفعاليات الأمازيغية داخل بعض الأحزاب، ومحاولة هذه الأخيرة استهلاك بعض مطالب الحركة الأمازيغية، فأعتقد أنها تجربة فاشلة ولم تحقق إلا الفشل الكبير”.
وأشار المتحدث إلى أن “من يتابع ما يجري في أوروبا والعالم وأفريقيا وآسيا سيلاحظ صعود الأحزاب الجديدة أو التي تحمل خطابًا جديدًا، وانهيار اليسار والأحزاب الاشتراكية؛ فالأحزاب التي تحمل الخطاب الوطني والقومي وذا أسس الهوية والثقافة والبيئة هي التي تتصدر المشهد، وصعود اليمين في أوروبا يعطي إجابات شافية وموضوعية حول التحول الكبير الذي تعرفه السياسة في العالم”، مبرزًا أنه “لا ينبغي أن نغفل أن الوضع السياسي والحزبي الذي نعيشه في المغرب استثنائي في العالم، وربما يتقاسم الوضع نفسه جيراننا في شمال إفريقيا، حيث السياسة تقتل الثقافة، والأحزاب تهدم الإنسان بقطع لسانه وتفكيك هويته وعزله عن محيطه الثقافي والحضاري”.
وخلص عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي إلى أن “ما نقترحه في المشروع المجتمعي والحضاري الكبير بمرجعية أمازيغية هو بناء فكر سياسي جديد مبني على فلسفة سياسية مغايرة لما هو سائد في السياسة المغربية، وإنتاج خطاب سياسي نقدي بناء، ينطلق من الحضارة الأمازيغية وثقافتها، والاشتغال على تحيين المؤسسات السياسية والاجتماعية الأمازيغية، وإعادة توظيفها لتواكب العصر”.
في سياق ذي صلة اعتبر رشيد بوهدوز، المنسق الوطني لـ”أكراو من أجل الأمازيغية”، عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة، أن “النضال السياسي الأمازيغي ليس خيارًا طارئًا ولا انحرافًا عن المسار، بل هو امتداد طبيعي للتراكم النضالي للحركة الأمازيغية، وانتقال واعٍ من الفعل المدني إلى الترافع الحقوقي، وصولًا إلى الترافع السياسي”، مضيفًا: “نحن اخترنا هذا المسار عن قناعة، لأننا نؤمن بأن التأثير الحقيقي في القرار العمومي لا يتم إلا من داخل المؤسسات. أمّا من يختزل النضال السياسي في ‘استغلال الأمازيغية’ فهو يقدّم قراءة مبسطة وسطحية لآليات العمل السياسي، متجاهلًا أن قضيتنا عادلة ومشروعة ومرتبطة بالسياق الإستراتيجي للدولة، وليست ورقة انتخابية ظرفية”.
وزاد بوهدوز: “نحن نعي أيضًا طبيعة المشهد السياسي والانتخابي؛ فتيارات أصولية وشعبوية تملك قدرة أكبر على الحشد الجماهيري، والمنطق الانتخابي كثيرًا ما يدفع الأحزاب إلى مجاراة ما هو شعبوي على حساب القضايا المبدئية”، مبرزًا أن “الأمازيغية، شأنها شأن المساواة والحريات، تواجه مقاومة قوية من هذه التيارات التي ترى فيها تهديدًا لأيديولوجياتها المستوردة؛ لهذا نعتبر أن الترافع عن هذه القضايا ليس بحثًا عن الأصوات، بل التزام وطني واختيار إستراتيجي، حتى إن كان ثمنه صعبًا انتخابيًا”.
وأضاف المصرّح لهسبريس: “لا يمكن إنكار أن الفعل المدني كان له دور أساسي في المسار التاريخي لإنصاف الأمازيغية، خاصة في المراحل التأسيسية التي سبقت الاعتراف الدستوري، حيث شكّل المجتمع المدني قوة ضغط وحافظ على زخم المطالب؛ لكن يجب أن نكون صريحين: الأمازيغية هُمِّشت سياسيًا، وتُحارب سياسيًا، وبالتالي إنصافها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القرار السياسي، وهذا يقتضي وجود مناضلين داخل المؤسسات قادرين على تحويل المطالب إلى سياسات عمومية وقرارات ملزمة”.
وأبرز الفاعل الحزبي ذاته أن “الأمازيغية اليوم في مرحلة دقيقة، ولم يعد كافيًا الاكتفاء برفع الشعارات أو تنظيم الحملات الرمزية، بل نحن بحاجة إلى فاعلين قادرين على حمل هذه المطالب إلى قلب المؤسسات، والتفاوض بشأنها، وصياغتها في شكل سياسات عمومية وبرامج تنفيذية، لأن من يملك سلطة القرار هو من يحدد في النهاية ما يتحقق على أرض الواقع”، معتبرًا في الوقت ذاته أن “النقاش حول تأسيس حزب أمازيغي كان له ما يبرره في العقود التي سبقت ترسيم الأمازيغية، لكن اليوم، ومع العناية السامية التي يحظى بها الملف، لم يعد مقبولًا أن نحصر الأمازيغية في حزب ميكروسكوبي يشرعن مزيدًا من التهميش. فالمبدأ واضح: أي حزب يناهض الأمازيغية لا مكان له في المغرب، لأنه غريب عن هذه التربة، ويجب أن تتم مساءلته وحله، لا أن نختبئ خلف واجهة ضيقة”.
وسجّل المتحدث أن “التجارب العالمية والتحديات القانونية والسياسية في المغرب أثبتت أن الأحزاب ذات المرجعية العرقية أو اللغوية المحددة غالبًا ما تعزل القضية وتضعها في ‘غيتو سياسي’، بدل أن تجعلها قضية وطنية جامعة، لذلك فإن الخيار الأكثر إستراتيجية اليوم هو اقتحام الأحزاب الوطنية القائمة وفرض الأجندة الأمازيغية من داخلها، حتى تصبح جزءًا أصيلًا في خطابها وبرامجها وممارساتها”.
وخلص بوهدوز إلى أن “تجربة حزب الأصالة والمعاصرة خير دليل على أن هذا الخيار مجدٍ وقابل للتكرار”، مردفا: “لقد اخترنا العمل داخل أكبر حزب في المغرب، وتمكنا، رغم الصعوبات والإكراهات، من التأثير في مواقف الحزب وبرامجه وقراراته، وإدراج الأمازيغية ضمن أولوياته الحقيقية، لا كشعار انتخابي”، مشددًا على أن “واقع اليوم ليس بحاجة إلى مزيد من التنظير أو الأوراق الموسمية التي تُرفع مع كل استحقاق انتخابي، بل إلى مناضلين صادقين وعمليين ينخرطون بعمق في العمل الحزبي من الداخل، حتى نصل إلى الهدف الأسمى، أي ‘تمزيغ’ الحياة السياسية برمتها، وجعل الأمازيغية رافعة أساسية لمشروع وطني حداثي جامع، لا مجرد شعار عابر”.