آخر الأخبار

سينما الأمريكي جارموش .. رباعية البطء والمزاج والتأمل والتفاصيل العابرة

شارك

تنتمي سينما جيم جارموش إلى ضفة مغايرة في عالم السينما الأمريكية المستقلة، فهي لا تعاند النمط الهوليودي السائد؛ بل تصنع لنفسها لغة سردية وبصرية قائمة على البطء والتأمل والتفاصيل العابرة. ويعتبر الكثيرون هذا المخرج من شعراء السينما المعاصرين، لا يقدّم قصصا تقليدية أو حبكات درامية متوترة؛ بل يذهب إلى الهامش، وإلى الشخصيات التي لا تجد مكانا في أفلام السوق، ويعيد الاعتبار لزمن سينمائي داخلي تسكنه الغرابة والصمت والحنين والكوميديا السوداء. والسؤال هو: لماذا يركز جارموش على هذه السردية الفنية دون أن يبتعد عنها؟

السيمفونيات الهادئة

تنبني سينما جارموش (من مواليد 1953 أوهايو/ الولايات المتحدة الأمريكية) على تفكيك إيقاع السرد المألوف لصالح بناء حكائي مفتوح ومتشظّ يضع الزمن في مواجهة ذاته. ولا تسعى الشخصيات عنده إلى هدف واضح، ولا تتغيّر بشكل تقليدي؛ بل تعيش تفاصيلها اليومية في نوع من التكرار المملوء بالدلالات. ولا يعوّل المخرج على العقدة أو النهاية بقدر ما يهتم بالرحلة في ذاتها، بالمكان كمكوّن جمالي وبالحوار كوسيلة للكشف عن العبث والتناقض الإنساني. وتعتبر أفلامه كأنها سيمفونيات هادئة، وتمنح كل شخصية وقتها في البوح والتأمل والتحلل البطيء من ثقل العالم.

مصدر الصورة

ويغيب في سينما جارموش، التسارع لصالح تمطيط الوجود ذاته، وتنتمي كل لقطة عنده إلى ما يمكن تسميته بسينما “اللحظة”، حيث لا شيء عظيم يحدث؛ لكن كل شيء يتحول إلى سؤال حول المعنى واللاجدوى. وتضع أفلامه المتلقي في موضع تأملي، تُجبره على التماهي مع بطء العالم، على الاستماع لصوت الريح في الشوارع الخالية، على الإصغاء لحوارات تبدو عابرة؛ لكنها تنطوي على قدر كبير من العمق الساخر. ولا تمثل السينما عنده فقط مرآة للحياة؛ بل لحظات معلقة بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، بين التهكم والحزن.

ويتكرر في سينماه مفهوم الترحال والضياع، حيث تتجول الشخصيات دون خريطة واضحة، عابرة للمدن وللغات وللثقافات. ويرسم في فيلمه “ليل على الأرض” (1991) خمس قصص منفصلة في مدن مختلفة؛ لكن ما يجمعها هو السيارة كفضاء عبور والشخصيات كغرباء داخل مدن معزولة. ونلتقي في فيلم “رجل ميت “(1995)، برحّالة أقرب إلى شبح، يعيش رحلة موت بطيئة في غرب أسطوري مفكك. وتتجلى السينما في فيلم “حدود السيطرة “(2009)، كحلم فلسفي حيث الغريب يتنقل في مشهدية فيلمية غامضة بحثا عن شيء لا يُفصح عنه، في نوع من التأمل البصري حول الوجود والسلطة والهوية.

ويطرح جارموش رؤى فنية ترتكز على التهجين، إذ يوظف الموسيقى بوصفها عنصرا سيميولوجيا حاسما، ويستعين بموسيقيين مثل توم وايتس ونيل يونغ ليس فقط لتأثيث الصوت؛ بل لبناء مزاج الفيلم ذاته. كما أن اشتغاله مع ممثلين غير نمطيين، مثل جون لوري وروبرتو بينيني وفورست ويتيكر، يساهم في خلق شخصيات غير قابلة للتصنيف؛ شخصيات تبدو وكأنها تنتمي إلى عالمٍ بين الحلم والواقع. ولا تشرح حواراته الفيلمية بل تهمس، لا تسرد بل تشكك، وتكون غالبا غارقة في الفلسفة والعبث.

مصدر الصورة

ولا تبدأ قصص جارموش من الصراع بل من الغرابة. ويجمع في فيلم “قهوة وسجائر” (2003)، مثلا، بين شخصيات تتحدث عن لا شيء تقريبا؛ لكن اللاشيء هذا يتحول إلى شبكة من المفارقات عن العلاقات الإنسانية والاستهلاك والهوية الثقافية. ويقدم في “كلب الشبح.. رجل ساموراي” (1999) قاتلا مأجورا أمريكيا يعيش وفق تعاليم الساموراي الياباني، في خلط ساخر للثقافات والرموز؛ لكنه يكشف عن انكسار داخلي وغربة وجودية. ويرصد فيلم “باترسون” (2016) حياة سائق حافلات يكتب الشعر، حيث لا شيء استثنائي يحدث سوى الطقوس اليومية التي تتحول إلى شعر صافٍ.

سينما التكرار والاختزال والتقاطع

ترتكز هذه السينما على التكرار والاختزال والتقاطع. وتشتغل على التكرار في العبارات والسلوكيات بإعادة خلق الطقس نفسه لا الحدث. ويصنع الاختزال في السرد الفيلمي فراغا دلاليا يتوجب على المشاهد أن يملأه، ويتجلى التقاطع في تشابك الشخصيات والقصص رغم بعد المسافات الجغرافية والنفسية. وتبقى الكاميرا عنده ثابتة غالبا، تنظر إلى الشخصيات من بعد، وكأنها تراقب دون تدخل. وتكون الإضاءة غالبا طبيعية أو شبه قاتمة، بما يعكس مزاجا داخليا من الغموض والانكفاء.

وتقوم سينما جارموش على هوية بصرية تعتمد على اللون الأحادي أحيانا كما في فيلم “رجل ميت” بالأبيض والأسود، أو على تناقضات لونية حادة تعكس العزلة والتوتر الداخلي. ويبدو الزمن عنده مشوّشا؛ لكنه واقعي. ولا يمثل المكان ديكورا؛ بل شخصية ثالثة تتفاعل مع الحوار والشخصية. كما أنه يشتغل على الموسيقى والفراغ الصامت، كما يشتغل على الكلمة. ولا ينمو الفيلم عنده بالحوار وحده، بل بالصمت أيضا.

مصدر الصورة

وتثير سينما جارموش إشكاليات تتعلق بالهوية والانتماء والوجود. ولا تنتمي شخصياته إلى أي مكان محدد، هي دائما في طور الانتظار أو العبور في العالم غير منسجم، مفتّت، مليء بالفجوات. ويرفض هذا المخرج الميلودراما ويرفض الانفعال، وتقترب سينماه إلى التأمل البوذي في عبث العالم منها إلى السرديات الكبرى. وفي زمن تُضغط فيه الصورة وتسارع اللقطات وتُختزل المعاني، يصرّ جارموش على تقديم سينما بطيئة، متأملة، تحتفي بالتفاصيل، وتستفز المتلقي فكريا وجماليا.

ويعتبر جارموش أحد أبرز المخرجين الذين أعادوا الاعتبار للشخصيات الصغيرة، وللقصص غير المُروى عنها، وللزمن المهدور. وتقدم أفلامه رسائل غير مباشرة عن الغربة، عن اللامعنى، عن الحنين، عن الجمال الذي يختبئ في المقهى، في القصيدة المهملة، في ابتسامة غريبة، أو في لحظة صمت داخل سيارة أجرة. ويقول جارموش في أحد حواراته: “لا أبحث عن القصص، بل أبحث عن المزاج”. وهذا المزاج هو ما يمنح سينماه فرادتها وجمالها المربك.

ولا تقدم سينما جارموش طبقا سينمائيا للجميع؛ لكنها تظل نخبوية وواحدة من أكثر التجارب السينمائية فرادة، لأنها ترفض أن تكون متاحة، وتفضل أن تكون مرآة لحساسية إنسانية شديدة الخصوصية. وتأخذ هذه سينما شكل الحكاية؛ لكنها تمحو أثرها لتترك فقط بقايا، أسئلة، مشاهد، ووجوه تمشي في العتمة دون وجهة واضحة لكنها تعرف أنها ليست وحدها.

مصدر الصورة

سينما الانشغال بالذوات

لا يمثل البطل في سينما جيم جارموش النموذج الكلاسيكي الذي يحرك الأحداث ويسيطر على مصيره بقوة الإرادة أو الحيلة أو البطولة؛ بل هو في الغالب كائن غريب عن محيطه، يعيش في الظل ويمر في الحياة مرور العابرين، ولا يبحث عن المجد ولا عن انتصار؛ بل عن لحظة صفاء أو عن معنى غائم يتشكل في تفاصيل عابرة. ويشبه بطله الشاهد أكثر مما يشبه الفاعل، ويسير في عالم غير متناسق دون أن يملك القوة على تغييره، لكنه في صمته وتردده وعزلته يقدم صورة إنسانية عميقة تمس جوهر الوجود.

ويقدم في فيلم “رجل ميت” جارموش شخصية ويليام بليك التي يؤديها (جوني ديب) ليس باعتباره بطلا تقليديا؛ بل كغريب يسير نحو موته عبر فضاء الغرب الأمريكي الذي لا يشبه أي غرب سينمائي آخر.

وهو رجل يهرب من مطاردة عبثية بعد جريمة لم يخطط لها، ليجد نفسه في قلب رحلة تتحول إلى تأمل طويل في المصير والموت يقول بليك في أحد المشاهد بينما يتهادى على مركب الموت: “لم أعد أرى الحدود بين الحلم والحقيقة كل شيء صار ضبابا”، وهذا الضباب هو المكون الرئيسي لبطله.

مصدر الصورة

في فيلم “أشباح الكثافة” أو “طريقة الساموراي ” (1999) حسب التسمية في الترجمة العربية، نجد شخصية فورست ويتيكر في دور قاتل مأجور يعيش وفق تعاليم الساموراي ويتكلم لغة الشعر ويكتب رسائل إلى سيده كما لو كان راهبا في عزلة قاتلة؛ لكنه لا يبدو كمن يستمتع بالقتل بل كمن يؤدي طقسا وجوديا غامضا يقول في لحظة صمت أمام طائر صغير: “هذا الطائر لا يعرف لماذا يغني لكنه يغني هكذا أنا”. ويتحول هنا البطل إلى استعارة للحيرة الوجودية وللخضوع لإيقاع لا يفسَّر.

أما في فيلم “باترسون”، فالبطل هو سائق باص يكتب الشعر في خفية، ويعيش حياة مكرورة وهادئة مع زوجته وكلبه، ويلاحظ التفاصيل الصغيرة ويكتب عنها في دفتر لا يشاركه مع أحد يقول في أحد نصوصه: “أعواد الثقاب قد تبدو تافهة لكنها تحمل النار في أطرافها”. ولا يفعل هذا البطل شيئا عظيما؛ لكنه يمنح اليومي عمقه وجماله، يكتب الشعر كمن يحفر في الصمت، وفي الزمن، وهو بذلك يمثل جوهر رؤية جارموش لشخصياته.

ونجد في فيلم “قهوة وسجائر” شخصيات تتحدث عن مواضيع تبدو بلا أهمية؛ لكنها في عمقها تكشف هشاشة الإنسان واختلافه وتوقه للفهم. في أحد الحوارات، يقول توم وايتس لصديقه في مقهى: “نحن لا نحتاج إلى الحديث فقط لنملأ الفراغ، بل لنعترف بوجوده”. وتختزل هذه الجملة فلسفة البطل عند جارموش، لا يتحدث البطل ليُسمع بل ليبقى حيا.

ويكون البطل في سينما جارموش غالبا ساكنا في مدينة تعج بالصخب؛ لكنه لا ينتمي إليها، فهو غريب ولو كان في وطنه، وهو منفصل حتى حين يكون محاطا بالناس. ولا يسعى إلى تغيير العالم بل إلى أن يفهمه أو أن يتقبله أو أن يعيش فيه بأقل قدر من الخسائر. ولا يملك البطل بطولة سوى تأمله وحنينه وسكوته، وهو بهذا يقف ضد كل أنماط الأبطال الذين يملكون الخلاص أو يحققون الانتصار والمجد.

وتمشي شخصيات جارموش ببطء كأنها في حلم طويل لا تلتفت كثيرا إلى الخارج بقدر ما تنشغل بذواتها، وتطرح الأسئلة ولا تتلقى إجابات محببة لها؛ لكنها لا تتورط في حب ملتهب. وهي شخصيات تراقب العالم، وتمنحه معنى عبر سلوكها لا عبر نتائج أفعالها. وهي شخصيات لا تُنسى لأنها لا تحاول أن تكون عظيمة؛ بل لأنها تظل إنسانية بشكل مؤلم.

وهذا البطل الشاعر، الصامت، الغريب، والمنعزل هو امتداد لرؤية جارموش السينمائية التي ترى في العالم مكانا غريبا، وفي العزلة شكلا من أشكال النجاة، وفي السكون فعلا جماليا يضاهي الانفجار. وهو بطل لا يحتاج إلى المعارك؛ بل إلى لحظة صمت تقول فيه الكاميرا كل شيء.

سينما البساطة وكسر التوقعات

تتأسس سينما جيم جارموش على كسر التوقعات ورفض النموذج الكلاسيكي للقص وتفكيك الحبكة التقليدية لصالح سردية تأملية غير متعجلة. ولا تدخل الشخصيات في صراع مألوف، ولا تنشد نهاية حاسمة؛ بل تمضي في عالم متشظٍ مليء بالصدف والفراغات، حيث لا هدف واضح سوى الاستمرار في العبور. ولا يقود السيناريو عنده القصة؛ بل يتبعها كما لو أن الأحداث تتكون من تلقاء نفسها بتلقائية وجودية منحت أفلامه طابعا روحيا خفيا.

ولا يحدث شيء في فيلم “باترسون” مثلا، فهو شخصية، يستيقظ في الوقت ذاته، يذهب إلى العمل في خط السير نفسه، ويكتب الشعر في خفية ويمرر الأيام كما يمر نهر صامت، ومع ذلك تولد في هذا التكرار سردية غامضة وهادئة تحتفي بالشعر والملاحظة والتفاصيل يقول باترسون: “أكتب لأن الأشياء الصغيرة هي التي تصنع العالم لا أحد ينتبه، لكنها هناك تنتظر من يرى”.

وتقوم سينما جارموش على حوار يتجنب المباشرة، ويغلب عليه الغموض والفلسفة والعبث. ولا يعتبر الحوار وسيلة لنقل المعلومات؛ بل أداة للكشف عن هشاشة الإنسان وتناقضه وعن سخرية الوجود الذي يمر دون أن نفهمه تماما. في فيلم “أشباح الكثافة” حين يسأل أحدهم البطل عن سبب قراءته لسفر الساموراي فيقول بهدوء: “في عالم بلا شرف نحتاج إلى طقس ينقذ ما تبقى من المعنى”.. ولا تشرح الكلمات هنا؛ بل تومئ، واللغة تصبح فعل مقاومة للعالم المتشظي.

وتقوم سينما جارموش بصريا على البساطة والمراقبة والزمن الطويل. ولا تمثل اللقطة وسيلة نقل سريع؛ بل تجربة حسية قائمة على الثبات والتركيز. وتتحرك الكاميرا ببطء تلتقط الوجوه من مسافة، وتمنح المكان صفة الحضور الفعلي. ويستخدم الألوان بحذر أو يلجأ إلى الأبيض والأسود ليضفي طابعا وجوديا، كما في فيلم “رجل ميت” الذي يتحول فيه الأبيض والأسود إلى عنصر تأملي حول الموت والعزلة. يقول ويليام بليك: “أنا ميت لكني أتنفس، ما الغاية من ذلك، لا أعلم”.

ولا تقوم سينما جارموش على المستوى الجمالي على الزخرفة؛ بل هي سينما شعورية قائمة على الإيقاع الداخلي للمشهد، وعلى التوتر بين الحركة والسكون وعلى الموسيقى التي تصاحب الصمت كما لو كانت نغمة داخلية للروح. ويعمل المخرج على تلوين العزلة دون صراخ، ويمنح الكآبة بُعدا جماليا رفيعا. في فيلم “قهوة وسجائر”، يتحول فنجان القهوة إلى موضوع تأمل ووسيلة حوار وفي لحظة عبثية يقول أحدهم: “ربما كل هذا لا معنى له؛ لكننا نواصل الحديث حتى يبرد الفنجان”.

وتقوم الهوية الفنية في أفلامه على المزاج لا على الحبكة، وعلى الإيماءة لا على التفسير، على التأمل لا على الانفعال، إنها سينما تمنح المتلقي مكانا ليجلس ويتأمل بصمت عالما يمر أمامه دون أن يسعى إلى امتلاكه.

سينما البحث عن الاقتصاد الروحي

تطرح سينما جيم جارموش أبعادا متعددة تتداخل فيها الأسئلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية والرمزية في نسيج سردي وبصري هادئ وغير دعائي؛ لكنها مع ذلك قادرة على الغوص في عمق الإنسان والهامش والواقع عبر شخصيات غريبة عن العالم أو مهمشة أو منفية داخليا. ويعيش أبطاله على أطراف المدن في الغالب خارج مركز السلطة والقرار بعيدين عن الصخب السياسي الظاهري؛ لكنهم يحملون في وجودهم الهامشي نقدا دفينا للبنية الاجتماعية والسلطوية والاقتصادية السائدة.

وترتكز أفلام جارموش على شخصيات تفتقر اجتماعيا إلى التواصل الجوهري مع الآخر، وغالبا ما تكون خارج السرديات السائدة؛ مثل: السائق والقاتل المأجور والعامل والمهاجر والشاعر المتخفي، وهي شخصيات غير مركزية لا تمثل الطبقة البرجوازية ولا تعيش داخل مؤسسات الإنتاج التقليدية؛ بل تحوم في فضاءات غير آمنة تبحث عن معنى في عالم مجزأ. وينعكس هذا البعد في فيلم “ليل على الأرض” حيث يتنقل المشاهد بين مدن مختلفة وسائقين من خلفيات اجتماعية متنوعة، وتكشف من خلال حواراتهم عن اغتراب الطبقات العاملة عن مراكز القرار وعن أوجاعهم اليومية وصراعاتهم الصامتة.

ولا يأتي عبر المواقف المباشرة أو الخطابات السياسية الصريحة؛ بل عبر اللغة البطيئة للملاحظة والتركيز على التفاصيل اليومية التي تُهمل عادة في الأفلام السياسية. وتظهر المقصدية السياسية من خلال اختيار الأماكن والشخصيات والعلاقات الطبقية والعرقية كما في فيلم “رجل ساموراي” حيث يقدم شخصية سوداء تعيش في قاع المدينة وتنفذ أوامر سلطة خفية دون أن تفهم من المستفيد؟ أو لماذا تفعل ما تفعل؟ وكأنها ترميز لحالة المواطن المهمش الذي تحركه قوى لا يراها ولا يستطيع فهمها، في فيلم “حدود السيطرة”(2009)، يتجلى البعد السياسي بشكل أكثر رمزية حيث الشخصية الرئيسية تتنقل بين المدن لتفكيك بنية السلطة في عالم ما بعد الحداثة دون أن يتضح للجمهور الهدف النهائي لهذا السعي؛ مما يعكس تفكك المعنى السياسي في زمن العولمة وتداخل المراقبة والسلطة والهوية.

ويبرز البعد الاقتصادي في حياة شخصياته التي تكاد دائما تكون تحت خط الاستقرار. وتعيش الشخصيات على الهامش، وتشتغل في مهن مؤقتة أو دون هدف اقتصادي واضح كما في فيلم “باترسون” حيث يعيش البطل حياة بسيطة لا يسعى فيها إلى الصعود الطبقي؛ بل إلى التناغم الداخلي عبر الكتابة والروتين اليومي. ويحمل هذا الاحتفاء بالحياة المتواضعة والبسيطة في طياته نقدا للمجتمع الاستهلاكي وللرغبة الدائمة في التملك والترقي المادي، وهو اقتصاد من نوع آخر اقتصاد روحي يجعل من البساطة فضيلة ومن الروتين ملاذا، مبتعدا عن الضجيج الاستهلاكي.

وتنزلق شخصيات جارموش في الجوانب النفسية في عوالم داخلية مليئة بالأسئلة والشكوك والتردد. ولا تُقدَّم الذات فيها ككتلة متماسكة بل ككيان هش يحاول النجاة أو التعايش مع غموض العالم، حيث يتحول بطل فيلم “رجل ميت” إلى كائن هائم بين الحياة والموت، لا يدرك إن كان حيا أو ميتا. وتعيش شخصية “أشباح الكثافة”، وفق طقوس صارمة؛ لكنها غارقة في الحنين والارتباك الداخلي وكأن النفس البشرية عند جارموش لا تُقاس بوضوح الهوية بل بعمق القلق واللايقين. وهو لا يقدم المرض النفسي بل الوحدة / العزلة كحالة إنسانية جوهرية والانعزال ليس خللا بل نمط وجود.

وتشكل الأماكن والأشياء حضورا دلاليا ورمزيا، فهي سينما شديدة العمق، فالسفر ليس انتقالا بل حالة تأمل، والقهوة والسجائر ليست عادة بل طقس تواصلي. ولا يمثل الصمت نقصا بل مساحة رمزية للمعنى الغائب. ولا يمثل القطار أو الحافلة أو السيارة فقط وسيلة نقل؛ بل فضاء وجوديا يعبر فيه الإنسان ذاته أكثر مما يعبر العالم كل حركة بطيئة أو نظرة شاردة أو مقطع موسيقي.

وتتحول السينما إلى رمز لشيء أعمق، غير مصرح به بشكل مباشر، ففي فيلم “قهوة وسجائر” مثلا تصبح الطاولة التي يجتمع حولها الناس مرآة لاختلافاتهم الثقافية والنفسية وفي فيلم “باترسون” تتحول الكتابة إلى معادل رمزي للنجاة من التفاهة اليومية ومن الانهيار النفسي.

وسينما جارموش بهذا المعنى هي سينما ضد الصخب، تقدم العالم في اختزالاته المريحة أو في سردياته الكلية؛ بل تصر على تتبع الإنسان في تفاصيله الصغيرة، وفي حزنه الصامت، وفي علاقته الهشة بالزمن واللغة والآخر. وهي سينما تبحث في القاع، لا في القمة، وفي الصمت لا في الصوت، وفي الهامش لا في المركز وتفكك العالم لا لتعيد تركيبه بل لتضعنا أمام عبثه وجماله وانكساراته بدون ضجيج؛ لكنها بعمق نادر وصوت داخلي لا ينسى.

تبدو سينما جيم جارموش كما لو أنها تمشي في الاتجاه المعاكس لصخب العالم، هي لا تبحث عن الأجوبة بل تحتفي بالأسئلة. لا تُسلِّي بل تُنصت، ولا تُقدّم المعنى جاهزا بل تتركه يتكوّن من الصمت والتكرار والعزلة. وتمشي شخصياته في شوارع فارغة أو تجلس في مقاهٍ باردة أو تنتظر في محطات نائية وكأنها تفتش عن ذاتها في مرايا الآخر أو في الفراغ. ولا يمثل الزمن عنده تسلسلا بل لحظة تأمل ولا تمثل الحكاية مسارا؛ بل مزاجا، ما يجعل إشكاليات سينماه تتمثل في رفضها للحبكة المغلقة وللأبطال المنقذين وللمعنى المباشر.

إنها سينما تتحدى الصبر وتتطلب الإصغاء والبصيرة، إنها سينما الهامش والوجوه غير المألوفة والكلمات المنطوقة، كأنها حلم وفي لحظة صمت. يقول بطل فيلم “رجل ميت” وهو يحدق في نهاية رحلته: “أظن أنني عبرت الآن؛ لكنني لا أدري هل كنت حيا أصلا أم كنت مجرد ظل يبحث عن نفسه”.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا