في نوفمبر 1604، عُرضت مسرحية عُطَيْل لأول مرة أمام الملك جيمس الأول في قصر وايتهول في لندن، أحد أهم قصور الحكم في إنجلترا آنذاك. تدور أحداث المسرحية حول القائد الموري عُطَيْل، الذي خدم في جيش جمهورية البندقية وتميز ببطولاته العسكرية وسمعته النبيلة. يتزوج عطيل في السر من ديدمونة، ابنة سيناتور بارز، متحديًا الأعراف الاجتماعية والفوارق العرقية والثقافية. لكن أحد ضباطه، “ياجو”، وهو شخصية ماكرة وحاقدة، يستغل ثقة عطيل فيه ليزرع الشكوك في قلبه حول إخلاص ديدمونة له. تحت ضغط الغيرة والخيانة المزعومة، يُقْدِم عطيل على قتل زوجته ثم ينتحر، لتصبح القصة مأساة كلاسيكية عن الثقة، والخداع، والانهيار النفسي.
هذه القصة ليست مجرد حكاية عن الغيرة الزوجية، بل هي أيضًا دراسة عميقة للعلاقات بين الأعراق والثقافات، وللصورة التي كان يحملها الأوروبيون عن “المور” أو سكان شمال إفريقيا. لكن لفهم خلفية هذه المسرحية، علينا النظر إلى السياق التاريخي أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، خاصة العلاقات بين المغرب السعدي وإنجلترا الإليزابيثية.
في أواخر القرن السادس عشر، كانت إنجلترا البروتستانتية تحت حكم الملكة إليزابيث (الأولى) تعيش فصول مواجهة سياسية ودينية حادة مع إسبانيا الكاثوليكية، التي كانت أكبر قوة بحرية آنذاك. بدأت جذور الصراع حين طلَّق هنري الثامن (والد إليزابيث الأولى) كاثرين أراغون، ابنة الملوك الكاثوليك في إسبانيا، وتزوج آن بولين، مما أدى إلى انفصال إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية (حين لم يوافق البابا على الزواج) وترسيخ المذهب البروتستانتي. وكانت إسبانيا في أواخر القرن السادس عشر، تحت حكم الملك فيليب الثاني تعتبر نفسها ـــ ويعتبرها كثيرون في أوروبا ـــ الحصن الأقوى للمذهب الكاثوليكي في مواجهة المد البروتستانتي. وقد مهَّد هذا الانقسام الديني، الذي كان مُرْفَقاً بالتنافس السياسي والاستعماري ودعم إنجلترا للبروتستانت ضد إسبانيا، الطريق للمواجهة الكبرى بين إليزابيث الأولى وفيليب الثاني ملك إسبانيا آنذاك.
وفي الوقت نفسه، كان المغرب السعدي بقيادة السلطان أحمد المنصور الذهبي قوة إقليمية مزدهرة، غنية بالذهب والسكر، ومتصلة بشبكات التجارة عبر الصحراء والمحيط الأطلسي. مكانته القوية جعلته طرفًا مهمًا في التوازنات الإقليمية، وموضع اهتمام القوى الأوروبية الساعية للتحالفات والمكاسب التجارية.
العدو المشترك ـــ إسبانيا ـــ خلق تقاربا بين المملكتين. فقد كانت إسبانيا تحتل بعض المواقع على السواحل المغربية (مثل العرائش وأصيلا)، كما كانت تتوسع في العالم الجديد وتسيطر على طرق التجارة البحرية. هذا التقاطع في المصالح دفع إليزابيث الأولى وأحمد المنصور إلى تبادل الرسائل والهدايا والوفود. وكانت الصادرات المغربية نحو إنجلترا تشمل السكر، والبارود (الملح الصخري)، والذهب، فيما كانت إنجلترا تصدر الأقمشة الفاخرة والأسلحة والخبرة البحرية.
وعلى سبيل الذكر، وفي إطار المراسلات الدبلوماسية المكثفة بين السلطان أحمد المنصور الذهبي والملكة إليزابيث الأولى في تسعينات القرن السادس عشر، طرح السلطان فكرة غير مسبوقة تمثلت في إقامة مشروع استعمار مشترك في “العالم الجديد”، يستهدف مناطق النفوذ الإسباني في الأمريكتين. كان الاقتراح يقوم على أن يوفر المغرب الموارد العسكرية والبحرية، فيما تسهم إنجلترا بخبرتها الملاحية، على أن يتم تقاسم الغنائم والمكاسب التجارية بين الطرفين. هذا الطرح، الذي وثّقه المؤرخ جيري بروتون، يعكس الطموح الاستراتيجي للمغرب السعدي في توسيع نفوذه الأطلسي وكسر احتكار إسبانيا والبرتغال لطرق التجارة والمستعمرات عبر البحار، كما يبرز مدى الجرأة والانفتاح في العلاقات المغربية–الإنجليزية خلال تلك المرحلة.
في هذا الإطار، أرسل السلطان أحمد المنصور في صيف 1600 سفيرَه عبد الواحد بن مسعود بن محمد الأنوري إلى لندن على رأس وفد يضم حوالي 16 شخصا. كانت مهمته واضحة: التفاوض على تحالف عسكري بين المغرب وإنجلترا ضد إسبانيا، وربما التخطيط لهجوم منسق على أراضيها.
وصل عبد الواحد إلى لندن في أغسطس 1600، وأقام عدة أشهر حتى أوائل 1601. تصفه المصادر الإنجليزية بأنه رجل طويل القامة، أنيق الملبس، مهيب، بارع في الخطابة والدبلوماسية. وقد أثارت هيئته وحضوره إعجاب سكان لندن، الذين لم يكونوا معتادين على رؤية سفراء مسلمين يمثلون دولاً قوية ذات سيادة.
كانت تلك الفترة في لندن عصرًا ذهبيًا للمسرح. فقد كانت مسارح مثل “ذا غلوب” و”ذا روز” تستقطب الجمهور من مختلف الطبقات. وكانت فرقة “رجال اللورد تشامبرلين” (التي أصبحت لاحقًا تسمى “رجال الملك” بعد تولي جيمس الأول الحكم) تضم شكسبير ممثلًا وكاتبًا، وريتشارد برباج كممثل رئيسي.
من المؤكد أن وجود شخصية مثل عبد الواحد بن مسعود في لندن كان حدثًا مثيرًا للخيال المسرحي. فهذا رجل من شمال إفريقيا، مسلم، يرتدي زيًا ملكيًا، ويتحرك في أروقة السلطة الإنجليزية، ويتحدث بندّية مع الملكة ومستشاريها. هذا النموذج الواقعي قد يكون أضاف بعدًا حقيقيًا لشخصية عطيل: قائد أجنبي في قلب عالم أوروبي، يحظى بالاحترام لكنه يبقى عرضة للشكوك بسبب أصله وثقافته.
رغم أن المصدر المباشر لمسرحية عطيل هو قصة إيطالية كتبها جيرالدي تشينثيو بعنوان “قائد مور”، إلا أن شكسبير لم يكتفِ بنقل القصة، بل أضاف لها تفاصيل واقعية وأبعادًا ثقافية. فشخصية عطيل في المسرحية ليست مجرد محارب غريب الأطوار، بل إنسان معقد، قوي وضعيف في آن واحد، قادر على نيل الإعجاب لكنه هش أمام الحيلة والمكيدة.
وجود عبد الواحد في لندن قدّم لشكسبير مثالاً حيًا على كيفية تفاعل شخصية مورّية رفيعة مع المجتمع الأوروبي، وكيف يمكن أن تكون في الوقت نفسه رمزًا للتحالف والقوة، وموضوعًا للريبة والتحفظ.
قبل قرون من تحليل إدوارد سعيد فكرة “الاستشراق” في القرن التاسع عشر، كانت أوروبا بالفعل تنتج صورًا عن العالم الإسلامي تجمع بين الإعجاب والخوف. المغرب، بخلاف العثمانيين، كان يُنظر إليه أحيانًا كشريك محتمل. لكن فكرة “الآخر المختلف” كانت حاضرة بقوة.
في عطيل، بدأ هذا التوتر واضحا: ديدمونة تنجذب إلى قصص عطيل عن مغامراته في الحروب والأسفار، بينما يستخدم ياجو خلفية عطيل العرقية لإثارة الشكوك حوله، واصفًا إياه بألقاب تحط من قدره. هذه الازدواجية ـــ الإعجاب والشك ـــ هي نفسها التي قد تواجه أي شخصية بارزة من ثقافة أخرى في بيئة غريبة عنها.
ربْطُ عطيل بزيارة عبد الواحد بن مسعود ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو إعادة كتابة جزء من تاريخنا الثقافي. إنه يذكرنا بأن المغرب في سنة 1600 كان لاعبًا دوليًا يحاور القوى العظمى بندّية، وأن ممثلينا كانوا يتركون أثرًا في الثقافة الأوروبية، ربما حتى في أعظم أعمالها الأدبية.
كما أن هذه القراءة تمنح الجمهور المغربي مدخلًا لفهم عطيل ليس كعمل بعيد وغربي بالكامل، بل كجزء من تاريخنا المشترك مع أوروبا، حيث التقت السياسة بالفن، والدبلوماسية بالإبداع المسرحي.
المغربي الذي سار في قاعات وايتهول سنة 1600 كان سفيرًا حقيقيًا لدولة ذات سيادة؛ والمغربي الذي اعتلى خشبة المسرح سنة 1604 كان قرينه الفني، محاصرًا بالتناقض نفسه: أن تكون ضروريًا ومؤثرًا، ومع ذلك موضع شك دائم.