هل كشفت التنقيبات الأثرية الجديدة بأحد أعرق الحواضر المغربية في العهد الإسلامي سجلماسة مسجد المدينة الجامع أم عمقت الأبحاث في الجامع المكتشف سلفا مع نتائج أخرى جديدة؟
عكس تأطيرات إعلامية لحصيلة الأبحاث بسجلماسة في سنتي 2024 و2025، فإن مسجد سجلماسة في الواقع مكتشف في أبحاث أثرية سابقة، وما كشفته البعثة المغربية هو أن البعثة الأمريكية قد غفلت أبحاثها عن أضعاف حجم المسجد التي كانت تابعة له، مدقّقة بذلك جزءا من تاريخ الحاضرة المغربية التاريخية، التي كانت مركزا ماليا وحضاريا، والتي تعاقبت على تدبيرها سلالات متعددة في العهد الإسلامي.
وتعد هذه الأبحاث الأثرية المغربية بالكامل، التي يشرف عليها المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث التابع لوزارة الثقافة، الأوسع في تاريخ الموقع الأثري الموجود بمحاذاة مدينة الريصاني في جهة درعة تافيلالت، بإشراف علمي من عالم الآثار لحسن تاوشيخت في مرحلة أولى، ثم بإشراف من عالمة الآثار أسماء القاسمي بعد ذلك.
ووفق دراسة سبق أن نشرها المتخصص في سجلماسة لحسن تاوشيخت، فإن التحريات الأركيولوجية الأولى بموقع سجلماسة تعود إلى بداية سبعينات القرن العشرين تحت إشراف مصلحة الآثار بالرباط، وعرف الموقع ابتداء من سنة 1971 حفريات إيطالية، تلتها حفريات من طرف وزارة السياحة والأشغال العمومية سنة 1974، ثم تحريات مختبر للخزفيات، وصولا إلى حفريات في سنة 1990 أماطت اللثام عن السور الغربي لمدينة سجلماسة وجمع معطيات جديدة حول الصناعة الخزفية في تلك الفترة.
و”من أهم الأبحاث التي أنجزت بموقع سجلماسة”، وفق الدراسة، الحفريات الأمريكية في مواسم 1988-1998، برئاسة رونالد ميسيي، التي أظهرت تنقيباتها “في المسجد الجامع أنه يعتبر من المعالم العمرانية التي تحظى دائما بعناية الحاكمين والمحكومين على السواء (…) ولعل هذا ما يفسر المستويات الأثرية المتنوعة التي كشفت عنها الحفريات، والتي تمثل سجلا تاريخيا لمراحل البناء والإصلاح بالمسجد، على مرور مختلف العهود”.
وقد كشفت تلك الحفريات النقاب عن “أربعة مستويات مختلفة: مستوى ينتمي إلى ما قبل وصول المرابطين أو إلى فترة سيطرتهم النهائية على سجلماسة قبل القرن العاشر الميلادي. ومستوى توسيع المسجد في عهد الموحدين في القرن الثاني عشر الميلادي. ثم مستوى التجديد على يد السلطان مولاي إسماعيل في نهاية القرن 17 أو بداية القرن الثامن عشر. ومستوى إعادة البناء من طرف السلطان سيدي محمد بن عبد الله نهاية القرن الثامنة عشر الميلادي”.
إذن، ما الذي تضيفه الاكتشافات الأثرية الجديدة لفهم سجلماسة؟ تجيب أسماء القاسمي، الأستاذة بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث المشرفة على الأبحاث الأثرية: “مع تعميق الأبحاث داخل المسجد، وتوسيع البحث انطلاقا منه، اكتشفنا أن القراءات السابقة كانت خاطئة، وأن المسجد الوسيطي قد كانت مساحته أكبر خارج الأسوار، تقدر بستة أضعاف المسجد الأصلي المكتشف”.
وتابعت القاسمي في تصريح لهسبريس: “قدمت نتائج الأبحاث الأمريكية مسجدا صغيرا، تساءلنا مرارا: هل مدينة بحجم وإشعاع سجلماسة كان لها مثل هذا المسجد؟ والآن صححنا هذه النتائج غير الدقيقة للبعثة الأمريكية”.
وواصلت رئيسة البعثة المغربية الأولى بالكامل إلى موقع مدينة سجلماسة الأثرية: “تحدثت النصوص التاريخية التي كتبت عن سجلماسة عن أساس مسجد. وإذا كنا في علم آثار ما قبل التاريخ لا نتوفر على نصوص، فإنه عند دراسة المرحلة الإسلامية مثلا لدينا نصوص تاريخية عن الفترات التاريخية للمسجد وتوسعاته، وتتحدث المصادر عن مسجد بني في عهد اليسع بن بني مدرار، ونعرف فترة حكم اليسع، وهو مسجد أقدم من جامع القرويين”.
إذن، تعمل البعثة الأثرية “بالموازاة مع النصوص التاريخية، التي علينا إظهار صحتها أو خطئها. فمثلا أقدم مسجد بالمغرب وفق النصوص التاريخية يوجد في وليلي، لكنه لم يكتشف بعد”، وفق تصريح المشرفة العلمية على البعثة الأثرية المغربية لجريدة هسبريس الإلكترونية.
يذكر أن أحدث الاكتشافات الأثرية المعلنة قد كشفت “أسس مجمّع ديني، يضمّ مسجدا من العصر الوسيط تبلغ مساحته نحو 2620 مترا مربعا، ويتسع لما يقارب 2600 مصلّ”، وهو مسجد “يغطي عدة طبقات بنائية متعاقبة، تمتد من المسجد الأصلي لبني مدرار، الذي أُسس في عهد أبي المنتصر اليسع، أواخر القرن الثامن الميلادي وأوائل القرن التاسع الميلادي، مرورا بالمرحلتين المرابطية والموحدية، بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، والمرحلة المرينية، في القرن الرابع عشر، وصولا إلى المسجد العلوي الذي لا تزال بعض عناصره المعمارية قائمة حتى اليوم”.
ومن بين ما كشفته الأبحاث “قالب خزفي لا تزال تجاويفه تحتوي على آثار من الذهب، كان يُستخدم لصناعة الأقراص النقدية الذهبية، مما يثبت بوضوح استخدامه في سك الدينار الذي اشتهرت به سجلماسة عبر التاريخ”، وهو ما قدّرت البعثة الأثرية أنه “أول دليل مادي لدار سكة سجلماسة التي “لطالما شكلت لغزا أثريا مثيرا للاهتمام، حيث سعى العديد من علماء الآثار الذين تعاقبوا على البحث في الموقع إلى العثور على أدلة مادية تثبت نشاط سك العملات الذهبية بها”.
ومن بين ما شملته “التنقيبات الأثرية الشاسعة” بموقع سجلماسة كذلك، “اكتشافات مهمة تعزز فهمنا للنسيج العمراني للمدينة”، حيث كشف لأول مرة عن “حي سكني كامل يعود إلى العصر العلوي، بين القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، يتكون من 12 منزلا بُني على أنقاض صحن المسجد القديم، وفق مخطط موحد، مما يعكس نظاما عمرانيا منظما”.