آخر الأخبار

أحمد نورالدين يكتب: محمد السادس.. 26 عاما التي حسمت النزاع حول الصحراء - العمق المغربي

شارك

استعادة كل التفاصيل التي صنعت التغيير خلال 26 عاماً من حكم محمد السادس في نزاع الصحراء المغربية، وتحول المسار نحو الطيّ النهائي للملف وإقبار المشروع الانفصالي الذي ترعاه الجزائر منذ نصف قرن بالمال والسلاح والنفط والغاز والبروبكاندا، ليس بالتّمرين السهل لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. ذلك بأنّ هذه المرحلة التاريخية من عمر الصراع كانت حافلة بالأحداث والمطبات والمنحنيات والمعارك على كل الجبهات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والثقافية مما يجعل هذا التمرين يندرج ضمن توصيف “المهمات الشاقة” إن لم نقل “المستحيلة”، والتي ستستغرق سنين ذوات العدد من الأبحاث الرصينة السياسية والأكاديمية، الجماعية والفردية، للوصول إلى تفكيك مفردات وشِفرة التحول الاستراتيجي الذي قاده الملك الواحد والعشرون من الأسرة العلوية الشريفة.

ومع ذلك يمكن أن نقول بأنّ تاريخ 5 مارس 2002 شكل منعطفاُ حاسماً في استراتيجية محمد السادس نحو الحسم في قضية الصحراء، ذلك بأنه عقد لأول مرة مجلساً وزارياً خارج العاصمة الرباط في مدينة الداخلة عاصمة إقليم وادي الذهب، ولا شكّ أن هذا الحدث جسد بكل قوته الملموسة والرمزية معنى السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية للمملكة، وبعث في نفس الوقت رسالة واضحة إلى العالم وبكل اللغات أنّ الصحراء الغربية جغرافياً المغربية سياسيا وتاريخيا ستظل مغربية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وفي ذلك ردّ مباشر على مقترح تقسيم الصحراء الذي تقدم به الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للمبعوث الأممي جيمس بيكر الذي قدمه في تقرير الأمين العام الأممي حول الصحراء في فبراير 2002. وهو المقترح الذي رفضه المغرب جملة وتفصيلا برسالة رسمية للأمم المتحدة، كما أن جلالة الملك أعاد التأكيد في خطاب العرش سنة 2003 على أن مقترح التقسيم أسقط التبريرات الواهية التي تضلل بها الجزائر الرأي العام الدولي حول مبدأ “تقرير المصير” المزعوم.

لقد شكلت سنة 2002 بحق، نقطة التحول الكبرى في مقاربة الحزم من أجل الحسم التي سينتهجها المغرب خلال العقدين الماضيين. وغني عن البيان أنّ خطاب الحزم الذي ستجسده الخطب الملكية فيما بعد كان له الفضل في توضيح دول العالم مواقفها من سيادة المغرب على الصحراء، فالتساهل الذي كان يتعامل به المغرب شجع الكثير من الدول على تبني مواقف “المنزلة بين المنزلتين” للاستفادة من صفقات النفط والغاز مع الجزائر راعية المشروع الانفصالي، وفي نفس الوقت عدم القطيعة مع المغرب صاحب الشرعية التاريخية.

وقد توالت خطابات الحزم كما هو معروف وتدرجت في حدتها، من خطاب المسيرة الخضراء سنة 2009 الذي أعلن فيه جلالة الملك أنّ “المغرب لن يتنازل عن حبة رمل من الصحراء”، إلى خطاب سنة 2022 الذي قال فيه أنّ “المغرب ينظر بنظارات الصحراء” إلى علاقاته مع باقي دول العالم، والموقف من سيادة المغرب على الصحراء هو “المعيار الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”. وبين هذين التاريخين سنجد الكثير من الخطابات التي طالبت دول العالم بتوضيح مواقفها وأكدت أن المغرب لا يتفاوض على صحرائه، وأنّ مغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات.

لذلك كله شكّل المجلس الوزاري في الداخلة سنة 2002 ذلك المَعْلم البارز لفهم كل المقاربات والمبادرات الاستراتيجية والتكتيكية التي ستأتي بعده. ومن خلال رسالته السيادية يمكن فهم كل المنعرجات التي سيتخذها المسار الطويل للوصول إلى محطته النهائية، ويمكننا أيضاً من تفهم كل النّقلات التي سيقوم بها المغرب على رقعة الشطرنج العالمية قبل الإعلان عن “كش ملك” يوم 10 دجنبر 2020 باعتراف واشنطن بسيادة المغرب الكاملة على إقليم الصحراء، لتتوالى بعد ذلك المواقف المؤيدة للموقف المغربي وعلى راسها الاعتراف الفرنسي في الذكرى الفضية لعيد العرش سنة 2024 مع الحمولة الرمزية لاختيار التوقيت.

من هذه الزاوية يمكن أن ننظر إلى كل المبادرات المغربية بما في ذلك مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في أبريل 2007، فقد كانت خطة ذكية لشن هجوم مضاد من أجل حشد الدعم الدولي خلف الموقف المغربي. فالحكم الذاتي فتح المجال للدول التي انزلقت وانساقت وراء البروبكاندا الجزائرية، أن تراجع مواقفها دون حرج سياسي أو دبلوماسي. فالمقترح يتماشى مع القانون الدولي ومع الشرعية الأممية، ويُمكّن تلك الدول من الحفاظ على ماء وجهها. وهذا ما حدث فعلاً من خلال تراجع عدد الدول التي كانت تعترف بجمهورية تندوف من حوالي 76 دولة أو يزيد، إلى أقل من 28 دولة معظمها دول ميكروسكوبية يمكن ابتزازها وشراء مواقفها.

وبعد أن استنفذت ورقة “الحكم الذاتي” مهمتها أو تكاد، انتقل المغرب في التمهيد لمرحلة الطي النهائي بالاعتراف بسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه الجنوبية، وكانت “ضربة المعلم”، التي لو يتوقعها لا خصوم ولا أعداء المغرب، هي الاعتراف الأمريكي بالسيادة الكاملة للمغرب على الساقية الحمراء ووادي الذهب بوثيقة رسمية نُشرت في السّجل الرسمي الأمريكي، ووزّعت كوثيقة رسمية على أعضاء مجلس الأمن الدولي.

وقد حاولت العديد من الدول إعطاء تفسير مغرض للموقف الأمريكي بأنه مجرد سحابة صيف عابرة وستمر بعد خروج “دونالد ترامب” من البيت الأبيض واستلام الديمقراطيين مقاليد الرئاسة في فبراير 2021. وقد أعلنت وزيرة الخارجية الإسبانية آنذاك أرانشا لايا أنّ إسبانيا طالبت إدارة “جو بايدن” بمراجعة الاعتراف ولكنها اصطدمت بالحائط، وتسببت في أزمة غير مسبوقة مع المغرب، انتهت بخروج الوزيرة من الحكومة تمهيداً لمصالحة مدريد مع الرباط سنة بعد ذلك.

وطبعاً جربت الجزائر أيضاً حظها من خلال تمويلها “لوبي” في الكونغرس يتكون من 27 سيناتوراً وجهوا رسالة إلى بايدن، ولكنها انتهت في سلة المهملات، وجنّدت الجزائر بالبترودولار أزيد من 130 جمعية في القارات الثلاثة أوربا وأمريكا وإفريقيا لتوجيه رسالة مماثلة دون جدوى، وكذلك كان مصير رسالة وجهها البرلمان الجزائري بغرفتيه إلى الرئيس الأمركي بايدن.

لم يكن من السهل الوصول إلى هذه النتيجة دون استراتيجية ملكية ظهرت ملامحها الأولى سنة 2002، ولكنها ترجمت إلى تحالفات دولية وعلى رأسها التحالف المغربي الخليجي المعلن عنه في ابريل 2016، ثم تنويع الشركاء الاستراتيجيين من الصين إلى موسكو مروراً بالهند والبرازيل ونيجيريا وكينيا وإثيوبيا وغيرها كثير. كما أنّ مبادرات المصالحة واليد الممدودة التي أطلقها العاهل المغربي تجاه الجزائر، ورفض هذه الأخيرة وتصعيدها وقطعها العلاقات مع المغرب، وحشد جيشها على الحدود وقرعها طبول الحرب، والاعتداءات المتكررة على المزارعين والمواطنين المغاربة في المناطق الحدودية من واحة العرجا بفكيك إلى شاطئ السعيدية على البحر الأبيض المتوسط، وابتزازها للدول وسحب السفراء وتجميد الاتفاقيات، كل ذلك ساهم في تعرية النظام العسكري الجزائري، وفضحه أمام العالم وبالتالي ضرب طوق العزلة حوله إفريقيا وعربيا ودوليا.

إلى جانب ذلك لم تخل الاستراتيجية الملكية من عناصر أخرى نذكر منها عودة المغرب إلى المنظمة الإفريقية سنة 2017 والذي مكن من تحييد الدور الجزائري الهدام داخل هذه المنظمة التي تحولت في غياب المملكة إلى منصة دولية للدعاية المغرضة للمشروع الانفصالي، وقد وصل تأثيرها إلى الأمم المتحدة نفسها.

ولكن الصورة لن تكتمل دون استحضار الإصلاحات السياسية والديمقراطية التي عرفها المغرب خلال هذه الفترة، وتجربة الإنصاف والمصالحة التي أعطت إشعاعاً ومصداقية للمغرب فتحت أمامه العديد من الأبواب المغلقة في المنظمات الدولية والدول الديمقراطية، ليس في أوربا وحدها بل في أمريكا اللاتينية أيضاً وآسيا وإفريقيا.

وموازاة مع ذلك استطاع المغرب أن يبرهن للعالم جديته ومصداقيته على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد تحول المغرب إلى نمر إفريقي مثل النمور الآسيوية في عقد الثمانينيات من القرن العشرين، واستطاع أن ينتج نموذجا إفريقيا لِما يمكن أن تكون عليه الدول الصاعدة في القارة السمراء، ولِما يمكن أن يكون عليه التعاون جنوب-جنوب.

وأكثر من ذلك نجح العاهل المغربي من خلال “السياسة الإفريقية” التي بنى تصورها الاستراتيجي، ونفذ برامجها على الأرض، أن يحول “نزاع الصحراء” من عائق للتنمية وقطيعة بين المغرب وعمقه الإفريقي، كما كانت تخطط له الجزائر، إلى جسر حقيقي بين المغرب وكل الدول الإفريقية، مما أثمر شراكات استراتيجية بين الرباط والجهات الأربع للقارة، بما فيها المناطق الأنجلو-سكسونية والليزوفونية التي لم يسبق للمغرب أن تعامل معها. فتحول المغرب في أقل من عقدين إلى ثاني أكبر مستثمر إفريقي على صعيد القارة والأول على مستوى غرب إفريقيا. وهذا الوضع فتح أعين الأفارقة على حقيقة النزاع في الصحراء الذي يخفي وراءه صراعاً بين مشروعين متناقضين:

مشروع تقوده الجزائر رأسماله الشعارات الإيديولوجية الجوفاء التي تعود لفترة الحرب الباردة، يهدف إلى زعزعة الاستقرار والنفخ في الحركات الانفصالية التي لا تخلو منها منطقة في القارة السمراء، ويحتضن المليشيات المسلحة، ويتاجر باللاجئين ويتخذهم رهائن، ويهدم وحدة الدول ويؤجج الانقسامات والنزاعات المسلحة، ويعيق في النهاية تقدم القارة السمراء، ويحول دون بلوغ أهدافها المُسطّرة في أجندة 2063 في التنمية والوحدة والأمن والازدهار.

ومشروع آخر مختلف تماما عن الأول، تقوده المملكة المغربية وتجسده بالملموس في الميدان من خلال المساهمة في تنمية مستدامة للقارة، وتنفيذ المشاريع والبرامج في مختلف مناطق إفريقيا، وضخ الاستثمارات والمساهمة في حفظ السلام وحل النزاعات، ودعم ركائز الأمن الروحي من خلال إمارة المؤمنين، والمشاركة في تعزيز الأمن ومحاربة التطرف والإرهاب والجريمة المنظمة، واستقبال عشرات الآلاف من أبناء القارة للتكوين والتعليم وبناء القدرات سنوياً في جامعات ومعاهد المغرب، وادماج المهاجرين جنوب الصحراء في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمملكة، وترجمة الوحدة والاندماج الإفريقي إلى مشاريع عملاقة مثل أنبوب الغاز الأطلسي..

أكيد أنّ مجرد المقارنة بين المشروعين ستظهر للدول الإفريقية الفرق بين دولة فاشلة تعتمد على الريع وتريد تعميم نموذجها في الهدم والحرب والإفلاس الاقتصادي، ودولة تريد تقاسم تجربتها في التقدم والسلم والازدهار. وهذا لوحده كفيل بحسم النزاع في الصحراء الذي تفصلنا عنه محطتان اثنتان لا غير: طرد الكيان الوهمي من الاتحاد الإفريقي وإصدار قرار في اللجنة الرابعة بالأمم المتحدة يؤكد مغربية الصحراء.

وبذلك سيكون محمد السادس قد حسم الملف نهائياً، بعد أن حسمه والده الحسن الثاني عسكرياً منذ انتهائه من بناء الجدار الأمني في الصحراء. وبين هذه المحطة وتلك حسم المغرب النقاش حول الشرعية التاريخية بالحجة والبرهان، وحسم الإدماج الاجتماعي بإشراك النخب المحلية في تدبير الشأن المحلي والوطني، وحسم التنمية الاقتصادية بالنموذج التنموي الفريد الذي جعل كبريات المدن الجزائرية تغار من العيون والداخلة، كما دفن المغرب الأطروحة الانفصالية بعودة كبار مؤسسي الجبهة الانفصالية وشيوخ تحديد الهوية وأزيد من 12 ألف لاجئ بمخيمات تندوف، وهذا في حدّ ذاته أكبر استفتاء يتحقق مشياً على الاقدام وليس بمجرد إلقاء أوراق في الصناديق.

العمق المصدر: العمق
شارك

الأكثر تداولا اسرائيل حماس فلسطين

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا