آخر الأخبار

"أسير مجهول في بلاد البربر".. مغاربيون وتاريخ واستشراق وعبيد أوروبيون

شارك

عودة تحليلية لمصدر استشراقي نشر في القرن 18 الميلادي ترجمه حديثا إلى اللغة العربية محمد دخيسي بعنوان “رسائل من أسير مجهول في بلاد البربر”، وصدر عن “منشورات الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة”، خلصت إلى أن “الخطاب الوصفي الذي اعتمده الكاتب لم يكن محايدا، بل تخللته أحكام جاهزة وصور نمطية غذّاها الشعور بالتفوق الحضاري الأوروبي، حيث تم تصوير السكان المحليين تارة كمتوحشين، وتارة كمثيرين للشفقة، دون الإقرار بندّيتهم أو بتعقيداتهم الثقافية والاجتماعية”، لكن “رغم ذلك، فإن هذه الرسائل تظل مصدرا تاريخيا مهما، لأنها تتيح للباحث فرصة لفهم كيف كان يُبنى ‘الآخر’ في الذهنية الغربية، خاصة في فترات التوتر السياسي والديني بين ضفتي المتوسط”.

وفي القراءة التحليلية للكاتب علاء كعيد حسب، للمصدر المترجم حديثا، نبه إلى أن “إعادة قراءة هذا النوع من النصوص اليوم لا يهدف إلى محاكمتها، بقدر ما يسعى إلى مساءلتها، وطرح الأسئلة حول ما تُخفيه من خلفيات فكرية وأيديولوجية. وهي دعوة أيضا إلى التعمق في دراسة الرحلات والنصوص الأجنبية التي تناولت مجتمعاتنا، باعتبارها مداخل لفهم الذات من خلال مرآة الآخر”.

وأورد الكاتب أن هذا العمل الذي كان عنوانه الأصلي: “رحلة إلى الممالك البربرية: المغرب، الجزائر، تونس وليبيا، أو رسائل من أحد الأسرى الذين تم افتداؤهم من قبل السادة رجال الثالوث المقدس؛ كاتب الرسائل مجهول”، يقول ناشره الفرنسي في مقدمته: “من المفيد جدا أن نتوفر على تاريخ دقيق من بلاد البربر، هذه البلاد التي كانت قديما ضمن مستعمرات الرومان (…) فالاكتشافات التي سنقوم بها هناك ستكون مفيدة للغاية: فهي ستمتع الإنسان المحترم وفي الوقت نفسه ستمده بأفكار نافعة لا حصر لها”.

وذكر الدارس أن أولى رسائل الأسير المجهول المؤرخة بتاريخ 21 يونيو 1781، استهلها من أسره بمدينة سلا، إلى والد حبيبته أوجيني “للتعبير عن حالة التضارب الأخلاقي والعاطفي التي كان فؤاده مسرحا لها، مباشرة بعد حصوله على موافقة الأب على الزواج من ابنته، وكيف كان نداء الواجب، رغم حبه الجارف، يسبق بمرتبة نداء القلب”، قائلا: “سيدي، عندما مننت علي برضاك، وغمرني الحب والزواج بالشرف العظيم، وحينما كنت أؤخر ذلك الموعد الذي كنت أرغب فيه بشدة لألبي نداء الشرف الذي كان يناديني (…) من كان يظن أنني كنت سأعاني أقسى المحن (…) كنت أقول لنفسي إن تخلفت عن نداء الشرف فلن أكون أهلا للزواج بأوجيني”.

واعتبر المحلل هذه الرسالة الأولى “وثيقة هامة تسلط الضوء على نشاط القراصنة في سواحل المغرب، وخاصة في مدينة سلا، التي كانت مركزا رئيسيا للقرصنة البحرية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. حيث تشكل هذه الأنشطة تهديدا مستمرا للسفن الأوروبية، بسبب مهاجمة القراصنة للسفن، وأسر ركابها لبيعهم في أسواق النخاسة. كما توضح بشكل تفصيلي، من وجهة نظر كاتبها، كيفية معاملة الأسرى الأوروبيين، حيث كانوا يُباعون كما تباع البهائم ويعاملون كعبيد لدى أسيادهم، مما يعكس واقع تجارة الرقيق في المنطقة خلال تلك الفترة”.

إلى جانب ذلك، “تقدم الرسالة معلومات قيمة عن البنية السياسية لمدينة سلا، حيث تكشف أن المدينة كانت تتمتع بنظام حكم شبيه بالجمهورية (…) كما تقدم وصفا دقيقا للحياة الاجتماعية والثقافية في المدينة، حيث يروي الكاتب تفاصيل عن عادات السكان، وطقوسهم الدينية، ومستوى معيشتهم، بالإضافة إلى إشارة مهمة حول استخدامهم للكتابة، وهو ما يعكس تميز سلا عن غيرها من المدن المغربية آنذاك”.

وتابع القارئ: “تعكس الرسالة أيضا طبيعة العلاقات بين أوروبا والدول المغاربية في تلك الحقبة، حيث تبرز حالة العداء المستمرة بسبب عمليات القرصنة والاختطاف. فقد كانت هذه النزاعات سببا في شن حملات عسكرية أوروبية متكررة ضد مدن الساحل المغاربي”.

أما الرسالة الثانية فبدأها كاتبها “بالتعبير عن افتقاده للحرية، التي هي العائق الوحيد بينه وبين العودة إلى بلاده وحبيبته أوجيني. رغم كونه عبدا، إلا أن لطفه وإخلاصه في العمل جعلاه يكسب ود سيده، الذي عرض عليه اعتناق الإسلام مقابل مكانة أفضل، لكنه رفض ذلك، ما زاد من احترام سيده له”.

ثم “بعد زيارة تطوان، توجه الكاتب، رفقة الباشا وسيده وحاشيتهما، إلى مكناس عبر أراضٍ قاحلة خطرة، حيث اضطروا إلى اتخاذ احتياطات ضد قطّاع الطرق والحيوانات المفترسة مثل الأسود والنمور. خلال الطريق، نزلوا في أسواق مؤقتة، حيث كان الباشا ورجاله يأخذون المؤن والهدايا دون دفع ثمنها، وفقا للعادات المحلية”.

وتقدم الرسالة وصفا مفصلا لقصر الملك في مكناس؛ إذ يشير الكاتب إلى أنه “مدينة قائمة بذاتها، تضم العديد من البنايات، الحدائق، والمساجد، مع شوارع مستقيمة وأعمدة رخامية، كما يصف جناح الملك وقاعات النوم المزخرفة والحمامات الفاخرة التي تستخدم المياه الساخنة المستمدة من العيون الطبيعية. كما يلفت الانتباه أيضا إلى جناح الملكة، الذي تحيط به سرية تامة، وإلى عدد هائل من الجواري اللواتي يقمن داخل القصر”.

وتروي رسالة الأسير “لقاءه بأسرى مسيحيين محتجزين في “القانوت”، وهو سجن الأسرى المسيحيين، وكيف يزورهم يوميا ليحثهم على الصبر، ويتأثر بمعاناتهم. لينطلق في ذلك في رواية قصة ضمن قصته (…) أسيرة إسبانية تُدعى دونا تريزا تتوسل لرؤيته، فذهب إليها ووجدها تبكي (…) أُسرت مع ابنتها أثناء سفرها للالتحاق بزوجها في مايوركا، ومنذ ذلك الحين عانت من العبودية القاسية، حيث حاولت الملكة إجبارها على التخلي عن دينها عبر الإغراءات المختلفة، لكنها رفضت بإيمان راسخ. ولمّا فشلت محاولات الملكة، تعرضت دونا تريزا لسوء معاملة الإماء السود، اللواتي قمن بضربها وحرقها بالنار”.

وتذكر الرسالة أنه “بعدما يئست الملكة من تغيير معتقدها، أخرجتها من القصر، لكنها بقيت أسيرة مع ابنتها. لاحقا، استدعيت مجددا إلى القصر، وبدأت تخشى أن تُنتزع ابنتها منها وتُدخل إلى الحريم الملكي، فاستبد بها الحزن ولم تجد وسيلة لإنقاذها”. ولهذا، “بحث الكاتب الراوي عن حل وقرر تزويج الشابة تريزا لأسير برتغالي، على أمل أن يُبعد ذلك اهتمام الملك عنها”، وهو ما نجح فيه.

أما ثالث الرسائل، فتحدث فيها الكاتب عن رحلته إلى فاس ومراكش، واصفا فاس بأنها “مدينة محاطة بأسوار متينة، وشوارعها واسعة، وطرقها عامرة بالأنشطة التجارية، كما كانت المدينة مركزا علميا، حيث كان العديد من العلماء والمفسرين للقرآن يدرسون فيها”، وقد اعتبرها “أكاديمية بلاد البربر”، وركز على “المساجد الكبرى التي كانت تتميز بمساحات واسعة وعدد ضخم من القناديل، فالعديد من المنازل في فاس كانت مبنية من الحجر والآجر، وبعضها كان مزخرفا بالصور والتماثيل”.

هذه المدينة “تحتفظ بجو من الزهو الثقافي، وكان سكانها يهتمون بالعلم والدين بشكل كبير (…) كانت النساء لا يدخلن المساجد خوفا من إثارة الفتن (…) كانت في الماضي أكثر ازدهارا خلال فترة الملوك الذين كانوا يعمرونها بالعلماء”.

أما مراكش “التي وصل إليها بعد خمسين يوما من السفر عبر مناطق قاحلة وجبال وعرة. فوصفها بأنها مدينة محاطة بأسوار عالية، مع قلاع وخنادق ضخمة تحيط بالقصر الملكي، وقال إنها كانت تتمتع في الماضي بجمال كبير بفضل المباني الرائعة، ومعابد ضخمة وقصور محصنة. وتحدث عن القصر الملكي في هذه المدينة، الذي كان محاطا بأسوار قوية ومزخرفا بحدائق جميلة تحوي أنواعا مختلفة من الأشجار، مؤكدا أن هذه المدينة العتيقة كانت واحدة من أكبر وأجمل المدن المغربية.

ومن بين ما تناولته الرسالة “طقوس شهر رمضان، الذي كان يمتد من الفجر حتى المغرب، حيث يمتنع المسلمون عن الأكل والشرب، ليعوضوا ذلك بكثرة الإفراط في الطعام بعد الغروب، ثم ذكر الاحتفال بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يتجمع المعلمون والتلاميذ في المساجد بعد العشاء حاملين مشاعل، ثم يتوجهون في موكب إلى الشوارع ويغنون مدائح للنبي محمد. كما تحدث عن هذا الاحتفال الذي يدوم لمدة ثمانية أيام، حيث كانت الطرقات تزين بالزرابي، وكان يُسمح للعبيد المسيحيين بالمشاركة في الاحتفال في فترة المساء. وأوضح الطقوس الدينية الأخرى مثل الصلوات الخمس اليومية، والوضوء قبل الدخول إلى المسجد، وطريقة أداء الصلاة التي تقتصر على الرجال فقط في المساجد”.

ومن بين ما اهتم به “حياة الرهبان والمجاذيب في بلاد البربر. واصفا المجاذيب بأنهم يعيشون حياة زهد وتقشف، ويقيمون قرب المساجد أو في المناطق النائية، حيث كانوا يحظون باحترام كبير من قبل الشعب”. كما “تحدث عن الأولياء، الذين كانوا يعتبرون من الأشخاص الصالحين، وكان الناس يقدمون لهم القرابين بعد وفاتهم”.

الرسالة الرابعة “المؤرخة في الكتاب بسنة 1780، والأصح أنها سنة 1782 بالنظر إلى تسلسل الأحداث”، حسب الدارس، روى فيها الأسير “تفاصيل رحلته برفقة سيده عبر المغرب أو بلاد البربر كما يسميها والجزائر خلال القرن الثامن عشر، موثقا بدقة المشاهدات التي التقطها خلال هذه الرحلة الطويلة”.

وقال: “تبدأ القصة بعد وفاة الحاكم السابق لمدينة تونس، حين قرر سيده قبول منصب الباشا داي الجديد، بعد إلحاح كثير من أصدقائه. وقبل مغادرته بمعية كل عائلته مدينة سلا، في السادس من يوليوز، أقيم له حفل ضخم استمر ستة أيام، حيث ذُبحت 400 شاة، ووزعت لحومها على السكان في أجواء احتفالية تخللتها عروض عسكرية واستعراضات بالخيول والأسلحة”.

وفصّل الكاتب “الطقوس الاحتفالية التي أُقيمت في مدينة سلا قبل مغادرة سيده لتولي منصب باشا تونس، حيث استمرت الاحتفالات مدة ستة أيام. بدأ الحفل بصلاة جماعية في المسجد الرئيسي للمدينة، تلتها زيارة ضريح أحد الأولياء، ثم عاد سيده إلى القصر ممتطيا جوادا فاخرا مزينا بصفائح ذهبية وفضية، تحيط به حاشية ضخمة من العبيد والموسيقيين، وخلال الاحتفال، تم ذبح الشياه ووزعت لحومها على السكان، في إشارة إلى الكرم والوفرة، كما أُرسلت بعض الذبائح إلى القادة المحليين كنوع من تعزيز العلاقات السياسية”.

ومن بين ما تضمنته الرسالة، حديث عن الوصول إلى تلمسان “أول الأقاليم الغربية لمملكة الجزائر، وجدوا مدينة محصنة وغنية بالمساجد والمدارس والمستشفيات، مع أراضٍ زراعية خصبة، حيث كان يتم تدريس الطب والرياضيات والتفسير في مدارسها. تابعوا الرحلة عبر ‘مليانة’ و’كوكو’ و’وهران’، حيث لفتت انتباه الكاتب، في رحلته، الغابات الكثيفة التي تعج بالحيوانات المفترسة، خاصة الأسود، والنمور والقردة والنعام”.

ثم “وصلت القافلة أخيرا إلى الجزائر العاصمة، التي وصفها الكاتب بأنها مدينة ذات موقع استراتيجي، قائمة على منحدر جبلي، بمبانيها البيضاء وأسوارها البحرية القوية. كانت المدينة تُعرف قديما باسم ‘جوليا قيصاريا’ خلال العهد الروماني، باعتبارها عاصمة موريطانيا، وقد أطلق عليها الأتراك اسم الجزائر. قدر عدد سكانها بأكثر من 100 ألف نسمة، وكانت تضم عشرة مساجد كبرى ومدارس وحمامات كثيرة. كان ميناؤها محصنا بمدافع قوية تحمي السفن التجارية والعسكرية، كما كان بها فنار يُرشد السفن القادمة”.

أما النظام السياسي في الجزائر فقد كان “خاضعا لحكم الداي، الذي يُنتخب من قبل الانكشارية ويتمتع بسلطة شبه مطلقة، مما منح الأتراك نفوذا واسعا على حساب السكان المحليين الذين كانوا مستبعدين من الحياة السياسية. القضاء كان سريعا في إصدار الأحكام، لكنه كان يميل لصالح الأتراك، سواء في القضايا التي تخص السكان الأصليين أو الأوروبيين المقيمين في المدينة”.

و”يتحدث الكاتب في رسالته عن الحياة الاجتماعية في الجزائر، حيث يبرز تفاوتا واضحا بين الطبقات، حيث ارتدى الأثرياء ملابس مزخرفة بالأحجار الكريمة، بينما اكتفى الفقراء بملابس بسيطة. كانت الحدائق المحيطة بالمدينة مليئة بالأشجار المثمرة، فيما كانت تربية الخيول والصيد باستخدام الفهود من الأنشطة الترفيهية للنخبة الحاكمة. وقد تمتع الأتراك في الجزائر بامتيازات واسعة، حيث لم يكونوا مطالبين بدفع الضرائب، بينما تحمل السكان المحليون أعباء مالية كبيرة”.

واستهل الأسير الرسالة الخامسة بالحديث عن “العرب وطبائعهم ومدى اختلافهم عن الأتراك، بعد لقائه بعدد كبير منهم أثناء رحلته بين الجزائر وتونس، حيث وصفهم بأنهم بدو رحل لا يملكون مدنا ولا منازل دائمة، بل يعيشون في خيام متنقلة تُعرف باسم ‘الدوار’، ويعتمدون على سرقة المسافرين وسلب القوافل والغنائم التي يجلبها غرق السفن، بينما يتصفون بالخمول والميل إلى السلب والسرقة” ورغم ذلك، “يعترف لهم ببعض الصفات الإيجابية، مثل الزهد في الحياة وعدم السعي وراء العظمة. أما النساء، فلهن عادات فريدة في التزيّن، حيث يستخدمن أسنان السمك وقطع الزجاج والوشم، ويتميز لباسهن بالبساطة”.

ومن بين ما وثقه “تبادل السلام بالوجه بين المتساوين، بينما ينحني الأفراد احتراما للشيخ أو الولي، وحتى الحيوانات، وفق تعبيره، تحظى بمكانة لديهم، فالكلاب تحمي من الأسود، والقطط تصطاد الأفاعي، وعند الموت، تقام طقوس الحزن بصراخ النساء وخدش وجوههن”.

وتحدثت الرسالة عن “مدينة تونس باعتبارها مدينة قديمة ذات تاريخ عريق منذ الإغريق والرومان، تمتد على مساحة واسعة وتحيط بها أسوار بسيطة؛ شوارعها عريضة لكنها تفتقر إلى النظافة، مما يسبب انتشار الأمراض. أكثر ما يميزها هو ‘البازار’، حيث تتراص المحلات تحت أقواس رخامية فاخرة، ويعرض التجار بضائعهم في مشهد يعكس ثراء المدينة. رغم ازدهارها، كانت تعاني من بعد مينائها وصعوبة ولوجه، ما اضطر السفن إلى تفريغ حمولاتها عبر مراكب صغيرة”.

وواصل: “أحاطت تونس بساتين خصبة من البرتقال والزيتون، وكانت منطقة ‘الباربو’ تشتهر بزهورها العطرة. في الجبال المجاورة، انتشرت الحيوانات البرية مثل النعام والقرود، أما أهل تونس، فكانوا يرتدون ملابس أنيقة، ونساؤها متعطرات وباذخات في زينتهن. اشتهرت المدينة بحرفها التقليدية، خاصة صناعة الأقمشة الرقيقة، وكان التجار الفرنسيون يقيمون في أحياء خاصة بهم”.

أما عند زيارته قرطاجة، فـ”شعر بحزن عميق لرؤية أطلالها، متأملا في مجدها الغابر، حيث كانت يوما مركز قوة تنافس روما، فتجول بين أنقاض المعابد والقصور”.

وهذه الرسالة “وثيقة تاريخية مهمة تعكس نظرة أوروبية استشراقية للعالم العربي والإسلامي في القرن الثامن عشر، حيث تقدم وصفا دقيقا للمدن المغاربية مثل تونس، الجزائر، بجاية، قسنطينة، وعنابة، مما يساعد في إعادة بناء صورة تلك المناطق خلال تلك الحقبة. كما تكشف الرسالة أيضا عن تصورات الكاتب حول العرب والبربر والأتراك من منظور استعلائي، مما يعكس الذهنية الأوروبية الاستعمارية آنذاك”.

وبعد وفاة “سيّده” وبيعه لآخر، وصف الأسير في رسالته الأخيرة طرابلس، وذكر أن “ميناءها كان جميلا ذا تصميم هلالي، تحيطه أسوار وحصون وقلاع، وكان يُستخدم كمرسى للسفن الحربية”، في “المدينة التي كانت تضم الأتراك والبربر واليهود، وكان أهلها يمارسون القرصنة بسبب موقعها الاستراتيجي على طريق التجارة”.

أما المدينة نفسها، “فقد كانت تبدو مهجورة بسبب الإهمال التركي، وخصوصا الأحياء القديمة التي كانت متهدمة، كما كان قصر فرسان مالطة المهدم يمثل شاهدا على تاريخها. بالقرب من هذه المدينة، اكتشف الكاتب قوس نصر روماني قديما، كانت تزينه نقوش لصور إمبراطورين وصور لذئاب”.

ونبه الدارس إلى أن الرسائل قد ضمّت مغالطات واضحة، من بينها “الحديث في رسالته الأولى عن سيطرة الأتراك على مدينة سلا، ولعله في ذلك، قصد ‘الحرناشيين’ وهم مجموعة من ‘الموريسكيين’ الذين طُردوا من إسبانيا بين عامي 1609 و1610، وينحدرون من منطقة هورناتشوس (Hornachos) الواقعة في إقليم إكستريمادورا الإسباني، التي عرفت بكونها أحد آخر معاقل المسلمين في الأندلس، حيث واجه سكانها اضطهادا شديدا من قبل السلطات المسيحية بعد سقوط الأندلس. وبعد هجرتهم إلى المغرب، استقروا في سلا وسلا الجديدة (الرباط)، حيث برعوا في الملاحة والتجارة، مما جعلهم قوة مؤثرة في النشاط البحري والقرصنة. وفي عام 1627، تحالفوا مع ‘المجاهد العياشي’ وأعلنوا استقلال سلا عن الحكم السعدي، مؤسسين ‘جمهورية سلا’ بنظام حكم ذاتي يقوده مجلس يعرف بـ’الديوان'”.

كما ذكر الباحث أن “جهل الكاتب الواضح بالأديان والعقائد جعله يأتي على ذكر ‘الصابئة’ كجزء من ساكنة مدينة سلا، رغم أن الصابئة باعتبارهم يؤمنون بأقدم وأول دين توحيدي حنيف عُرف على الأرض، منتشرون في بلاد الرافدين وفلسطين، ولا يزال بعض أتباع هذا الدين موجودين في العراق وأحواز إيران”.

وتابع المعلق: “إلى جانب المغالطات الدينية والسياسية، يعج النص بوصف سطحي لمظاهر الحياة الاجتماعية؛ إذ يركز الكاتب على المشاهد الاستهلاكية اليومية، مثل الأسواق، واللباس، والاحتفالات، دون الغوص في البنية الرمزية للمجتمع. كما أنه ينظر إلى ما يراه بعيني ‘الآخر المتفوق’ التي لا تعكس له سوى الفوضى، والكسل، والتخلف، وهي صور جاهزة لا تختلف كثيرا عن تلك التي وصف بها المستشرقون المشرق العربي وشمال إفريقيا عبر قرون. وفي هذا السياق، يؤكد عبد الله العروي في كتابه الإيديولوجيا العربية المعاصرة أن ‘الاستشراق لا يقدم حقائق، بل يقدم صورا مشوهة تنبع من الحاجة إلى الهيمنة'”.

وزاد: “في تحليل لمضمون الرسائل، نلاحظ أن الكاتب يحاول دوما تبرير معاناته بأسباب دينية أو حضارية، فيربط الأسر بالوحشية الإسلامية، ويتجاهل أن عمليات الأسر كانت في الاتجاهين، وأن الأوروبيين أنفسهم مارسوا القرصنة، ونفذوا هجمات على الموانئ المغربية”.

ونبه المعلق إلى أن “الكاتب يستعمل تعابير معينة مثل ‘البرابرة’ و’المسلمين المتوحشين’ و’البلاد غير المتحضرة’، وهي كلمات تتطابق مع القاموس الاستعماري الذي ساد لاحقا خلال فترات الغزو الفرنسي للجزائر وتونس والمغرب. وهذا ما يؤكد ما ذهب إليه محمد عابد الجابري في العقل السياسي العربي حين قال إن ‘صورة الآخر في الذهن الاستعماري ليست نتاج دراسة، بل نتاج رغبة في التبرير'”.

لكن مع ذلك، يشكّل كتاب “رسائل من أسير مجهول في بلاد البربر” وثيقة “فريدة من نوعها، تجمع بين البعد الشخصي لتجربة الأسر، والبعد الثقافي الذي يُترجم في تمثلات الكاتب للفضاء المغاربي من المغرب إلى ليبيا. فمن خلال ست رسائل تنقّل فيها الكاتب بين مدن مغاربية عديدة، لم يوثق فقط معاناته كفرد، بل رسم صورة مشبعة بالأحكام المسبقة والانطباعات الاستشراقية عن المجتمعات الإسلامية وشعوب شمال إفريقيا”.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا