آخر الأخبار

"سينما الطبقة" .. مرآة التفاوتات الاجتماعية وعدسة نقدية لممارسة السلطة

شارك

يُعد مفهوم الطبقة الاجتماعية من المفاهيم المركزية في تحليل الخطاب السينمائي، لما له من ارتباط وثيق بالبنية الاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمعات. وقد شكلت السينما منذ نشأتها مرآة تعكس التفاوتات الطبقية والصراعات الاجتماعية كما شكلت أداة نقدية تسائل البنى السلطوية وتعيد تمثيل العلاقات الاجتماعية من خلال سرديات بصرية تتراوح بين الواقعية والرمزية والخيال العلمي واتجاهات ومدارس سينمائية بتعدد الرؤى.

فكيف عالجت السينما موضوعة الطبقة؟ وما أبعاد الطبقة كمفهوم اجتماعي وسياسي واقتصادي داخل بنية السينما وسردياتها؟.

مفهوم الطبقة في السينما: مسار كرنولوجي

منذ بدايات السينما الصامتة ظهرت بوادر الاهتمام بالطبقة من خلال أفلام مثل فيلم “متروبوليس” لفريتز لانغ، الذي صدر سنة 1927، وجسد صراعًا طبقيا بين العمال والنخبة المسيطرة في مدينة مستقبلية صناعية. وقد اعتُبر هذا الفيلم من أوائل الأعمال التي قاربت مفهوم الطبقة من زاوية ماركسية ورمزية، حيث تم تصوير العمال ككتلة موحدة مسحوقة في مقابل طبقة برجوازية متحكمة في وسائل الإنتاج.

في ثلاثينيات القرن العشرين، ومع صعود السينما الواقعية في أوروبا، بدأت تظهر أفلام تتناول الطبقة العاملة بشكل مباشر، مثل فيلم أوقات عصيبة لتشارلي شابلن الذي قدم نقدًا ساخرًا للرأسمالية الصناعية من خلال شخصية العامل البسيط الذي يُسحق تحت وطأة الآلة والبيروقراطية. وقد شكل هذا الفيلم لحظة مفصلية في تمثيل الطبقة العاملة في السينما الأمريكية التي كانت تميل إلى الترفيه أكثر من النقد الاجتماعي.

مصدر الصورة

في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية برزت السينما الواقعية الجديدة في إيطاليا كتيار سينمائي منحاز للطبقات الشعبية، حيث قدم مخرجون مثل فيتوريو دي سيكا وروبرتو روسيليني أفلامًا مثل “سارق الدراجة”، و”روما مدينة مفتوحة”، صورت معاناة الطبقات الفقيرة في ظل الدمار الاقتصادي والاجتماعي. وقد تميزت هذه الأفلام بالتصوير في أماكن حقيقية واستخدام ممثلين غير محترفين، ما منحها مصداقية وواقعية عالية.

في الستينيات والسبعينيات شهدت السينما العالمية موجة من الأفلام السياسية التي تناولت موضوع الطبقة من منظور نقدي راديكالي، خاصة في ظل صعود الحركات اليسارية والثورات الطلابية. وقد برز في هذا السياق مخرجون مثل جان لوك غودار في فرنسا، الذي قدم أفلامًا مثل “كل شيء على ما يرام”، مزجت بين الشكل التجريبي والمضمون السياسي. كما برز في بريطانيا مخرجون مثل كين لوتش، الذي كرس مسيرته لتصوير معاناة الطبقة العاملة في أفلام مثل “الصقر كيس “.

في الولايات المتحدة ظهرت أفلام مثل “سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي، تناولت اغتراب الفرد في المدينة الحديثة وتفكك الروابط الاجتماعية. كما ظهرت أفلام مثل “نورما راي”، سلطت الضوء على نضالات العمال من أجل حقوقهم النقابية. وقد تميزت هذه المرحلة بتنوع المقاربات بين الواقعية الاجتماعية والرمزية النفسية…

في الثمانينيات والتسعينيات تراجعت حدة الخطاب الطبقي في السينما التجارية لصالح أفلام الترفيه والخيال العلمي، إلا أن بعض المخرجين واصلوا الاشتغال على هذا الموضوع، مثل مايك لي في بريطانيا، الذي قدم أفلامًا مثل “أسرار وأكاذيب”، تناولت التفاوت الطبقي من خلال العلاقات العائلية. كما برز في أمريكا مخرجون مثل جون سايلز، الذي اشتغل على الطبقة العاملة في أفلام مثل “ميتوان” (Matewan).

ومع بداية الألفية الجديدة عادت مسألة الطبقة بقوة إلى واجهة النقاش السينمائي، خاصة في ظل تصاعد التفاوتات الاقتصادية والعولمة. وقد ظهرت أفلام مثل “مدينة الرب” لفرناندو ميريل في البرازيل، صورت العنف الطبقي في الأحياء الفقيرة. كما برز فيلم “الطفيلي” لبونغ جون هو في كوريا الجنوبية، الذي قدم رؤية رمزية حادة حول التعايش الطبقي داخل فضاء واحد. وقد حاز هذا الفيلم على السعفة الذهبية في مهرجان “كان”، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم، ما يعكس الاهتمام العالمي المتجدد بهذا الموضوع.

في السنوات الأخيرة ظهرت أفلام مثل “المنصة”، قدمت رؤية ديستوبية حول توزيع الموارد والتراتبية الطبقية في فضاء عمودي مغلق. كما ظهرت أفلام مثل “أرض الرحل”، الذي تناول الطبقة الهشة في أمريكا من خلال شخصية امرأة تعيش على هامش المجتمع بعد الأزمة الاقتصادية. وقد تميزت هذه الأفلام بمزجها بين الوثائقي والروائي، ما منحها بعدًا إنسانيًا عميقًا.

سينما الطبقة وإشكالياتها:

تطرح سينما الطبقة العديد من الإشكاليات، فيمكن الإشارة إلى عدة قضايا من بينها إشكالية التمثيل، أي كيف تم تصوير الطبقات الفقيرة؟ وهل يتم اختزالها في صور نمطية أم تقديمها في تنوعها وتعقيدها؟. كما تطرح إشكالية التلقي، أي كيف يتفاعل الجمهور مع هذه الأفلام؟ وهل تثير تعاطفًا حقيقيًا أم مجرد استهلاك بصري؟ كما تطرح إشكالية الإنتاج، أي من يملك سلطة إنتاج هذه الأفلام؟ وهل يمكن للسينما أن تكون فعلًا صوتًا للطبقات المهمشة؟ أم إنها تظل أسيرة منطق السوق؟.

ومن بين المخرجين الذين اشتغلوا على موضوع الطبقة يمكن الإشارة إلى أسماء مثل سيرجي آيزنشتاين في روسيا، الذي قدم فيلم “الإضراب”، و”المدرعة بوتيمكين”، كأمثلة على السينما الثورية؛ كما يمكن ذكر بيير باولو بازوليني في إيطاليا، الذي اشتغل على الطبقة الدنيا والمسحوقة من خلال أفلام مثل “أكاتوني”. كما برز في بريطانيا كين لوتش ومايك لي، وفي فرنسا جان رينوار وجان لوك غودار، وفي أمريكا مارتن سكورسيزي وسيدني لوميت، وفي كوريا الجنوبية بونغ جون هو، وفي أمريكا اللاتينية فرناندو ميريل وأليخاندرو غونزاليس إيناريتو…

المراحل التاريخية لسينما الطبقة:

يمكن تقسيم تطور سينما الطبقة على المستوى الكرنولوجي إلى مراحل على الشكل التالي: مرحلة التأسيس من عشرينيات القرن العشرين إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت بوادر التمثيل الطبقي في السينما الصامتة والواقعية الكلاسيكية، ثم مرحلة النضج من الخمسينيات إلى السبعينيات، حيث برزت السينما الواقعية الجديدة والسينما السياسية، ثم مرحلة التراجع النسبي في الثمانينيات والتسعينيات، مع استمرار بعض التجارب النوعية، ثم مرحلة العودة القوية منذ الألفية الجديدة إلى حدود سنة 2025، حيث أصبح موضوع الطبقة حاضرًا بقوة في السينما العالمية من خلال أفلام حازت على جوائز كبرى وحققت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا.

يمكن القول إن مفهوم الطبقة في السينما ليس مجرد موضوع، بل هو عدسة تحليلية تكشف عن البنيات العميقة للمجتمع وتعيد مساءلة علاقات القوة والامتياز والحرمان. وإن سينما الطبقة تظل مجالًا خصبًا للتفكير في العدالة الاجتماعية والتمثيل الثقافي والالتزام الفني، وهي بذلك تساهم في بناء وعي نقدي لدى المتفرج وتفتح أفقًا لتغييرات ممكنة في ظل ما يعرفه العالم من تحولات عميقة في ظل العولمة والرقمنة.

أهم الأفلام التي تناولت سينما الطبقة:

تُعد سينما الطبقة من أبرز الاتجاهات الفنية التي اشتغلت على تمثيل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمعات. وقد شكلت هذه السينما منذ بداياتها مرآة تعكس صراعات الطبقات وتناقضاتها وتعيد مساءلة البنى السلطوية والتراتبية من خلال سرديات بصرية تتراوح بين الواقعية والرمزية والخيال. وقد تنوعت الأفلام التي تناولت هذا الموضوع من حيث الأسلوب والمرجعية والخلفيات والسياق الجغرافي، لكنها اشتركت جميعها في طرح أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحق في العيش الكريم.

ومن بين أقدم الأفلام التي تناولت موضوع الطبقة فيلم متروبوليس للمخرج فريتز لانغ، الذي صدر سنة 1927 ويُعد من أوائل الأفلام التي جسدت الصراع الطبقي في إطار خيالي مستقبلي، حيث صوّر مدينة صناعية مقسمة بين طبقة عاملة مسحوقة تعيش تحت الأرض وطبقة برجوازية تتحكم في وسائل الإنتاج من الأعلى. وقد استخدم لانغ رموزًا بصرية قوية لتجسيد هذا التفاوت الطبقي، ما جعل الفيلم مرجعًا في سينما الخيال العلمي ذات البعد الاجتماعي.

في ثلاثينيات القرن العشرين برز فيلم “أوقات عصيبة” لتشارلي شابلن كواحد من أبرز الأعمال التي تناولت معاناة الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية الصناعية، حيث قدم شابلن شخصية العامل البسيط الذي يُسحق تحت وطأة الآلة والبيروقراطية في مشاهد ساخرة ومؤثرة في آن واحد، وقد اعتُبر هذا الفيلم نقدًا لاذعًا للنظام الاقتصادي الليبرالي السائد آنذاك، حيث يتحول الكائن إلى مجرد آلة لا غير.

في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت السينما الواقعية الجديدة في إيطاليا، التي ركزت على تمثيل الطبقات الشعبية من خلال أفلام مثل “سارق الدراجة” لفيتوريو دي سيكا، الذي صوّر معاناة أب فقير يبحث عن دراجته المسروقة، التي تمثل مصدر رزقه الوحيد. وقد تميز الفيلم ببساطته وصدقه الإنساني واستخدامه ممثلين غير محترفين، ما منحه طابعًا واقعيًا قويًا.

في فرنسا قدم المخرج جان رينوار فيلم “قواعد اللعبة”، الذي تناول الطبقة الأرستقراطية الفرنسية من خلال كوميديا سوداء تكشف عن نفاق الطبقة العليا وانفصالها عن الواقع الاجتماعي. وقد اعتُبر الفيلم من بين أعظم الأعمال السينمائية التي تناولت موضوع الطبقة من زاوية نقدية ساخرة.

في بريطانيا برز المخرج كين لوتش كأحد أبرز الأصوات السينمائية المدافعة عن الطبقة العاملة، حيث قدم أفلامًا مثل “الصقر كيس” و”أنا دانييل بليك”، تناولت قضايا البطالة والفقر والبيروقراطية بأسلوب واقعي وإنساني؛ وقد حصل على السعفة الذهبية مرتين في مهرجان “كان”، ما يعكس التقدير الكبير الذي تحظى به أعماله.

مصدر الصورة

وفي الولايات المتحدة تناولت أفلام مثل “سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي موضوع اغتراب الفرد في المدينة الحديثة وتفكك الروابط الاجتماعية. كما قدم فيلم “نورما راي” صورة نضالية لامرأة عاملة تقود حركة نقابية داخل مصنع نسيج. وقد ساهمت هذه الأفلام في تسليط الضوء على قضايا الطبقة العاملة من منظور أمريكي خاص.

وفي أمريكا اللاتينية برز فيلم “مدينة الرب” للمخرج فرناندو ميريل كواحد من أبرز الأفلام التي تناولت العنف الطبقي في الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو، حيث صوّر الفيلم حياة الأطفال والمراهقين في عالم الجريمة والمخدرات داخل فضاء اجتماعي مقهور. وقد تميز الفيلم بأسلوبه السردي المتعدد وزاويته الواقعية الصادمة.

وفي كوريا الجنوبية قدم المخرج بونغ جون هو فيلم “الطفيلي” الذي يُعد من أبرز الأفلام التي تناولت موضوع الطبقة في السنوات الأخيرة، حيث صوّر التسلق الطبقي داخل فضاء واحد من خلال قصة عائلة فقيرة تتسلل تدريجيًا إلى حياة عائلة غنية. وقد استخدم الفيلم رموزًا بصرية قوية مثل السلالم والماء والفضاء المعماري لتجسيد التفاوت الطبقي، وحصل على السعفة الذهبية وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم، ما يعكس نجاحه النقدي والجماهيري.

ومن بين الأفلام التي تناولت موضوع الطبقة أيضًا فيلم “المنصة”، الذي قدم رؤية ديستوبية حول توزيع الموارد والتراتبية الطبقية في فضاء عمودي مغلق، حيث يتغير موقع الأفراد داخل البرج بشكل دوري، ما يطرح تساؤلات حول العدالة والتضامن والأنانية في ظل نظام طبقي صارم.

كما تناول فيلم “أرض الرحل” للمخرجة كلوي تشاو الطبقة الهشة في أمريكا من خلال شخصية امرأة تعيش على هامش المجتمع بعد الأزمة الاقتصادية، وتتنقل بين الولايات في شاحنتها الصغيرة. وقد تميز الفيلم بأسلوبه الوثائقي واشتغاله على موضوع الكرامة الإنسانية في ظل الفقر والتهميش.

وفي فرنسا تناول فيلم “البؤساء” للمخرج لادج لي موضوع الطبقة من خلال قصة تدور ضواحي باريس، حيث تتقاطع حياة الشرطة والشباب المهمشين في سياق من التوتر والعنف. وقد استلهم الفيلم عنوانه من رواية فيكتور هوغو، لكنه قدم رؤية معاصرة للظلم الاجتماعي.

كما يمكن الإشارة إلى فيلم “أنا لست أسود” الذي تناول موضوع الطبقة والعرق من خلال استحضار فكر الكاتب جيمس بالدوين، وتحليل التمييز الطبقي والعرقي في أمريكا من خلال أرشيف بصري وشهادات تاريخية.

في السينما الوثائقية برز فيلم “مقاطعة هارلان الولايات المتحدة الأمريكية” (1976)، الذي تناول إضراب عمال المناجم في ولاية كنتاكي الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي، وقدم شهادة حية عن نضالات الطبقة العاملة في مواجهة الشركات الكبرى.

كما يمكن الإشارة إلى فيلم “صنع في داجنهام”، الذي تناول نضال العاملات في مصنع سيارات فورد في بريطانيا من أجل المساواة في الأجور؛ وقد ساهم في تسليط الضوء على تقاطع الطبقة والنوع الاجتماعي في النضال النقابي.

في السينما الآسيوية تناول فيلم “أنا سايبورغ ولكن لا بأس بذلك” موضوع الطبقة من خلال قصة فتاة تعاني من اضطرابات نفسية داخل مستشفى للأمراض العقلية، حيث يتم تصوير المرض العقلي كنتاج للضغط الاجتماعي والاقتصادي. وكما يمكن الإشارة إلى فيلم “محطم الثلج” “Snowpiercer” (2013)، الذي قدم رؤية خيالية لصراع الطبقات داخل قطار يسير في عالم متجمد، حيث يتم تقسيم الركاب حسب طبقاتهم الاجتماعية. وقد استخدم الفيلم الفضاء المغلق كرمز للتراتبية الطبقية.

وفي السينما الإيرانية تناول فيلم “أطفال السماء” للمخرج مجيد مجيدي موضوع الفقر من خلال قصة طفلين يتقاسمان حذاءً واحدًا للذهاب إلى المدرسة. وقد قدم الفيلم صورة إنسانية مؤثرة عن التضامن الأسري في ظل الفقر. كما يمكن الإشارة إلى فيلم الطاحونة الحمراء الذي تناول موضوع الطبقة من خلال قصة حب بين شاعر فقير وراقصة في ملهى ليلي في باريس. وقد استخدم الفيلم الموسيقى والرقص لتجسيد التوتر بين الحب والمال.

في السينما الهندية تناول فيلم “سلام بومباي” موضوع الأطفال المشردين في شوارع مومباي، حيث صوّر حياة القاع الاجتماعي من خلال عدسة واقعية وإنسانية، مبرزا عمق التفاوتات الطبقية.

يمكن القول إن سينما الطبقة قدّمت عبر تاريخها الطويل مجموعة غنية ومتنوعة من الأفلام التي اشتغلت على تمثيل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية من زوايا متعددة وأساليب فنية مختلفة. وقد ساهمت هذه الأفلام في بناء وعي نقدي لدى الجمهور وفي مساءلة البنى السلطوية والتراتبية داخل المجتمعات، وهي بذلك تظل من بين أهم الاتجاهات السينمائية التي تجمع بين الجمالية والالتزام الاجتماعي.

مصدر الصورة

ميكانزمات شخصيات سينما الطبقة:

تُعد الشخصيات السينمائية التي تمثل الطبقات الاجتماعية المختلفة من أهم عناصر الخطاب البصري في سينما الطبقة، إذ تشكل مرآة تعكس التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وتعيد تمثيل العلاقات الطبقية من خلال سرديات درامية تتراوح بين الواقعية والرمزية والتهكم والسخرية السوداء. وقد تنوعت هذه الشخصيات من حيث الخلفية الاجتماعية والدور الدرامي والموقع داخل السرد السينمائي، لكنها اشتركت جميعها في التعبير عن قضايا التهميش والاغتراب والصراع من أجل الكرامة والبحث عن العدالة.

من بين أبرز الشخصيات التي رسخت في الذاكرة السينمائية شخصية العامل البسيط في فيلم “أوقات عصيبة” لتشارلي شابلن، حيث جسد شابلن شخصية الصعلوك الذي يعاني من قسوة الحياة الصناعية ويصارع من أجل البقاء في عالم لا يرحم. وقد أصبحت هذه الشخصية رمزًا عالميًا للطبقة العاملة المسحوقة التي تواجه الآلة والبيروقراطية بروح الدعابة والمقاومة.

كما برزت شخصية الأب في فيلم “سارق الدراجة” لفيتوريو دي سيكا الذي يمثل نموذجًا لأب الفقير الذي يفقد دراجته مصدر رزقه ويخوض رحلة مؤلمة لاستعادتها. وقد جسدت هذه الشخصية معاناة الطبقة الكادحة في إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية وعبرت عن هشاشة الكرامة الإنسانية في ظل الفقر والبطالة.

في السينما الفرنسية ظهرت شخصية الخادمة في فيلم الخادمة “ديزي” التي تمثل الطبقة الدنيا في مواجهة الطبقة الأرستقراطية، وقد تم تقديمها في إطار من التوتر الطبقي المغلف بالحنين والدراما، ما يعكس تعقيد العلاقات بين الطبقات في المجتمع الفرنسي التقليدي.

وفي بريطانيا قدم كين لوتش شخصيات متعددة تمثل الطبقة العاملة، مثل شخصية بيلي في فيلم “الصقر كيس”، وهو طفل ينتمي إلى بيئة فقيرة ويجد في تربية طائر الصقر ملاذًا من قسوة الحياة. وقد جسدت هذه الشخصية البراءة المهددة في عالم طبقي قاسٍ. كما قدم لوتش شخصية دانييل بليك في فيلم “أنا دانييل بليك”، وهو رجل مسن يواجه النظام البيروقراطي البريطاني بعد إصابته بمرض يمنعه من العمل. وقد أصبحت هذه الشخصية رمزًا للمواطن المهمش الذي يُسحق تحت وطأة القوانين الجافة.

في السينما الأمريكية برزت شخصية ترافيس بيكل في فيلم “سائق التاكسي” للمخرج مارتن سكورسيزي، وهي شخصية معقدة تمثل اغتراب الفرد في المدينة الحديثة وتفكك الروابط الاجتماعية. وقد عكست هذه الشخصية التوترات الطبقية والنفسية في أمريكا ما بعد حرب فيتنام. كما ظهرت شخصية نورما راي في الفيلم الذي يحمل اسمها، وهي عاملة في مصنع نسيج تقود حركة نقابية للمطالبة بحقوق العمال. وقد جسدت هذه الشخصية النضال الطبقي من منظور نسوي قوي.

في أمريكا اللاتينية برزت شخصية الطفل روكيت في فيلم “مدينة الرب”، الذي نشأ في حي فقير يعج بالعنف والجريمة. وقد مثلت هذه الشخصية صوتًا سرديًا يعكس واقع الطبقة الدنيا في البرازيل من الداخل. كما ظهرت شخصيات أخرى مثل زيه في الفيلم نفسه، تمثل الوجه العنيف واليائس للطبقة المهمشة.

مصدر الصورة

وفي كوريا الجنوبية قدم فيلم “الطفيلي” شخصيات عائلة كيم التي تعيش في قبو رطب وتعاني من البطالة والفقر. وقد جسدت هذه الشخصيات التفاوت الطبقي من خلال محاولتها التسلل إلى حياة عائلة بارك الغنية والعمل لديها في وظائف مختلفة. وقد تم تصوير هذه الشخصيات بطريقة تجمع بين الكوميديا السوداء والدراما الاجتماعية، ما منحها عمقًا إنسانيًا كبيرًا.

في فيلم “المنصة” ظهرت شخصيات متعددة تمثل الطبقات المختلفة داخل برج عمودي حيث يتغير موقع الأفراد دوريًا. وقد جسدت هذه الشخصيات الصراع من أجل البقاء في نظام طبقي صارم يوزع الموارد بشكل غير عادل. وتم تقديم هذه الشخصيات في إطار رمزي يعكس البنية الهرمية للمجتمع.

في فيلم “أرض الرحل ” ظهرت شخصية فيرن، وهي امرأة مسنة فقدت منزلها بعد الأزمة الاقتصادية وتعيش حياة الترحال في شاحنتها. وقد جسدت هذه الشخصية الطبقة الهشة التي تعيش على هامش المجتمع الأمريكي وتبحث عن معنى وكرامة في عالم متغير.

في السينما الفرنسية المعاصرة برزت شخصية ستيفان في فيلم “البؤساء”، وهو شرطي يعمل ضواحي باريس ويواجه توترًا متصاعدًا بين الشرطة والشباب المهمشين. وقد جسدت هذه الشخصية التوتر بين السلطة والطبقة الدنيا في سياق حضري معقد.

في السينما الإيرانية ظهرت شخصية علي في فيلم “أطفال السماء”، وهو طفل فقير يتقاسم حذاءً واحدًا مع شقيقته للذهاب إلى المدرسة. وقد جسدت هذه الشخصية البراءة في مواجهة الفقر والحرمان. كما ظهرت شخصية الأب في فيلم أغنية العصفور للمخرج مجيد مجيدي، وهو رجل بسيط يعمل في مزرعة نعام ويكافح من أجل إعالة أسرته.

وفي السينما الهندية برزت شخصية كريشنا في فيلم “سلام بومباي”، وهو طفل يعيش في شوارع مومباي ويواجه العنف والاستغلال. وقد جسدت هذه الشخصية واقع الأطفال المشردين في المدن الكبرى.

وفي السينما الوثائقية ظهرت شخصيات حقيقية تمثل الطبقة العاملة، مثل عمال المناجم في فيلم هارلان كاونتي يو إس إيه، الذين خاضوا إضرابًا طويلًا من أجل تحسين ظروف عملهم، وقد تم تقديمهم كأبطال نضال جماعي في مواجهة الشركات الكبرى.

في السينما الخيالية ظهرت شخصيات رمزية مثل شخصية كيرتس في فيلم “محطم الثلج”، الذي يعيش في مؤخرة القطار ويقود ثورة ضد الطبقات العليا في المقدمة. وقد جسدت هذه الشخصية الصراع الطبقي في إطار خيالي مستقبلي.

وفي السينما النسوية ظهرت شخصيات مثل إيرين بروكوفيتش، وهي امرأة من الطبقة الدنيا تقود معركة قانونية ضد شركة كبرى تسببت في تلوث المياه. وقد جسدت هذه الشخصية القوة النسائية في مواجهة السلطة والمال.

وفي السينما العربية ظهرت شخصيات مثل سعيد مهران في فيلم “اللص والكلاب”، الذي يمثل الخارج عن النظام الطبقي الظالم. كما ظهرت شخصيات في أفلام يوسف شاهين مثل شخصية يحيى في فيلم “إسكندرية ليه”، التي تعكس صراع المثقف مع السلطة والطبقة.

ويمكن القول إن شخصيات سينما الطبقة تنوعت من حيث الخلفية والسياق والأسلوب، لكنها اشتركت في التعبير عن قضايا التفاوت الاجتماعي والكرامة الإنسانية والنضال من أجل العدالة. وقد ساهمت هذه الشخصيات في بناء وعي نقدي لدى الجمهور وفي مساءلة البنى الطبقية داخل المجتمعات، وهي بذلك تظل من أهم أدوات التعبير السينمائي عن الواقع الاجتماعي.

مصدر الصورة

أبعاد ودلالات سينما الطبقة:

سعت سينما الطبقة إلى مساءلة النظام الطبقي السائد وكشف اللامساواة البنيوية التي تُنتجها وتُعيد إنتاجها مؤسسات السلطة والمال والثقافة، كما شكلت أداة نقدية ذات بعد جمالي وفلسفي تسائل المجتمع في بنياته الأفقية والعمودية في آن. وتكمن الدلالة المركزية في سينما الطبقة في كونها تُعيد رسم الخريطة الاجتماعية من خلال الشخصيات والفضاءات والعلاقات، بحيث لا تُقدَّم الطبقة كمعطى بياني أو كتصنيف اقتصادي، بل كحقل دلالي مشحون، يعكس القهر والهشاشة أو الامتياز والسلطة. وتتحول الشخصية السينمائية هنا إلى حامل اجتماعي لموقع طبقي محدد، لكنها في الآن نفسه كيان فردي يُعبر عن تجربته الخاصة داخل عالم غير عادل، ما يجعل من كل شخصية طبقية مزيجًا من العام والخاص ومن الاجتماعي والنفسي.

ومن أبرز أبعاد سينما الطبقة البعد السياسي الذي يتجلى في مساءلتها العلاقات السلطوية بين الطبقات، وفي نقدها للتفاوتات الاجتماعية، سواء من خلال عرض مباشر أو ضمني، حيث تقوم بعض الأفلام بتعرية بنيات الاستغلال الطبقي، مثل علاقات العمل غير العادلة أو الهيمنة الرمزية التي تمارسها الطبقات العليا عبر الثقافة والإعلام. كما أن تصوير الفضاء الطبقي سواء كان عبارة عن حي شعبي أو قصر فخم لا يكون اختيارًا محايدًا، بل يندرج ضمن بناء دلالي يعكس التراتبية والانعزال أو الانكشاف.

البعد الجمالي في سينما الطبقات لا يقل أهمية، حيث تلجأ إلى أدوات بصرية وإخراجية تعكس التفاوت الطبقية، مثل استخدام الإضاءة الداكنة في أحياء الفقراء مقابل الإضاءة الواسعة في الفيلات أو التصوير المرتفع، ليدل على المراقبة، أو التصوير من أسفل لإبراز الخضوع. كما أن سينما الطبقة كثيرًا ما تشتغل على الإيقاع البطيء لتصوير الرتابة واليأس في حياة الطبقات المهمشة، أو على الألوان الباهتة لتجسيد الانطفاء النفسي؛ وهي كلها اختيارات جمالية ذات بعد رمزي يعمق الرسالة السياسية والاجتماعية للفيلم.

ومن بين الدلالات الرمزية التي توظفها سينما الطبقة نجد السلم والباب والجدار باعتبارها عناصر دلالية تعكس التراتبية والانفصال بين الطبقات؛ ففي كثير من الأفلام يتم تصوير الطبقة الدنيا في الطوابق السفلية، بينما تقطن الطبقة العليا في الأدوار العليا؛ كما هو الحال في فيلم “الطفيلي”، حيث يتحول السكن إلى استعارة طبقية حقيقية، كما تُوظف المياه والمجاري والأمطار كرموز دالة على الغرق أو التلوث الطبقي؛ بينما تُقدم الطبيعة كامتياز برجوازي يستمتع به الأغنياء في حين يُحرم منه الفقراء.

ومن بين الأبعاد النفسية لسينما الطبقة ما يرتبط بالاغتراب والشعور بعدم الانتماء الذي يعيشه الأفراد داخل المجتمع الرأسمالي الحديث، حيث تصور هذه السينما الأبطال من الطبقات الدنيا وهم يعانون من التهميش والإقصاء أو يشعرون بأنهم مراقَبون باستمرار أو يُعاملون ككائنات زائدة غير ضرورية، ما يخلق لديهم قلقًا وجوديًا يدفعهم أحيانًا إلى التمرد أو الانكسار. وقد تكون هذه الحالة النفسية تعبيرًا دقيقًا عن انفصال البنية الاجتماعية الحديثة عن القيم التضامنية القديمة.

البنيات السردية والجمالية لسينما الطبقة:

أما على المستوى السردي فإن سينما الطبقة تنزع غالبًا إلى اعتماد هيكلة درامية تقوم على الصراع بين الطموح والواقع، أو بين ثنائية التمرد والإذعان، وهي ثنائية تسير بالبطل الطبقي نحو مسار مأساوي أو تطهيري. وقد تُختار النهايات المفتوحة كوسيلة لإبقاء التساؤل مفتوحًا حول جدوى النضال وجدوى الفن. وقد تعتمد أيضًا على تقنية التوازي بين الشخصيات من طبقات مختلفة لتوليد التوتر أو المفارقة، كما في الأفلام التي تقارن مصير خادمتين مع سيدتهما أو بين عامل ومدير شركة كبرى، وهي تقنيات تضفي بعدًا تركيبيا دلاليا للسرد السينمائي.

كما تمثل سينما الطبقة نافذة جمالية على واقع اجتماعي غالباً ما يُهمل في الإنتاج السينمائي السائد. إذ لا تكتفي هذه السينما بنقل معاناة الفئات الكادحة والهامشية، بل تسعى إلى خلق حساسية بصرية وشاعرية تعكس عالمهم الداخلي وتفاصيل حياتهم اليومية. الجمال هنا لا ينبع من الزينة أو البهاء السطحي، بل من الصدق والتجذر في الواقع، ومن الجرأة في الكشف عن التناقضات الطبقية والاقتصادية. وتتجلى هذه الأبعاد الجمالية في استخدام الضوء الطبيعي، ولقطات الكاميرا الثابتة، والتكوينات الحركية البسيطة التي تتيح للشخصيات أن تنكشف ببطء أمام المشاهد. أما البعد الفني فيكمن في طريقة السرد غير التقليدية، التي غالباً ما تتجنب البناء الدرامي النمطي لصالح إيقاع تأملي يجعل من السينما أداة فهم بدلاً من أداة ترفيه فقط. في أفلام كين لوتش أو الأخوين داردين مثلاً تظهر الواقعية الاجتماعية كقيمة جمالية بحد ذاتها، حيث يختلط الألم بالإنسانية، والقبح الظاهري بعمق الشعور. سينما الطبقة لا تنقل الواقع فحسب، بل تمنحه لغة وشكلاً وموقفاً، فتتحول إلى مساحة للمقاومة والتأمل معاً.

كما أن من دلالات سينما الطبقة طرحها مسألة التمثيل، من الذي يملك سلطة تمثيل الطبقة؟ ومن يتحدث باسمها؟ هل السينما تمثل الطبقات المهمشة أم تُعيد إنتاج خطاب الطبقة السائدة حولها؟ وهل يُقدَّم الفقر كأيقونة جمالية للتعاطف أم كموضوع سياسي للوعي؟. وهذه أسئلة مركزية في تحليل الأفلام ذات البعد الطبقي التي ينبغي التعامل معها بحذر نقدي شديد.

ومن الأبعاد المهمة كذلك مسألة الالتزام، إذ إن سينما الطبقة لا تكتفي بوصف الوضعيات الطبقية بل تسائلها وتُدينها أحيانًا، ما يجعلها تتقاطع مع السينما السياسية أو السينما الواقعية أو حتى السينما التسجيلية، لكنها قد تنفتح أيضًا على الخيال والتجريب والسخرية، وهو ما يمنحها قدرة هائلة على تجديد أدواتها وتوسيع أثرها دون الوقوع في النزعة التقريرية أو الوعظية.

ويُلاحظ أن دلالات هذه السينما تتغير بحسب السياق الثقافي والجغرافي، ففي السينما الأمريكية قد تُستخدم شخصيات الطبقة الدنيا لتمجيد الحلم الأمريكي أو فضحه حسب المرجعية الإيديولوجية. وفي السينما اللاتينية غالبًا ما تقترن سينما الطبقة بسرديات العنف والعصابات، بينما ترتبط في السينما الآسيوية بمسألة الشرف والانضباط أو بانفجار القيم التقليدية في ظل العولمة. وفي السينما العربية تُطرح سينما الطبقة من خلال تيمة الصراع بين القيم الريفية والبنية الحضرية أو بين السلطة والفقر أو بين الديني والدنيوي، وهو تنوع ثقافي يعكس تعدد دلالات هذا الاتجاه السينمائي.

سينما الطبقة ومساءلة اليومي

تكمن قيمة سينما الطبقة في قدرتها على مساءلة اليومي والمألوف، بحيث تُظهر البؤس والأمل في تفاصيل الحياة العادية، كما تكشف عن العنف الرمزي الذي يتخفى خلف اللباقة أو اللباس أو اللغة. إن هذه السينما لا تصرخ دائمًا لكنها تشير بصمتها البصري إلى ما لا يُقال وتُعري منظومة اجتماعية كاملة دون أن تحتاج إلى خطابات مباشرة؛ كما أن أبعادها تمتد نحو بناء وعي جماعي جديد يرى في السينما أداة تحليل واستفهام لا مجرد ترفيه، ويجعل من كل فيلم مدخلا لطرح سؤال العدالة والتفاوت والكرامة والحق في المدينة؛ وهي كلها قضايا أساسية في زمن تتسع فيه الفوارق بشكل غير مسبوق.

إن دلالات وأبعاد سينما الطبقة تتجاوز حدود الترفيه والفن لتلامس جوهر التوزيع الطبقي للثروة والسلطة والقيم داخل المجتمعات. وإن هذا النوع من السينما يظل من أكثر التجارب البصرية قدرة على الجمع بين التعبير الفني والموقف الأخلاقي، وبين الانتماء الجمالي والالتزام السياسي، وهي بذلك تطرح علينا سؤالًا مفتوحًا: هل يمكن للسينما أن تُغير الواقع أم يكفي أن تعريه؟.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا