يواصل النظام الجزائري تبني إستراتيجية دعائية تقوم على تزوير مواقف بعض الدول بشأن قضية الصحراء المغربية، وصناعة أوهام التوافقات المزعومة بشأن هذا الملف، من خلال تسويق بيانات مُضلّلة تحاول أن توحي بوجود إجماع إقليمي ودولي مُصطنَع خلف أطروحتها المتآكلة، وأن ترسم مشهداً دبلوماسياً غير موجود، أو على الأقل لا تعكسه المواقف الرسمية المُعلنة لهذه الدول التي تفتري عليها الدولة الجزائرية.
في هذا الصدد ادعى بيانٌ للخارجية الجزائرية، على خلفية انعقاد أشغال الدورة الثانية من المشاورات السياسية الجزائرية – التركية، أمس الأربعاء، وجود توافق في الرؤى بين البلدين حول التطورات التي تشهدها العديد من المناطق، ولاسيما في ما يتعلق بالوضع في الشرق الأوسط والصحراء، فيما اعتبر مهتمون أن إعلان الجزائر عن وجود توافق مزعوم في هذا الشأن لا يعدو أن يكون مجرد محاولة أخرى للترويج لانتصارات ورقية وهمية من خلال تحريف وتضخيم موقف تركيا، التي تتعاطى مع القضايا الخلافية في شمال إفريقيا بحذر شديد، وبسياسة براغماتية تُغَلِّب المصالح على المغامرات غير محسوبة العواقب.
في هذا الصدد قال جواد القسمي، باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي، إن “إعلان الجزائر عن وجود توافق في الرؤى مع تركيا بشأن قضية الصحراء يمكن تفسيره بأنه قد يعني مجرد اتفاق على مبادئ عامة، وليس بالضرورة على تفاصيل الحل”، وأضاف: “على سبيل المثال يمكن الاتفاق على ضرورة حل النزاع بطرق سلمية، أو على دعم جهود الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص للمنطقة… ومن جهة أخرى، وبما أن الجزائر دأبت على استعمال هذه العبارات، فالأمر محاولة أخرى تحاول من خلالها إظهار نفسها كلاعب إقليمي له تأثير، وقادر على خلق تحالفات تدعم موقفها في هذا النزاع، و’تسجيل نقطة’ إعلامية وسياسية، خاصة مع دول فاعلة وذات وزن إقليمي كدولة تركيا”.
وشدد المتحدث ذاته، في تصريح لهسبريس، على أن “الموقف التركي من قضية الصحراء، كما أكدت على ذلك أنقرة في مناسبات عديدة، مازال يدعم الحل السلمي ضمن القرارات الأممية، ويقر بوحدة المغرب الترابية، ما يبرز أن عبارة ‘توافق الرؤى’ المستعملة في البيان تهدف من خلالها الجزائر إلى بناء سردية مضادة لمواجهة النجاحات الدبلوماسية المغربية، وتوجيه رسائل للداخل تفيد بأن الدبلوماسية الجزائرية نشطة وناجحة في حشد الدعم الدولي، وإضفاء الشرعية على مواقفها؛ ما قد يُنظر إليه كمجرد وهم دبلوماسي أكثر من كونه تحولًا في الموقف التركي من القضية”.
وخلص القسمي إلى أن “الواقع هو أن أنقرة تحرص على الإبقاء على علاقات متوازنة مع المغرب والجزائر على حد سواء، خاصة في ظل رغبتها في توسيع استثماراتها في شمال إفريقيا وإفريقيا بشكل عام، فهي لن تدخل في نزاعات ستضر حتماً بمصالحها الاقتصادية والسياسية، بالنظر إلى مكانة المغرب في إفريقيا، وكونه بوابة للاستثمار في غربها، وهي التي تتبع سياسة براغماتية تهدف إلى تعظيم المصالح والحفاظ على علاقات جيدة مع الجميع”.
من جهته أوضح شوقي بن زهرة، ناشط سياسي جزائري معارض، أن “السياسة الخارجية للنظام الجزائري صارت مثيرة للشفقة، إذ أصبحت تنتهج إستراتيجية دعائية تقوم على تزوير مواقف بعض الدول بخصوص قضية الصحراء، في محاولة لإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بوجود دعم واسع لجبهة البوليساريو وطرحها في ما يخص هذا النزاع، وتجاوز سلسلة الانتكاسات الدبلوماسية المتتالية التي تلقاها هذا الطرح في السنوات الأخيرة”.
وذكر الناشط الجزائري ذاته، في حديث مع هسبريس، أن “بيانات الخارجية الجزائرية تتعمد تحريف تصريحات دبلوماسيين أجانب أو تضخيم مواقف غامضة لتظهر وكأنها دعم صريح لجبهة البوليساريو الانفصالية، وقد حدث هذا مع سلوفينيا وبريطانيا ورواندا والعديد من الدول”، مشددًا على أن “هذه الممارسات تعكس في الواقع حالة الارتباك وفقدان البوصلة في التعاطي مع ملف الصحراء، الذي صار شبه محسوم لصالح الرباط، التي تحظى مبادرتها للحل بدعم دولي متزايد ومن قوى مؤثرة في القرار الدولي”.
وأبرز بنزهرة أن “النظام الحاكم في الجزائر، وبعدما صار عاجزًا حتى عن حشد مواقف دول كان يعتبرها بمثابة حديقته الخلفية، لجأ إلى مثل هذه الأساليب التي تقوم على الترويج للأكاذيب والأوهام، من أجل صرف النظر عن الواقع الدولي الجديد الذي انحشرت فيه الأطروحة الانفصالية في الزاوية؛ وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على وجود أزمة خطاب حقيقية داخل السياسة الخارجية الجزائرية”.
وسجّل المتحدث ذاته أن “السياسة التركية، وبحكم مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، لا تدعم التقسيم أو الانفصال، خاصة في الشمال الإفريقي، ولا تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في النزاعات بين دول المنطقة؛ بل إن موقف أنقرة هو أقرب إلى المغرب أكثر منه إلى الجزائر، التي تتعارض سياستها مع السياسة التركية في العديد من القضايا في المنطقة، خاصة ما يتعلق بملف دول الساحل والملف الليبي”.
سعيد بركنان، محلل سياسي، قال إن “فرضيات العلاقات الدولية تختبر تحوُّل مواقف الدول من قضايا إقليمية معينة بمدى التغير الطارئ في المؤثرات المحيطة والمُؤسسة للمواقف السابقة، ومدى تحقق تطور في التقارب في العلاقة بين الدول، المبني على أساس تقارب إستراتيجي أو حتى تقارب تكتيكي مؤقت”، موضحًا أنه “بالنسبة للعلاقات الجزائرية التركية، وبدراسة جميع المتغيرات الطارئة، سواء في المنطقة الإقليمية أو في القضايا الداخلية لتركيا، لا يمكن أن نجد فيها محددًا واحدًا يساعد تركيا في تغيير موقفها من الوحدة الترابية للمملكة وسيادة المغرب على صحرائه”.
وتابع بركنان، في حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونية، بأن “البيان الصحفي الصادر عن أعمال المشاورات السياسية الجزائرية التركية، وتضمّنه ‘توافق الرؤى’ حول ملف الصحراء، لا يعدو أن يكون فقاعة صابون دبلوماسية من أنواع فقاقيع الصابون التي تصدرها وزارة الخارجية الجزائرية، التي سرعان ما يتطايرها الهواء وتختفي”.
وشدد المتحدث ذاته على أن “المواقف التي تبناها النظام الجزائري في مجموعة من القضايا الإقليمية في السنوات الأخيرة تترك هذه المشاورات تشتغل على محاولة ترميم الشروخ الحاصلة في جدار العلاقات الجزائرية التركية، في القضايا المتعلقة بسوريا وموقف الجزائر من نظام الأسد، والقضية الليبية، وقضية الحرب في غزة، أكثر من الاشتغال على البحث عن مواقف موحدة في قضايا يبدو أن الحسم فيها أصبح وشيكًا لصالح الطرح المغربي، استنادًا إلى الدعم الدولي من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وكذلك الدول الفاعلة والمقرّرة في مصير القضايا الإقليمية”.
وأبرز المحلل السياسي ذاته أن “المشاورات الجزائرية التركية هي من باب المشاورات التي تحقق استمرار العلاقة التاريخية بين الجزائر وتركيا، وتقوم بتنسيق شكلها التقليدي في حدود التبادل التجاري، ولا ترقى أبدًا إلى إمكانية اتخاذ موقف من قضية الصحراء، لأنه لا يمكن لتركيا أن توقّع دبلوماسيًا على وثيقة خروجها كفاعل مهم في منطقتنا الإقليمية بالانحياز إلى الجزائر في موقفها من الصحراء، ضد توجه الإرادة الدبلوماسية التي تشتغل بها الشرعية الدولية من أجل تنزيل حل الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية”.