في خطوة حازمة تعكس يقظة السلطات القضائية، أعلنت النيابة العامة، مساء أمس، عن تفكيك شبكات منظمة متورطة في تسريب مواضيع امتحانات البكالوريا واستعمال وسائل إلكترونية متطورة في عمليات الغش؛ ما خلف تفاعلا واسعا لدى الرأي العام التربوي. وتأتي هذه التدخلات بالتزامن مع انطلاق الاستحقاق الوطني الأهم في المسار الدراسي للتلاميذ، وسط دعوات متصاعدة إلى حماية نزاهة الامتحانات وتعزيز ثقافة الاستحقاق.
وقد اعتبر عدد من الخبراء في المجال التربوي أن هذه الاعتقالات والمتابعات تشكل خطوة بالغة الأهمية لإعادة الاعتبار للشهادة الوطنية، والتصدي لمحاولات تقويض مصداقيتها، خاصة في ظل التحولات الخطيرة التي تعرفها ظاهرة الغش، من ممارسات فردية معزولة إلى شبكات رقمية متخصصة تستغل الامتحانات كمجال للربح غير المشروع.
وفي هذا الإطار، قال جمال شفيق، خبير تربوي ومفتش مركزي سابق، إن البلاغ الصادر عن النيابة العامة بخصوص تفكيك شبكات متورطة في الغش باستعمال الوسائل الإلكترونية “جاء في وقته المناسب، ويعكس يقظة السلطة القضائية في التصدي لمحاولات تقويض نزاهة امتحانات البكالوريا”.
وأوضح شفيق، ضمن تصريح لهسبريس، أن ما يُحاك من محاولات تشويش وخرق لقواعد تكافؤ الفرص من قبل عصابات منظمة تستعمل الوسائل التكنولوجية في غير محلها يمثل تهديدا حقيقيا لاستحقاق وطني يحظى بقيمة تربوية واجتماعية خاصة.
وأضاف المتحدث: “البكالوريا ليست فقط محطة تقييم دراسي؛ بل هي لحظة وطنية ينتظرها المغاربة بشغف، ويتمنون لأبنائهم النجاح فيها عن جدارة واستحقاق، بعيدا عن أساليب الغش والتحايل”.
وانتقد الخبير التربوي سلوك بعض الأفراد الذين، حسب تعبيره، “يفتقرون إلى الحد الأدنى من الأخلاق والأخلاقيات، ويوظفون أدوات تكنولوجية متقدمة لأغراض تضر بالمنظومة التربوية وبمصداقية الامتحانات، بدل تسخيرها في مسارات بناءة وإيجابية”.
وشدد شفيق على أن امتحانات البكالوريا تمثل ركيزة أساسية في بناء النخب الوطنية، مشيرا إلى أن “النجاح الحقيقي يجب أن يكون نتاج الكفاءة والاستحقاق، حتى يتمكن التلاميذ من متابعة مساراتهم الجامعية بجدارة، ويساهموا في تنمية الوطن”.
واختتم تصريحه بالتأكيد على أهمية التصدي الاستباقي لمثل هذه الظواهر، داعيا إلى نهج حازم في محاربتها، ليس فقط بالردع القانوني؛ ولكن أيضا عبر تحصين المجتمع ورفع الوعي بخطورة المساس بنزاهة الامتحانات الوطنية، لما لذلك من تبعات تربوية وقيمية بعيدة المدى.
من جانبه، قال الحسين زاهدي، أستاذ التعليم العالي وخبير في السياسات التربوية العامة، إن التدخلات القضائية الأخيرة التي استهدفت شبكات الغش في امتحانات البكالوريا تُعد “خطوة محمودة ومطلوبة”، لما لها من أثر مباشر في استعادة الثقة في الشهادة الوطنية، وإعادة الاعتبار لمصداقيتها، خاصة في ظل ما وصفه بـ”الرهان الدولي على نزاهة الامتحانات”، مؤكدا أن “الأمر لم يعد مجرد شأن داخلي، بل أصبح يحظى باهتمام يتجاوز الحدود الوطنية”.
واعتبر زاهدي، في تصريح لهسبريس، أن هذا النوع من التدخلات، إلى جانب التغطية الإعلامية المصاحبة لها، من شأنه أن يُعيد شيئا من الاعتبار للمنظومة التربوية الوطنية، التي تواجه تحديات متزايدة على مستوى القيم والانضباط.
وأضاف الخبير في السياسات التربوية العامة: “للأسف، أصبحت بعض الممارسات المرتبطة بالغش يُنظر إليها من لدن عدد من التلاميذ كأنها حق مكتسب أو سلوك طبيعي لا يستدعي الخجل؛ بل يُروَّج له أحيانا بالفخر، وهذا مؤشر خطير على اختلال منظومة القيم داخل الوسط المدرسي”.
وأشار المتحدث عينه إلى أن تطور هذه الظاهرة من مجرد محاولات فردية إلى شبكات منظمة تشتغل بمنطق المقاولة والربح السريع يكشف عن “نشوء اقتصاد موازٍ” قائم على استغلال الاستحقاقات التربوية، مؤكدا أن “الأمر لم يعد يقتصر على الغش الفردي؛ بل أصبح ظاهرة مركبة تُدار بوسائل رقمية متطورة وتستهدف ضرب مصداقية المنظومة من داخلها”.
وشدد زاهدي على ضرورة تبني مقاربة شمولية في التصدي لهذه الظواهر تجمع بين الردع القانوني والتحصين القيمي والتربية على النزاهة، داعيا إلى إشراك الأسر والمؤسسات التعليمية والإعلام في ترسيخ ثقافة الاستحقاق والجدية، باعتبارها مكونات أساسية لأي إصلاح تربوي مستدام.