احتضنت العاصمة العلمية للأقاليم الجنوبية السمارة، الخميس، يوما دراسيا تحت عنوان “تجربة الحكم الذاتي: المملكة الإسبانية نموذجا”، نظمته رابطة الصحراء للديمقراطية وحقوق الإنسان بشراكة مع جماعة السمارة، وذلك في إطار الدينامية الوطنية الهادفة إلى تعزيز النقاش العمومي والأكاديمي حول مبادرة الحكم الذاتي المغربية واستلهام التجارب المقارنة في هذا المجال.
اللقاء حضره عدد من رؤساء الجماعات المحلية، ومنتخبون برلمانيون، وممثلون عن المجلس العلمي والمجتمع المدني، إلى جانب فعاليات أكاديمية وحقوقية، ولفيف من شيوخ وأعيان القبائل الصحراوية.
أطّر الجلسات العلمية لهذا اليوم الدراسي أربعة من الأساتذة والخبراء الأكاديميين القادمين من إسبانيا، الذين قدموا مداخلات علمية قاربت موضوع الحكم الذاتي من زوايا متعددة، مستحضرين السياق الدولي الراهن، والتحولات السياسية والجيو-استراتيجية المرتبطة بهذا النموذج من تدبير الشأن المحلي.
في هذا الصدد، سلّطت الأكاديمية الإسبانية إيلينا كارولينا دياز غالان الضوء على التحولات التي يشهدها السياق الجيو-سياسي الدولي، مؤكدة أن “المقترح المغربي للحكم الذاتي بات يحظى اليوم بمزيد من القبول ضمن المنتظم الدولي باعتباره حلا واقعيا ومتقدما للنزاع الإقليمي حول الصحراء”، مشيرة إلى أن “التغيرات التي طرأت على مواقف عدد من الدول الفاعلة، وكذلك الديناميات الجديدة التي يشهدها النظام العالمي عززت من وجاهة النموذج المغربي”.
واعتبرت غالان أن “مبادرة الحكم الذاتي المغربية تستلهم في جوهرها تجارب ناجحة، من قبيل النموذج الإسباني الذي مكّن مناطق مثل كاتالونيا والباسك من إدارة شؤونها الداخلية في إطار السيادة الوطنية، بما يحقق التوازن بين وحدة الدولة واحترام الخصوصيات المحلية”، وسجلت أن “هذا النوع من الحلول الوسط يشكل مخرجا عمليا للنزاعات الترابية التي طال أمدها، ويجنب المنطقة مزيدا من التوتر”.
وفي سياق إسقاط التجربة الإسبانية على الحالة المغربية، أوضحت الخبيرة الدولية أن الدستور المغربي لسنة 2011، وما تلاه من إصلاحات مؤسساتية، وضع البلاد في مسار متقدم نحو ترسيخ الجهوية الموسعة كمدخل لتفعيل الحكم الذاتي، لافتة إلى أن “الرهان الحقيقي اليوم يكمن في تعزيز الأبعاد التنموية والسياسية لهذا المشروع بما يستجيب لتطلعات ساكنة الأقاليم الجنوبية ويكسب المبادرة مزيدا من المصداقية الدولية”.
في مداخلتها حول “الولايات المتحدة والحكم الذاتي”، أبرزت الباحثة الإسبانية لوسيا مانتيكون أهمية التحول النوعي الذي عرفته المواقف الأمريكية منذ دجنبر 2020، حين جددت إدارة الرئيس دونالد ترامب اعترافها بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، واصفة مبادرة الحكم الذاتي بـ”الواقعية والجادة وذات مصداقية”، مشددة على أن “هذا القرار الاستراتيجي يشكل تحولا جذريا في المقاربة الأمريكية لهذا النزاع”.
ورأت المتحدثة أن الموقف الأمريكي لا ينفصل عن التوجه العام في السياسة الدولية الذي بات يفضل الحلول التوافقية على الخيارات المفروضة، مشيرة إلى أن “واشنطن لطالما دعمت الحكم الذاتي في مناطق متعددة من العالم كآلية لحفظ الاستقرار واحتواء النزاعات”. كما ربطت بين دعم الولايات المتحدة للمبادرة المغربية وبين رغبتها في تعزيز الاستقرار بشمال إفريقيا والساحل، خصوصا في ظل التحديات الأمنية العابرة للحدود.
وخلصت مانتيكون إلى أن المغرب من خلال اقتراحه الحكم الذاتي، ينخرط في منطق التجارب المقارنة التي أثبتت نجاعتها، على غرار ما تحقق في النموذج الإسباني، موضحة أن “نجاح هذا المشروع رهين باستمرار التعبئة الدبلوماسية والترافع الدولي، إلى جانب تقديم نموذج تنموي واقعي في الصحراء يعكس على الأرض مضامين الحكم الذاتي المرتقب، ويعزز القناعة الدولية بجدوى الحل المغربي”.
من جانبه، ناقش الخبير الإسباني إغناسيو بيريز ماسياس تطور موقف مدريد الرسمي من قضية الصحراء المغربية، متوقفا عند التغير الذي حصل في أبريل 2022 عندما عبّر رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز عن دعم واضح لمبادرة الحكم الذاتي المغربية. واعتبر ماسياس أن “هذا الموقف الجديد يترجم إدراكا إسبانيا متزايدا لواقعية المقترح المغربي، ولأهمية التعاون مع الرباط في إطار شراكة استراتيجية تشمل مجالات الأمن والهجرة والاقتصاد”.
وأوضح الخبير الإسباني أن التجربة الإسبانية في الحكم الذاتي، التي انطلقت بعد دستور 1978، تقدم نموذجا متقدما لكيفية التوفيق بين وحدة الدولة ومنح صلاحيات موسعة للجهات، وهو ما يتلاقى مع فلسفة المقترح المغربي، مشيرا إلى أن “إقليم الباسك وكاتالونيا يملكان صلاحيات واسعة في مجالات التعليم والصحة والثقافة، مع احترام الإطار السيادي للدولة؛ وهو النموذج الذي يمكن استلهامه في تكييف مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية”.
وأبرز ماسياس أن دعم إسبانيا للمقترح المغربي ليس مجرد موقف دبلوماسي، بل يعكس أيضا قناعة استراتيجية بأن استقرار جنوب المغرب هو شرط أساسي لاستقرار الضفة الجنوبية للمتوسط، معتبرا أن “النموذج الإسباني يقدم حججا إضافية للمجتمع الدولي للاقتناع بإمكانية تطبيق حكم ذاتي ناجح في الصحراء المغربية، يحفظ وحدة التراب الوطني ويستجيب لتطلعات الساكنة المحلية”.
أما هارولد بيرتو تريانا، المحاضر الباحث في القانون الدولي، فقد ركّز في مداخلته على المقاربة القانونية لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، معتبرا أن هذا المقترح يتماشى مع المبادئ الحديثة للقانون الدولي، خصوصا فيما يتعلق بتقرير المصير الداخلي، والحكم الرشيد، واحترام الخصوصيات الثقافية، موضحا أن “القانون الدولي تطور خلال العقود الماضية لينتقل من مقاربة تقليدية لتقرير المصير إلى أخرى أكثر مرونة، ترتكز على الحلول التوافقية داخل الدول القائمة”.
وقال تريانا إن التجارب الدولية، بما فيها التجربة الإسبانية، تؤكد أن الحكم الذاتي يمثل خيارا متقدما لتجاوز النزاعات طويلة الأمد، لا سيما حين تكون هناك مقومات ثقافية وهوية محلية ضمن وحدة الدولة. كما بيّن أن “النموذج المغربي يتضمن عناصر قانونية ومؤسساتية قوية، تسمح بإرساء آليات لتدبير ذاتي فعّال في إطار احترام السيادة الوطنية، الشيء الذي ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الأممية ذات الصلة”.
وفي سياق مقارن، شدد تريانا على أن نجاح النموذج الإسباني يجب أن يكون محفزا للأمم المتحدة والأطراف الدولية لتبني الحل المغربي كمخرج واقعي للنزاع، مشددا على أن “القانون الدولي لا يعارض هذا النوع من الحلول، بل يشجع عليه عندما يتفق مع مبادئ السلم، والاستقرار، والتنمية، وهي كلها أهداف تتحقق من خلال مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية”.
تعليقا على أهداف اللقاء، قال مولاي إبراهيم الشريف، رئيس جماعة السمارة، إن اليوم الدراسي شكل مناسبة لإثارة عدد من التساؤلات التي تشغل الساكنة والمتابعين للشأن السياسي حول مفهوم الحكم الذاتي، وتفكيك أبعاده القانونية والدستورية في ظل مقارنته بتجارب دولية رائدة، وعلى رأسها التجربة الإسبانية.
وأوضح مولاي إبراهيم، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذا اللقاء العلمي، المنظم من طرف رابطة الصحراء للديمقراطية وحقوق الإنسان بشراكة مع جماعة السمارة، يسعى إلى توطين مفهوم الحكم الذاتي في السياق المغربي، وفتح نقاش معمق بشأن المبادرة المغربية المقدّمة سنة 2007، وذلك عبر الاستعانة بخبرات أكاديميين دوليين مختصين، حضروا من إسبانيا لتسليط الضوء على الإطار القانوني والمؤسساتي لهذا النموذج.
وأكد المتحدث ذاته أن اليوم الدراسي لم يكن فقط مناسبة للعرض النظري والتحليل الأكاديمي، بل أيضا لحظة تفاعلية حقيقية، مكنت الحاضرين من طرح أسئلتهم وتطلعاتهم بشأن مستقبل المنطقة، في تلاقٍ بين المقاربة العلمية والنقاش الميداني، وذلك بحضور وازن لأبناء الإقليم وممثلي القبائل الصحراوية والمنتخبين عبر صناديق الاقتراع.
وختم مولاي ابراهيم الشريف تصريحه بالتأكيد على أن مثل هذه اللقاءات تمثل خطوة أساسية نحو تثبيت ثقافة الحوار والانفتاح، وربط المبادرات الأكاديمية بتطلعات المواطنات والمواطنين في الأقاليم الجنوبية، ضمن مسار وطني يعزز مشروعية المغرب وسيادته على صحرائه وفق مقتضيات الشرعية الدولية، مشيدا في الوقت نفسه بـ “وعي الساكنة المحلية وانخراطها في هذا النقاش الذي يعزز من تماسك الجبهة الداخلية”.