عباس خضر، الكاتب العراقي الذي وُلد ببغداد عام 1973، هو اليوم أحد أبرز الأصوات الأدبية التي تروي معاناة المنفى، وتتأمل في أبعاد الأدب والتطرف السياسي. في كلمته التي ألقاها بمناسبة منح جائزة الأدب في برلين في 19 مارس 2025، طرح خضر تساؤلات عن الأدب ومواضيع أخرى متشابكة مثل المنفى، والعنصرية، والدين.
وبينما يتناول تلك المواضيع، يقدم لنا رؤية أدبية وفكرية ترتكز على أسئلة وجودية تعيد التفكير فيما يحيط بنا. صحيفة “فرنكفورته الغماينه” الألمانية نشرت نص كلمته المفعم بالسؤال وحرقة المنافي.
في بداية كلمته يطرح عباس خضر تساؤلًا محيرًا: “هل يجب أن أتحدث عن الأدب أم عن الرماد الذي يحيط بنا؟”.. كانت لديه نية سابقة للحديث عن الأدب، لكنه شعر بأن شيئًا ما بداخله يعترض طريقه، فقرر أن يغير مسار حديثه ليتناول الحاضر بكل ما فيه من توتر وواقع صعب. استشهد في ذلك بكلمات هانا أرندت: “لم تعد هناك حاجة لسحر الماضي، فالحاضر ساحر بما فيه الكفاية”. كانت هذه الكلمات نقطة التحول في خطابه، حيث اختار أن يركز على الواقع المؤلم الذي عاشه، خاصة في سنوات المنفى.
لم يكن حديث خضر مجرد سرد لتجربة شخصية، بل كان تأملًا عميقًا في مفهوم المنفى. يتحدث عن تجربته كمنفيّ، وكيف شكلته تلك التجربة ليس فقط ككاتب، بل كإنسان يحاول إعادة اكتشاف ذاته في عالم غريب. يذكر كيف كان المنفى بالنسبة له نفقًا يؤدي إلى العدم، وكيف أن الدول العربية التي فرّ إليها لم تكن توفر له سوى تهديدات مستمرة بفقدان الإقامة أو العمل. ومع ذلك لم يهرب من تلك التجربة، بل وجد في الغربة مقاومة ما، وكان المنفى بالنسبة له أكثر من مجرد هروب، بل كان عملية وعي.
يقول عباس خضر: “لم أحارب ضد الديكتاتورية العراقية فحسب، بل أيضًا ضد ظلال الوجود الغامض في البلدان العربية. كان المنفى نفقًا يؤدي إلى المجهول. كنت مهددًا باستمرار بخطر عدم السماح لي بالبقاء، أو عدم العثور على عمل، أو كما فعلت الحكومة المصرية آنذاك. ببساطة يتم إرسالك إلى الحدود مع عبارة: اغرب عن وجهي!. في هذا الوقت بالتحديد نشرت رسائلي الأولى من ليبيا، حيث أقمت لفترة، فأرسلتها من هناك إلى لندن وباريس وبيروت أينما وجدت صحف عربية في المنفى. لم أكن أعرف ما إذا كان هناك جمهور للمنفيين على الإطلاق. لكن المنفى لم يكن مجرد هروب، كان أيضاً وعياً، حالة بين الضياع والمقاومة، تذبذب مستمر بين الغربة وتأكيد الذات.”
عندما وصل عباس خضر إلى ألمانيا بدأ مرحلة جديدة من المنفى، هذه المرة ليس جغرافيًا فحسب، بل لغويًا أيضًا. يتحدث عن التحول من اللغة العربية إلى الألمانية كقفزة غير مألوفة إلى المجهول. هذه الخطوة لم تكن مجرد تحول أدبي، بل كانت عملية متعبة ومؤلمة تتطلب منه التخلّي عن عادات قديمة وابتكار أسلوب جديد.
وكما يقول خضر عن تجربته مع اللغة الألمانية: “إنها “وحش” وطريقة تعذيب. لقد اخترعت قواعد نحوية جديدة لجعلها أكثر احتمالاً وأسميت ابتكاري مع غمزة “الألمانية حسنة المزاج”. لم يفهم الجميع دعابتي. بالنسبة للبعض، كانت سخريتي بمثابة هجوم على تراثهم الثقافي، وهددني البعض علانية. في يوم من الأيام سيتم سحب جنسيتي الألمانية وتهجيري للأبد كما لو أن مجرد وجودي هو تهديد لنقاء لغتهم المقدسة.”
في حديثه عن العنصرية، يسرد عباس خضر كيفية تسللها بشكل غير مرئي في المجتمع الغربي، وكيف يتعامل مع المهاجرين كأنهم “الغرباء” أو “الآخرين”. هذه العنصرية ليست مجرد مشكلة فردية، بل هي تنسج عبر أنماط فكرية اجتماعية تقوّض المساواة.
يرى خضر أن المهاجرين، خاصة من ذوي البشرة الداكنة أو المسلمين، يُعاملون كفئة أقل في المجتمع. والمثير في حديثه كيف أن العنصرية ليست مجرد موقف فردي، بل آلية اجتماعية تغذي التفرقة والتهميش، كما أن الفكر اليميني المتطرف يغذي هذه الصور النمطية. يقول خضر: “لا يمكن للفلاسفة أن يصفوا الأمر بشكل أكثر ملاءمة: إن المهاجر هو الاستعارة المثالية للفلسفة نفسها، وهو سؤال أبدي دون إجابة واضحة، غامض، ومع ذلك فهو موجود في كل مكان. في كل مرة أفكر في الأمر، أعود إلى نفس النتيجة: الاندماج متاهة بلا مخرج..”
ويضيف خضر “من الإنسان يأتي “الإنسان”، الذي يأمل أن يُنظر إليه على أنه “إنسان”. ولد هنا أو تقطعت به السبل أو عابر. هذا لا يهم. ما يهم هو الاختلاف. تعريف دقيق؟ خارق. المهاجر: شخص يبدو مختلفًا. جملة تقول كل شيء أو لا شيء.”
من جهة أخرى، يتناول عباس خضر مسألة الدين كأداة هدم وبناء في آن واحد. لكنه يؤكد أنه ليس ضد الدين نفسه، بل ضد كيفية تحريفه وتحويله إلى أيديولوجيا سياسية تشوه قيمه. كما يرفض أن يتم استخدام الدين كأداة للتفرقة بين الناس أو لتبرير العنف والإقصاء. يظل في حذر من النقاشات العامة حول الدين في الغرب، إذ يرى أن تلك النقاشات تغذي في أغلب الأحيان التصورات السلبية، دون أن تفضي إلى أي تغيير إيجابي.
يختتم عباس خيدر كلمته بفكرة هامة: الأدب ليس مجرد وسيلة للهروب، بل مكان للبحث عن الأسئلة المستمرة. هو مقاومة للجمود الفكري، وعملية دائمة من المفاوضة مع الواقع. هذه الفكرة تجد قوتها في رؤية خضر للأدب كأداة تساهم في محاربة الثوابت الجاهزة للأيديولوجيات السياسية. في هذا الإطار يصبح الأدب وسيلة للمقاومة ليس ضد نظام سياسي معين، ولكن ضد أي نوع من الجمود الفكري الذي يحاول أن يفرض نفسه على الإنسان.
في النهاية يطرح عباس خضر السؤال الأكبر: ماذا يبقى بعد كل هذا؟ يجيب أن ما يبقى هو الأدب، هو الكلمة التي تبقى حية رغم كل التحديات. الأدب هو المساحة التي يمكن للإنسان من خلالها أن يعيد التفاوض مع العالم مرة تلو الأخرى، وأن يفتح الأفق لفهم أعمق. إنه الفضاء الذي يظل فيه الفكر حرًا، رغم الظروف القاسية التي قد تحيط به. وكما يقول خضر: “كل قصة هي شكل من أشكال المقاومة، ليس ضد سلطة معينة، بل ضد تحجر الفكر. لا يمكن لكتاب أن يُحدث ثورة، لكن يمكن أن يحتوي على جملة واحدة تغير شيئًا ما في الإنسان. ربما ليس على الفور، وربما بعد سنوات، وربما لن يحدث ذلك أبدًا، لكن الاحتمال وحده يكفي.”
يظل الأدب بالنسبة لعباس خضر أداة قوية تتحدى الانغلاق والتطرف، وتبني جسورًا بين البشر رغم الفجوات العميقة التي تفرق بينهم. فهل سيتحقق هذا الحلم؟ ذلك هو السؤال.