صدر حديثا مؤلف جديد موسوم بـ”إثنوغرافيا الدرازة الوزانية نحو دراسة سوسيو ثقافية للتركيبة الاجتماعية للحرفة –حكاية حرفة تقليدية”، لمؤلفه هشام بومداسة، أستاذ مادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي، وتعد باكورة أعماله.
ونقرأ على ظهر الغلاف: “فالدرازة هي المهنة والحرفة التي ميزت هذه المنطقة الجغرافية بالذات (وزان وقبائلها، وكانت ومازالت بؤرة تقاطع الكثير من الثقافات التي أثرت فيها وتأثرت بها من خلال حضور العنصر الشرفوي والأمازيغي الريفي والقروي والموريسكي واليهودي والصحراوي (أهل توات) والفاسي؛ لذلك لا مراء أن من بين العناصر التي تأثرت بهذا التنوع تلك المهن التي تكونت ونشأت وترعرعت وزرعت بوزان المدينة، ومنها مهنة ‘الدرازة’ التي، كما قلنا، كان لها شأن كبير من حيث الإنتاج والاستهلاك والقيمة الاجتماعية والرواج الاقتصادي والعلاقات الممتدة بالكثير من المهن الخشبية والحديدية والخيطية والعظمية والجلدية”.
من هنا نعرف جيدا لماذا “لمعلم الدراز” له من القدرات التفاوضية والحوارية النزقة في علاقة مع كل الأطراف الذين تجمعهم بمهنته، فهو بخزان قاموسه اللغوي والمعرفي الثقافي، وغناه الذي اكتسبه من مكونات “المُرَمَّة” وكل عناصر ومراحل المهنة، تجده منفتحا على هذا التنوع والتعدد، وبالتالي تجده مؤهلا ومستعدا لكل تعدد تعرفه مهنته، وخصوصا التعدد الذي يخص العنصر البشري والمواد والآليات الموظفة في “الدرازة”.
فـ”لمعلم” صاحب “المرمة” يكون على علاقة تفاعلية شبه يومية مع الصانع والتاجر و”الدلال”، بل ومع “الغزل” والطفل “المدور”، يعني أن بعد تفاعله الاجتماعي لا يتوقف عند بؤرة وحيز ورشته في “الدرازة” وحسب، بل يمتد كذلك إلى فضاءات ومجالات أخرى كسوق “الغزل” وسوق “الحايك” وبعض المنازل الخاصة للنسوة غَوازِل الصوف. فهذا التردد اليومي والتنوع المختلف الذي يتعايش معه، يجعل منه فاعلا مركزيا مؤهلا للتفاعل بكل قدراته الثقافية المهنية المتنوعة مع كل الفاعلين باختلاف مجالاتهم وارتباطاتهم ومهامهم وعقلياتهم ووجدانهم، بما يخدم مهنته وممارسته وقيمة منتوجه التي تجسد هي الأخرى ثقافة التنوع والتعدد والتجديد.
وتتميز “مْرَمَّة الدّْرَّاز”، وفق معطيات توصلت بها هسبريس، بتكامل أجزائها، إذ لا يُعتبر أي مكون فيها ثانويا، مهما كان حجمه، فـ”لْمَعَلّْم” يرى في كل آلية أو تقنية عنصرا أساسيًا لاستمرارية العمل، ما يجعله يقف عند أي عطب لإصلاحه فورا. هذه العلاقة الوثيقة بين الحرفي وأدواته تشبه علاقة الطبيب بمعداته أو السائق المحترف بسيارته، إذ يدرك “لْمَعَلّْم” أدق تفاصيلها، على عكس الصناع الأجراء الذين يكتفون بمعرفة الأساسيات.
وتنعكس هذه الدراية، تبعا للمصدر ذاته، في امتلاك “لْمَعَلّْم” معجما غنيا من المصطلحات الحرفية، يميز بين التسميات المتداولة في مختلف الأوساط المهنية، سواء بين “لْمْعَلْمِيِّي” القْشْرِينِيِّين أو “مِعَلِمِيِّي” وسط المدينة؛ لكن مع تراجع الإقبال على الحرفة أصبح الكثير من الشباب يعتبرونها مجرد “ملجأ مؤقت”، ما دفعهم إلى الانتقال إلى مهن أخرى كالتجارة والخدمات الموسمية، ما أدى إلى ضعف المعرفة العميقة بالمهنة.
إلى جانب الجانب التقني تحمل “مْرَمَّة الدّْرَّاز” إرثا ثقافيا متنوعا يعكس التأثيرات الشرفوية، الأمازيغية، الأندلسية، اليهودية والعربية، وهو ما أكده الباحث المغربي عبد الإله الغزاوي في دراسته عن الزاوية الوزانية؛ فقد شكلت مدينة وزان نقطة تلاقٍ لثقافات متعددة، ما جعل مهنة “الدِّرَازَة” تتأثر بهذا التنوع، سواء في تقنياتها، أو تسمياتها، أو حتى في شبكة العلاقات التي تربط الحرفي بالتاجر، والصانع، و”الصّْوَّافَة”، و”الدّْلاَّل”.
يشار إلى أن هذا التنوع الذي ميز المهنة كان جزءا من هوية المدينة، إذ ساهمت المهن التقليدية في جعل وزان مركزا اقتصاديا وثقافيا نشطًا منذ القرن الثامن عشر، غير أن تراجع هذه المهن وهجرة الحرفيين نحو مدن أخرى أدى إلى فقدان المدينة تدريجيًا طابعها الحرفي والثقافي الغني، ما يطرح تساؤلات حول مستقبلها في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.