يقال إن بعض الأطعمة تمنح آكلها شعورًا بالسعادة والراحة النفسية، مما يعزز الهدوء والصفاء الذهني والانتعاش والطمأنينة، بينما تساهم أطعمة أخرى في تقلب مزاج الإنسان، فتُشعره بنوع من القلق والتوتر والانزعاج والكسل، وربما تؤدي إلى زيادة الضغط النفسي والانفعال والعصبية.
من هذا المنطلق تُثار نقاشات وتُطرح تساؤلات حول العلاقة المحتملة بين النظام الغذائي والصحة النفسية بشكل عام، ومدى تأثير نوعية الأغذية على وظائف الجهاز العصبي بشكل خاص.
هشام العفو، متخصص نفساني ورئيس رابطة متخصصي الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، قال إن “التوجه العلمي الحديث يشير إلى أن التغذية تعتبر محددا أساسيًا في الحفاظ على صحة الدماغ وتحقيق توازن الحالة المزاجية، حيث تتداخل عوامل غذائية متعددة مع الأُطر البيولوجية والنفسية للأفراد، لذلك من الضرورة استثمار نتائج الدراسات لتحليل الصحة العقلية في علاقتها بالتغذية”.
وأضاف العفو، في تصريح لهسبريس، أن “دراسة نُشرت في مجلة Nature Mental Health، شملت 181,990 مشاركًا، أظهرت أن اتباع نظام غذائي متوازن يرتبط بزيادة كمية المادة الرمادية في الدماغ، وهذه الزيادة تعتبر مؤشرًا مهمًا على الصحة الدماغية، التي تسهم بدورها في تحسين الأداء المعرفي والوظائف التنفيذية”، مشيرا إلى أن “تحسين بنية الدماغ يعني قدرة أكبر على المعالجة والاحتفاظ بالمعلومات، مما يساهم في تقليل مستويات التعب الذهني والاكتئاب”.
وتابع قائلا: “دراسة ميدانية، أُجريت بواسطة “إدارة مراقبة الأمراض والوقاية منها” الأمريكية، توصلت إلى وجود ارتباط مباشر بين استهلاك المشروبات السكرية وحدوث أعراض أكثر شدة للاكتئاب والقلق، خاصة بين المراهقين، مما يعني أن النظام الغذائي الضعيف من جهة، والغني من جهة أخرى بالأطعمة المصنعة والمشروبات السكرية، يمكنه أن يؤدي إلى اضطرابات معرفية وعاطفية نتيجة زيادة التهابات الجسم التي تؤثر سلبًا على وظائف الدماغ”.
وأبرز المتخصص النفساني ذاته أن “مجال علم النفس الغذائي لم يظهر إلا في السنوات المتأخرة، ويؤكد من خلال الدراسات التي يقوم بها أن تناول كميات كافية من الفواكه والخضروات يساهم في خفض معدلات الالتهابات الجهازية، وهي عملية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتقلبات المزاج واضطرابات الصحة النفسية”، مضيفا أن “مقالة نُشرت في BMJ (Firth et al) تناولت إمكانية أن يكون تحسين جودة الغذاء جزءًا من الاستراتيجيات الوقائية لعلاج الاضطرابات النفسية، وبالتالي يؤثر ذلك على المزاج العام وعلى السلوك الإنساني”.
وأوضح أن “النظام الغذائي يلعب دورًا في دعم إنتاج النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، وهي عناصر أساسية لتنظيم المزاج”، مضيفا أن “النظام الغذائي المتوازن يزود الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية والفيتامينات والمعادن الضرورية، التي تساهم في العمليات البيوكيميائية داخل الدماغ. وفي المقابل يؤدي الإفراط في استهلاك السكريات والأطعمة المصنعة إلى زيادة الالتهابات، مما يُعتبر أحد المسببات المرتبطة بظهور اضطرابات مزاجية مثل الاكتئاب والقلق”.
وختم العفو توضيحاته بالإشارة إلى أن “تبني نظام غذائي صحي متوازن ليس مجرد وسيلة لتحسين الصحة الجسدية فحسب، بل هو استراتيجية وقائية أيضاً للحفاظ على صحة عقلية مستقرة وتعزيز الأداء المعرفي. كما أن هذه النتائج تُقدم منبعا علميا هامًا للممارسين الصحيين والمتخصصين في السياسات الصحية العامة لتضمين الإرشادات الغذائية في استراتيجيات الوقاية والعلاج النفسي، مما يعزز وعي الفرد والمجتمع بأهمية التغذية كعامل مؤثر على الصحة العقلية”.
ليلى بلهادي بنسامي، طبيبة أخصائية في التغذية، قالت إن “اضطرابات المزاج قد تنجم عن عدة عوامل، من بينها النظام الغذائي الذي يلعب دورًا مهمًا في تحسين المزاج”، موضحة أن “صحة الدماغ ترتبط بشكل وثيق بتغذية متوازنة تحتوي على الأحماض الأمينية والمعادن والفيتامينات، خاصة فيتامين “ب”، الذي يُعد ضروريًا لوظائف الدماغ والحالة النفسية الجيدة”.
وأضافت المتحدثة ذاتها، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “صحة الجهاز الهضمي لها تأثير مباشر على المزاج، نظرًا لدور البكتيريا النافعة في تحقيق التوازن العام للصحة النفسية والدماغية”، مشيرة إلى أن “الأمعاء تحتاج إلى تغذية غنية بالألياف والأحماض الأمينية والفيتامينات والمعادن للحفاظ على هذا التوازن الحيوي”.
وأكدت أن “الأطعمة المصنعة والاستهلاك المفرط للسكريات يؤثران سلبًا على توازن الجسم والمزاج”، مبرزة أن “الدماغ يعتمد بشكل أساسي على فيتامين “ب”، حيث إن نقصه قد يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب”. ولذلك شددت على ضرورة “استهلاك مصادر طبيعية لهذا الفيتامين، مثل الحبوب الكاملة، للحفاظ على صحة الجهاز العصبي والمزاج العام”.
وأفادت أن “تناول الحلويات والسكريات يمنح شعورًا مؤقتًا بالسعادة، لكنه سرعان ما يؤدي إلى نتائج عكسية”، لافتة الانتباه إلى أن “ارتفاع مستوى السكر في الدم يؤدي إلى تحفيز البنكرياس لإفراز كميات كبيرة من الأنسولين، مما يسبب انخفاضًا سريعًا في الطاقة، والشعور بالتعب، والتوتر، وعدم الاستقرار المزاجي بعد فترة وجيزة”.
وختمت بلهادي بنسامي توضيحاتها بالإشارة إلى أن “الاعتماد على السكريات كمصدر سريع لتحسين المزاج هو حل مؤقت، لكنه يؤدي لاحقًا إلى اضطرابات في الطاقة والمزاج”، مشدّدة على ضرورة “تبني نظام غذائي متوازن يعتمد على أغذية طبيعية غنية بالعناصر الغذائية الضرورية للحفاظ على صحة الدماغ والجهاز العصبي، وتحقيق استقرار نفسي أفضل على المدى الطويل”.