توقيع مذكرة تفاهم في مجال التعاون العسكري بين الجزائر والقيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم” يوم الأربعاء 22 يناير 2024، أثار العديد من التساؤلات والتأويلات التي تراوحت بين من رأى فيه تعبيراً عن “النفاق” أو الازدواجية في السلوك السياسي للبلدين على حدّ سواء؛ وبين من يرى فيه إعلاناً جزائرياً “للاستسلام” خوفاً من عقوبات أمريكية محتملة بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
فرضيّة العقوبات تجد ما يبررها في مسألتين أساسيتين: الأولى هي الرسالة التي كان قد وجهها السناتور ماركو روبيو سنة 2022 إلى السيد أنتوني بلينكن وزير الخارجية آنذاك، يطالبه فيها بفرض عقوبات على الجزائر تطبيقاً لقانون “كاتسا ِCAATSA” ضد أعداء الولايات المتحدة، وتلتها رسالة أخرى في نفس الاتجاه وقعها 27 سناتوراً أمريكيا.
والثانية، مرتبطة بالحملة الإعلامية التي انخرط فيها الإعلام الرسمي الجزائري للتهجم على الرئيس ترامب مباشرة بعد اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء في دجنبر 2020، بالإضافة إلى مجموع التصريحات المعادية للولايات المتحدة والتي جاءت على لسان القيادة السياسية والعسكرية للجزائر ومنها على الخصوص دعوة الرئيس تبون إلى محاربة الدولار الأمريكي خلال لقائه في موسكو بالرئيس الروسي بوتن.
أمّا بالنسبة للِّعب على الحبلين فلن نعدم حُججاً وبراهين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما نشره السيد ماركو روبيو يوم الأربعاء 29 يناير 2025 على صفحته في موقع “إكس” عن فحوى مكالمته مع نظيره الجزائري أحمد عطاف، حيث يتناقض مع ما كتبناه في الفقرتين السابقتين. ولم يدّخر روبيو أو “الأزعر” جهداً في الإشادة بدور الجزائر في “محاربة الإرهاب”، وهي التي تتهمها جارتها مالي برعاية الإرهاب، وتتهمها قصاصات السفارة الأمريكية في الجزائر سنة 2013 بالتعاون مع تنظيمات إرهابية “كالموقعين بالدم”..
ولم يفت السيد روبيو، ذو الأصول الكوبية، أن يكيل المديح لما وصفه “ريادة” الرئيس الجزائري في تعزيز السلام والأمن الإقليمي والعالمي. ولا أدري هل يقصد بالسلام الحرب العدوانية المستمرة على المغرب منذ نصف قرن؟ أم يقصد بالسلام زعزعة الاستقرار في جمهورية مالي، حسبما ورد في خطاب وزيرها الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2024، وبيان وزارة خارجيتها في يناير 2025؟
أمّا إذا قارنا ما قاله السيد روبيو، حول “ريادة الجزائر في المساهمة بالمساعدات الإنسانية لغزة”، فسنجده يكرر حرفاً حرفاً نفس ما قاله لوزير خارجية المغرب يوماً واحدا فقط قبل ذلك.. بمعنى آخر، هذا “الأزعر” يقارن المغرب الذي أوصل فعلاً المساعدات إلى مستحقيها، بالجزائر التي توقفت مساعداتها عند عتبة الحدود المصرية ولم تصل إلى غزة أثناء الحصار. وأحيل هنا على خطاب سابق للرئيس الجزائري لَمَز فيه مصر واتهمها بغلق الحدود مع غزة!
إنّ هذا التشابه في مضمون المكالمتين يُفيد من بين ما يُفيده أنّ من يكتب تلك القصاصات التي توزع على الصحافة ليس الوزير وإنما موظفون تكنقراط في قسم شمال إفريقيا داخل الخارجية الأمريكية، ولا يهمهم كثيراً الفرق بين المغرب والجزائر حتى وإن كان البَلَدان على طرفي نقيض.
الفائدة الثانية أنّ الولايات المتحدة “تبيع القِرد وتضحك على من اشتراه”، بعبارة أخرى الوعود لا تُلزم إلاّ من يُصدّقها، وكذلك الصداقة الأمريكية فهي لا تلزم إلاّ من يثق فيها. ولمن كان لديه الشكّ فلْيرجع البصر كرّتين إلى الضّربة التي وجهتها واشنطن لفرنسا في صفقة الغواصات مع أستراليا، وإلى الدّعم الذي قدّمته للانفصاليين الأكراد ضدّ الحليف التركي، والتخطيط للانقلاب على أردوغان سنة 2016 من داخل قاعدة أنجرليك التابعة لحلف الناتو، والتقارب مع إيران على حساب دول الخليج في عُهدة باراك أوباما، وغيرها كثير لمن أراد أن يستزيد.
الفائدة الثالثة، تتعلق بذاكرة المغرب الدبلوماسية والعسكرية في مسلس التعاون الطويل مع الولايات المتحدة، وأستحضر هنا ملفين خطيرين ولا أزيد عنهما رغم كثرة الملفات. الأول يتعلق بمنع “صديقتنا أمريكا” المغربَ من استعمال أسلحتها في حرب الصحراء التي خاضها المغرب دفاعاً عن أرضه ضدّ العدوان الجزائري ما بين 1975 و1991، ووصل الأمر حدّ حظر الإمدادات بالذخائر الأمريكية عن المغرب في الثمانينيات. أمّا الثاني فيتعلق بمحاولة واشنطن توسيع صلاحيات المنورسو سنة 2013 والذي تقدمت به مندوبة “العم سام” في مجلس الأمن السيدة سوزان رايس ضداً على مصالح المغرب وتماهياً مع مطالب الجزائر.
وإذا كانت لهذا “التفاهم” الجزائري مع أفريكوم من حسنة فإنه قد فضح للمرّة الألف الازدواجية التي تمارسها الجزائر في سياستها الخارجية، فهي تقدّم نفسها كواحدةٍ من دول الممانعة مثل فنزويلا وكوبا وإيران وروسيا ضدّ الامبريالية الأمريكية، بخطاب يمتح من قاموس ستينيات القرن الماضي في أوج المواجهة بين الشرق والغرب، بينما هي في الواقع تخدم المشاريع الاستعمارية وإن شئت قلت الامبريالية لتقسيم المغرب، وتستقوي بإسبانيا التي كانت الحاضنة الأولى للمشروع الانفصالي ولازالت تُعشش فيها فلول الجبهة الانفصالية، وتجد فيها المأوى والمرعى لأسباب تاريخية وأخرى جيوسياسية.
والأخطر في هذه الحِربائية هي الشراكة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لتدريب أجهزتها الأمنية، والتسهيلات التي تمنحها لمكتب مكافحة الإرهاب الأميركي للاشتغال على طول الحدود الجزائرية. وفي هذا الصدد نستحضر ما نقله موقع “الجزيرة.نت” سنة 2004 عن مصادر إسبانية مطلعة حول وجود قاعدة أمريكية للتجسس في تامَنْراسَت جنوب الجزائر. ومع كلّ ذلك تزعم الجزائر أنها مع فنزويلا وأخواتها من الدول “المارقة” ضد الهيمنة الأمريكية!
ونستحضر أيضاً الامتيازات في حقول النفط والغاز التي تقدمها الجزائر للشركات الأمريكية، رغم مزاعم تأميم النفط التي تعتبر هي الأخرى من الأساطير والبروبكاندا التي اختلقها النظام. ونكتفي في هذا الصدد بآخر المستجدات حيث وقّع العملاق الأمريكي “إكسون موبيل” خلال 2024 عقوداً لاستغلال حقول جديدة في الجزائر. ولعلّ هذا ما أشار إليه السيد روبيو في مكالمته مع نظيره الجزائري حين تحدث عن “تعميق التعاون في مجال الطاقة بين البلدين بما يعود بالنفع على الأميركيين”.
نستشف مما سبق خلاصتين أساسيتين، الأولى أنّ الجزائر مستعدة للتحالف حتى مع الشيطان من أجل ضرب مصالح المغرب وتقسيم أراضيه، وقد برهنت خلال نصف قرن أنها تُوظف كلّ إمكانياتها من البترودولار، وتستعمل كلّ أوراقها، بل إنّها ضحّت بمصالح شعبها وبددت المليارات من ثرواته في سبيل هذا الهدف.
أما الخلاصة الثانية فمفادها أنّ المغرب لا يجب أن يضع بيضه في سلة واحدة لا شرقية ولا غربية، بل عليه أن يواصل سياسة تنويع الشركاء الاستراتيجيين، وبناء تحالفات قوية مع دول أكثر موثوقية ومصداقية، دون التفريط في المكتسبات مع واشنطن وعلى رأسها الاعتراف بمغربية الصحراء. وعلينا أن نواصل تقوية قدراتنا الذاتية تكنولوجيا واقتصادياً، وأن نعزز جبهتنا الداخلية ديمقراطياً لأنها الحصن الذي تنكسر عليه كل المؤامرات الخارجية التي تعرّض لها المغرب خلال تاريخه الطويل والمجيد، وعلى الباغي تدور الدوائر..
—