في تاريخ الأمم، تظهر شخصيات نادرة تترك بصماتها على الفكر والثقافة، لتصبح منارات تُضيء الدرب لأجيال متعاقبة. من هذه الشخصيات الخالدة، نستحضر ذكرى العميد عباس الجراري، رحمه الله، الذي انتمى إلى أسرة علم وأدب، ورث عن أبيه العلامة عبد الله بن العباس الجراري تراثا زاخرا، وجعل من حياته ملحمة علمية وفكرية أثرت المغرب حضارة وثقافة.
يقول الحق سبحانه وتعالى: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا” الأحزاب:23. ومن هؤلاء العلامة الدكتور عباس الجراري، الذي اشتهر في المغرب وخارجه، بين الدارسين، بلقب “عميد الأدب المغربي”، نظرا لإسهاماته الكبيرة في إحياء هذا الأدب بتوجيه الطلاب والباحثين لدراسته في الجامعة المغربية، حتى أصبح تخصصا علميا له رواده ومصادره ومدارسه وعصوره.
من الصعوبة الإحاطة بمنجز العميد الدكتور عباس الجراري، نظرا لكثرة إسهاماته الأدبية والفكرية، فقد كان شخصية فريدة من نوعها رحمه الله، أمة في رجل، وجامعة متحركة، وفضلا عن كل ذلك إنسان يأسرك بأدبه الجم، وحسن تواصله المثمر، فهو لم يكن أستاذا عاديا، وإنما كان نموذجا استثنائيا يجمع بين موسوعية المعرفة وسمو الأخلاق. رجل امتزجت فيه صفات العالم المتمكن، والمفكر العميق، والشاعر المرهف. وقد أنتج في شتى مجالات الأدب والفكر والإبداع، وبرع في منهجه التحليلي الذي تجاوز مجرد البحث إلى استنطاق التراث المغربي وتقديمه برؤية متجددة، بل كان له إسهام في تطوير بعض المناهج ومنها منهج الظواهر والقضايا الذي كبته به كتابه عن الأدب المغربي.
كان الدكتور عباس الجراري كمن ينقش لوحة أدبية متكاملة، يعكس فيها جوهر الأدب المغربي وروحه. إذ لم يقتصر اجتهاده على التنظير أو التأريخ أو جمع النصوص؛ بل امتد ليصبح أحد أبرز المدافعين عن أصالة الأدب المغربي وقيمه الإنسانية الراقية. وفي مسيرته العلمية الطويلة، لم تغب عنه الهوية الوطنية التي جعلها محور أعماله وكتاباته، مجسدا بذلك روح المواطنة والانتماء، وتجسدت أيضا في سلوكه، فلباسه كان في أغلب الأحيان لباسا مغربيا أصيلا، وفي بيته العامر بالرباط كان الأثاث مغربيا في أدق تفاصيله، وكانت لغته الراقية في التواصل جذابة وملهمة، إذا تكلم أفاد وأجاد بلغة بليغة ومفيدة، وإذا صمت أشرق وجهه بسمت العلماء الصالحين، وظهرت السكينة في ملامحه، رجلا فاضلا بكل المقاييس.
لقد تميزت مسيرته العلمية بعمق فكري وثراء ثقافي واسع وممتد، حيث كان يعبّر عن أصالة الأمة المغربية وعمق جذورها الإسلامية في كافة مؤلفاته ومدافعا عن الهوية المغربية في كل أبعادها وتفاصيلها، وهذه الغيرة الوطنية أهلته لينال ثقة ملكين عظيمين من ملوك المغرب في العصر الحديث، وهما جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه وجلالة محمد السادس نصره الله وأيده وشافاه.
لقد حمل العلامة العميد عباس الجراري همّ الحفاظ على الهوية الثقافية المغربية، ونصرة قضاياها، وعكس في كتاباته وشعره شغفه الكبير بالمغرب وأصالته وتاريخه، إنك لا تستطيع في حضرته إلا أن تحب المغرب وثقافته، لما تسمعه منه من روائع هذا الأدب الغني بمعالم الرحمة والتقدم والرقي الإنساني فضلا عن النبوغ في الإبداع والفكر.
ولعل ناديه الثقافي العريق “النادي الجراري”، الذي كان يُعقد بمنزله في حي الرياض بالرباط بعد عصر كل يوم جمعة، يمثل إحدى أبرز محطات حياته العلمية والاجتماعية. كان الدكتور الجراري يفتح أبوابه لكل باحث ومثقف وطالب علم، يتبادل معهم الحوار في جوّ علمي وإنساني يفيض بالودّ والتقدير وبالمناقشات العلمية والأدبية. كما كان يحضره أهل الفن، ونخبة من الدبلوماسيين، ورجال الفلسفة والفكر والأدب، من مختلف المدن المغربية؛ بل ومن بلدان كثيرة. ولذلك، فقد كان هذا النادي أكثر من مجرد ملتقى؛ فهو منارة تجمع بين جيل من العلماء والباحثين، الذين تأثروا بعلمه وأخلاقه ونهلوا من معين علومه وآدابه.
لقد جمعت شخصية عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري بين موسوعية الثقافة ومكارم الأخلاق، ومثّل بذلك قدوة في الجمع بين العلم والتواضع، بين الأدب والنقد، وبين الحضور الثقافي المحلي والعالمي، والمتأمل في شخصيته يجد فيها شيئا من عبقرية الحسن بن مسعود اليوسي، وبعضا من موسوعية عبد الله كنون، وروحا وطنية مشبعة بالحب والوفاء والإخلاص للوطن ولهوية الأمة المغربية، ومحبة خاصة يكنها لملوك المغرب الذين قدموا تضحيات كبيرة في خدمة هذه الهوية وعلى امتداد التاريخ الطويل للمغرب، أي منذ أكثر من اثني عشر قرنا.
يُعد الجراري نموذجا فريدا من العلماء الذين جمعوا بين نبوغ الأدب وعمق الفكر وحكمة التجربة؛ فقد امتد تأثيره ليشمل مجالات متعددة، إذ كان رمزا للأصالة والتجديد، وترك إرثا لا يقتصر على كتبه ودراساته، بل يتجلى في أجيال من الباحثين الذين ساروا على خطاه، حاملين لواء الأدب المغربي نحو آفاق جديدة ورحبة في الجامعات المغربية وفي مختلف المؤسسات وفضاءات المعرفة والإبداع.
لقد دافع الجراري عن خصوصية المغرب الثقافية، وأسس لتخصصات أكاديمية تهدف إلى تعميق دراسة الأدب المغربي. لم تكن جهوده محصورة في القاعات الدراسية فقط؛ بل تجاوزتها إلى المبادرات الثقافية، مثل أكاديمية المملكة المغربية، حيث عمل على ترسيخ الهوية الإسلامية وتعزيز القيم الوطنية من خلال نشاطه الفكري والثقافي في هذه المؤسسة الرائدة، وفي مؤسسات أخرى كثيرة.
كان الجراري أكثر من عالم، إذ تحول بيته العامر بالرباط إلى قِبلة للمثقفين والمبدعين من شتى أنحاء العالم. في ناديه الثقافي، النادي الجراري، الذي حمل عبق الحضارة المغربية ورقي الحوار والتواصل والتسامح، استطاع أن يخلق بيئة ثقافية يتجلى فيها الحوار والتسامح، متبنيا منهجية تآلفت فيها الروافد المختلفة للثقافة المغربية، وكان بيته في حي الرياض بالرباط ينبض بالنقاشات الفكرية والإبداعية والفنية التي تشهد على روحه المتفتحة وإيمانه بقيم الحوار البناء والتواصل الفعال.
واليوم في الذكرى الأولى لرحيل عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري (15 فبراير 1937ـ 20 يناير 2024) يظل تأثيره حيا في نفوس من عاصروه وتتلمذوا على يديه؛ فقد غرس فيهم روح التفاني والاعتزاز بالأدب المغربي وبالهوية الوطنية لهذا الأدب، مما جعل إرثه الفكري مرجعا لكل من يسعى إلى فهم هوية المغرب الثقافية وأصالته الحضارية وأبعاده التاريخية.
عباس الجراري، العميد الذي لم يعرف حدودا لعطائه، سيبقى أيقونة تحتذى للأجيال المقبلة، ونموذجا ملهما لمن ينشد الجمع بين الإبداع الفكري والتواصل الإنساني. إذ كان وسيظل، على الرغم من غيابه الجسدي، سيبقى نبراسا يُنير طريق الثقافة المغربية، ويلهم الأجيال الحالية والمقبلة برؤى فريدة وأسئلة عميقة حول البحث في الأدب المغربي.
في هذه الذكرى الأولى لا نملك إلا أن نجدد الوفاء لرجل الوفاء والنبل والعطاء، عميد الأدب المغربي الذي أوقف حياته على خدمة الثقافة المغربية في تخصص الأدب المغربي، وقدم الكثير من أجل النهوض بهذا التخصص الدقيق، حتى صار تخصصا له رواده وأعلامه ومحبوه.
أخيرا، وفي هذه الذكرى الأولى، نستحضر حجم الفراغ الذي خلفه الدكتور عباس الجراري؛ لكنه فراغ امتلأ بذكراه الحية وإرثه العميق. فقد كان رحمه الله، أكثر من مجرد أستاذ أو عميد؛ كان مدرسة قائمة بذاتها، أسس خلالها نهجا فكريا يعتمد على مزج التراث بالمعاصرة، واستلهام الماضي لبناء حاضر مزدهر، مع استشراف لمستقبل جميل ومشرق.
لقد شكلت أعماله العلمية والأدبية معالم طريق هادية للأجيال الطامحة إلى فهم جوهر الأدب المغربي وتجديد أبعاده الإنسانية. وكان بحضوره المميز، ومؤلفاته الرصينة، ومواقفه المخلصة للوطن، رمزا للثبات والالتزام في زمن التغيرات الكبرى.
إننا إذ نستحضر ذكراه اليوم ندرك أن إرثه الفكري لم يكن مجرد كلمات أو أبحاث تُحفظ في رفوف المكتبات، أو تتداول بين أيدي القراء والدارسين؛ بل هو شعلة مستمرة تضيء درب الباحثين والمبدعين، وتبث فيهم الحماس للتعمق في دراسة الأدب المغربي، وتفجير طاقاته الكامنة.