في قلب مدينة فرانكفورت، وعلى أنقاض ورشة لإصلاح السيارات، يقف مسجد أبي بكر الصديق شامخا بزخرفته المغربية البديعة التي تخطف أنظار كل من يلجه لأول مرة، إذ ما أن تخطو خطواتك الأولى داخله، حتى تجد نفسك محاطا بزخارف تقليدية عريقة تنقل الزائر إلى أجواء ساحرة تذكره بالهندسة المعمارية الأصيلة للمساجد المغربية. هذه التحفة الفنية تم تنفيذها بإتقان على يد حرفي بارع من مدينة مكناس، الذي قضى عاما ونصف في تصميم وتنفيذ هذه الزخارف التي أصبحت جزءا من الهوية البصرية للمسجد.
سواء في مدخله أو ساحته الواسعة التي يجلس وسطها رجال بلحاهم المسدلة، مرتدين الأزياء التقليدية المغربية وهم يتبادلون الحديث بلغات متنوعة، من الدارجة المغربية إلى الأمازيغية والريفية، وأحيانا لغات أخرى من العالم العربي، تظل مختلف فضاءات المسجد تنضح بجواهر نفيسة من الحضارة المغربية . هذا التنوع الثقافي واللغوي يضفي على المسجد طابعا مغربيا أصيلا يمتزج بسلاسة مع الأجواء الأوروبية المحيطة، ليشكل لوحة ثقافية متجانسة تعبر عن اندماج الجالية المغربية والعربية والمسلمة بشكل عام في المجتمع الألماني.
محمد السدادي، مدير الجمعية الإسلامية الألمانية بفرانكفورت، قال في دردشة مع جريدة “العمق” إن مسجد أبي بكر الصديق يعتبر رمزا للتعاون العربي في ألمانيا، حيث تم بناؤه عام 1966 على يد مجموعة من الطلاب العرب، من بينهم مغاربة، أردنيون، مصريون، ضمنهم طالب سعودي، موضحا أن الموقع الذي يشغله المسجد اليوم كان في السابق ورشة لإصلاح السيارات، وقد تم هدمها لإقامة هذا الصرح الإسلامي الذي جاء استجابة لحاجة ملحة آنذاك لوجود مسجد نموذجي في المدينة يخدم الجالية المسلمة المتنامية.
إلى جانب كونه مكانا للعبادة يستقبل حوالي 2000 مصل في الأعياد، ينظم مسجد أبي بكر الصديق أنشطة دينية وتربوية وتعليمية، تركز على تأطير الأطفال والشباب وربطهم بالهوية الإسلامية. وتشمل الأنشطة تعليم اللغة العربية، تحفيظ القرآن، والدروس الدينية، بالإضافة إلى تقديم دروس تقوية للطلاب في المدارس العمومية. كما يشارك المسجد بفاعلية في أنشطة اجتماعية داخل المسجد وخارجه، مما يعزز دوره في المجتمع الألماني.
ويؤكد السدادي وهو من أصل مغربي، أن مسجد أبي بكر الصديق مؤسسة مستقلة وليست تابعة لأي هيئة إسلامية معينة بألمانيا، غير أنها لا ترى مانعا في التعاون مع جميع الجهات التي تصب في مصلحة المجتمع بشكل عام، مسجلا أن المسجد لا يتلقى أي دعم لا من الحكومة الألمانية ولا من دول أخرى، حيث يعتمد المسجد كليا على تبرعات المصلين ورواد المسجد، سواء كانت تلك التبرعات دورية أو موسمية، مثل التبرعات التي تُجمع خلال شهر رمضان أو الأعياد الإسلامية.
ومنذ سنوات، أطلق مسجد أبي بكر الصديق مبادرة فريدة من نوعها برفع الأذان يوم الجمعة، وهي مبادرة لاقت قبولا واسعا من المجتمع الألماني، وفقا للسدادي، والذي أكد أن صوت الآذان يتخطى حدود المسجد حيث يسمع على مسافة تصل إلى 6 كيلومترات، لتعلن عن وجود جالية مسلمة مسالمة تسعى للتعايش والتفاعل الإيجابي مع المجتمع المضيف.
ولا يقتصر دور هذه المعلمة الإسلامية على رفع الأذان فقط، بل يتعدى ذلك إلى جهود أكثر شمولا في محاربة الإسلاموفوبيا، من خلال عدة مبادرات تهدف إلى تعزيز التفاهم والتسامح بين مختلف الفئات المجتمعية، “نقوم بأنشطة تفاعلية مع المجتمع المدني والسياسي، بما في ذلك تنظيم ورشات عمل، وندوات وحوارات مفتوحة لتعزيز الوعي حول الإسلام والتقليل من التصورات الخاطئة”، يوضح مدير الجمعية الاسلامية الألمانية بفرانكفورت.
ومضى مستطردا: “كما نعمل على بناء جسور التواصل مع الأديان الأخرى من خلال تنظيم ملتقيات حوارية، حيث يتبادل المشاركون من مختلف الخلفيات الثقافية والدينية الأفكار والتجارب. وتنظيم أيام مفتوحة بالمسجد، ودعوة الجيران الألمان من مختلف الخلفيات لزيارة المسجد والتعرف على أنشطته، والاستماع إلى شروحات حول الاسلام وقيمه، وهذه الجهود تساهم في خلق فهم مشترك وتخفيف حدة التوترات التي قد تنشأ من سوء الفهم أو التحريض الإعلامي”.
في سياق متصل، أبرز المتحدث، أن الجمعية الإسلامية الألمانية بفرانكفورت، تتوفر على فرق عمل مختصة تركز على رصد ومواجهة الإسلاموفوبيا عبر وسائل الإعلام، حيث تقوم بالتواصل مع السلطات المحلية عند حدوث أي حوادث متعلقة بالكراهية أو التمييز ضد المسلمين، مما يساهم في تعزيز بيئة آمنة للمسلمين في المجتمع الألماني.
بهذه المبادرات المتنوعة، يثبت مسجد أبي بكر الصديق بمدينة فرانكفورت أنه ليس مجرد مكان للعبادة، بل هو مؤسسة مجتمعية فاعلة تساهم في بناء مجتمع أكثر تسامحا وتنوعا.