آخر الأخبار

10 مهام خطيرة يقوم بها العميل المزدوج

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في عصر يوم من أيام يونيو/حزيران 1987، دوّى رنين الهاتف في منزل جيمس أولسون مسؤول محطة الاستخبارات الأميركية في فيينا، ووجد على الخط حارسا من مشاة البحرية بالسفارة الأميركية، يقول في نبرة لا تخطئها أذن من اعتاد العمل في الظل "لدينا زيارة غير مقررة مسبقا، الأفضل أن تأتي فورا".

لم تكن توقعات أولسون مرتفعة، فمعظم من يطرقون باب السفارة بدافع الهرب من شرق أوروبا يظنون أنهم يحملون كنوزا استخباراتية، بينما لا يملكون عادة شيئا مفيدا.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 ضابط في "سي آي إيه" يكشف 10 خطوات لصيد أخطر الجواسيس
* list 2 of 2 "العيون الخمس".. كيف تدير واشنطن أكبر منظومة مراقبة وتجسس؟ end of list

ورغم الضجر قاد أولسون سيارته عبر شوارع العاصمة النمساوية الهادئة نحو سفارة بلاده، وما إن دخل حرم السفارة حتى لفت نظره رجل ذو ملامح لاتينية يجلس في ركن الانتظار، وإلى جواره فتاة صغيرة بدت للوهلة الأولى أنها ابنته. تبادل ضابط الاستخبارات الأميركي نظرة سريعة مع الحارس قبل أن يسأله ماذا لدينا هنا؟ فناوله الحارس جوازَي سفر كوبيين رسميين، فأدرك الضابط أن هذه الزيارة مختلفة.

سارع الضابط أولسون لمقابلة الرجل الكوبي لكنه اصطدم بجدار اللغة. فلم يكن يتحدث اللغة الإسبانية، والرجل لم يكن يعرف من الإنجليزية سوى بضع كلمات، فتحدثا باللغة الروسية.

وبدأ الرجل الكوبي يردد أمامه أسماء يعرفها الضابط الأميركي جيدا: إنها أسماء ضباط وكالة المخابرات المركزية السريين داخل أوروبا الشرقية. عندها شعر أولسون بأنه أمام شيء أكبر بكثير مما توقع. فاستدعى أحد ضباطه الناطقين بالإسبانية، ونقل الرجل والفتاة على الفور إلى مخبأ آمن، ثم أخرجهم سرا من النمسا فجر اليوم التالي.

كان الرجل هو العقيد فلورنتينو لومبارد رئيس محطة الاستخبارات الكوبية في براغ، أما الفتاة فكانت عشيقته المراهقة، وهي ابنة مسؤول كوبي في السفارة، وقد فرّا معا تاركين خلفهما زوجته وأطفاله في براغ.

قصد المنشقّان فيينا ليعرضا خدماتهما على وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وليدشنا حياة جديدة بعيدا عن قبضة هافانا. وكانت قصتهما بمثابة قنبلة فجّرت واحدة من أكبر الإحراجات في تاريخ الاستخبارات الأميركية.

إعلان

فقد كشف لومبارد أن الكوبيين الـ38 الذين اعتقدت السي آي إيه أنها جنّدتهم على مدى 26 لم يكونوا سوى عملاء مزدوجين تتحكم بهم الاستخبارات الكوبية من الألف إلى الياء، وأن كل معلومة وردت من هؤلاء "العملاء" كانت مزيّفة، وأن كل الأموال والمعدات التي أُرسلت إليهم بما فيها نظام متطور للاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية ، انتهت في خزائن هافانا، مما جعل أولسون يقول "أكره الاستخبارات الكوبية، لكني أحترمها وأخشاها، فجهاز الاستخبارات الكوبي هو الجهاز الأكثر فعالية في مواجهة مكافحة التجسس الأميركية".

كانت تلك القصة الحقيقية واحدة من بين عشرات القصص التي رواها جيمس أولسون رئيس قسم مكافحة التجسس الأسبق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في كتابه "كيف تمسك جاسوسا؟"، الذي غاص فيه بالقراء في عمق العمليات الاستخبارية، وبالأخص التجسس المزدوج، فشرح بشكل فريد كيفية اختيار العملاء المزدوجين، وطريقة بدء عملياتهم، وآليات إدارتها، وأساليب كشفهم التي ينفذها ضباط الاستخبارات.

إن العميل المزدوج هو شخص يزعم أنه يعمل لصالح جهاز استخبارات محدد، ولكنه يقدم تقاريره إلى جهاز استخبارات آخر، وتعد قضايا العملاء المزدوجين الأكثر تعقيدا في مجال التجسس ومكافحته، لأنها تقوم على إدارة علاقة مركبة تحمل في داخلها خطر الانهيار في أي لحظة.

أحيانا لا ينتهي الجدل حولها بعد سنوات طويلة من خروج أحداثها للعلن، فالروسي موريس تشايلدز الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في صباه، وعمل لصالح الاستخبارات الأميركية والسوفياتية خلال الفترة من 1958 إلى 1977، قد حصل في الوقت ذاته على وسام الراية الحمراء السوفياتي وميدالية الحرية الرئاسية الأميركية تقديرا لجهوده في خدمة كلا البلدين.

وما زال الجدل دائرا في مصر وإسرائيل حول دور أشرف مروان صهر الرئيس السابق جمال عبد الناصر، هل قدم للإسرائيليين معلومة موعد بدء حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 وفق الرواية الإسرائيلية، التي عضدها تسفي زامير رئيس الموساد وقت اندلاع الحرب، أم ضللهم بخصوص الموعد وفق رواية الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك . وقد وصل الجدل حول مروان لدرجة أن كتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف عنه كتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، الذي تحول إلى فيلم سينمائي.

مراحل عمليات التجسس المزدوج

تبدأ عملية التجسس المزدوج عادة بتحديد الهدف والغاية، فيجتمع جهاز الاستخبارات لمناقشة أهم الاحتياجات، مثل الدول ومجالات المعلومات التي تتطلب العمل عليها. وبمجرد تحديد الاحتياجات، يُوضع ملف تعريف للعميل المطلوب ثم يبدأ ضباط الاستخبارات في محاولة إيجاد مرشح مناسب. وقد تأخذ هذه العملية بضعة أسابيع أو شهور.

ويتطلب هذا العمل نوعا خاصا من الأشخاص لإتمامه، مثل أن يكون الشخص المرشح ممثلا بارعا كي يبني قصة مقنعة، قادرا على التفكير السريع والتعامل مع الضغوط دون انهيار، ومتمكنا من قراءة الآخرين جيدا، ودقيق الملاحظة، ملتزما بالتعليمات. وعند العثور على الشخص المناسب تبدأ مفاتحته بشكل مباشر أو من خلال وسطاء، وفي حال قبوله للعمل تبدأ عملية الفحص والتدقيق والتدريب المطولة.

إعلان

إن اختيار الشخص المناسب يمثل النقطة الأهم في مسار إدارة العملية، فليس كل من يقبل التعاون يصلح لأن يكون عميلا مزدوجا، فمعظم الأخطاء تبدأ عند اختيار شخص لا يستطيع التكيف مع الضغط أو يتعامل بردود فعل غير محسوبة.

وفي تلك المرحلة تُبنى للعميل المزدوج حياة كاملة موازية من الصفر تشمل نشأته، ونمط علاقاته، وتاريخه المهني، وتفاصيله اليومية وصولا إلى مشكلاته الشخصية لكي تتناسب مع الصورة التي ينبغي أن يراها الخصم، كما تعاد صياغة علاقاته بمحيطه القريب داخل بلده عبر تغيير نمط عاداته اليومية، أو افتعال مشاكل وظيفية تخدم الغطاء المطلوب. وأي فجوة صغيرة في هذا الواقع الموازي يمكن أن تؤدي إلى انهيار العملية، لأن الخصم عادة ما يختبر الرواية المقدمة له من خلال مقارنة سلوك العميل مع الظروف المحيطة به.

ويشير أولسون إلى أن بعض الدول -خاصة ذات التقاليد الاستخباراتية الصارمة مثل روسيا والصين- لا تمنح ثقتها بسهولة، فتستغرق عمليات التغلغل عبر عميل مزدوج وقتا أطول مقارنة بجهات أقل صرامة. ولهذا فإن الصبر عنصر لا غنى عنه، وفشل الجهاز في احترام الزمن يؤدي غالبا إلى انهيار العملية قبل أن تحقق أي نتيجة ذات قيمة.

وتبدأ نقطة القوة الأساسية في تشغيل هذا النوع من العمليات من الفهم العميق لما يبحث عنه الخصم، فكل جهاز استخبارات لديه نمط من التوقعات، وطريقة معينة في اختبار الأشخاص، ومنظومة متطلبات عند التعامل مع العملاء المحتملين. ولذا تدرس الجهة التي ستدير العميل المزدوج صورة العميل التي يريد الخصم أن يراها، وتحرص على تجهيز 3 أمور أساسية:


* قدرة العميل على الوصول إلى معلومات حصرية.
* إبراز نقطة ضعف مصطنعة لديه يمكن البناء عليها.
* تجهيز دليل ولاء أولي يطمئن الطرف المعادي لجدية العميل.

وهنا تدخل العملية في منعطف جديد عبر تدبير حيلة مناسبة لبدء إلقاء الطعم للخصم. ومن الطرق الشائعة لذلك أن يتوجه العميل إلى سفارة أو قنصلية أو مركز ثقافي أو أي منشأة رسمية أجنبية أخرى تابعة للبلد المستهدف، ليطلب التحدث إلى ضابط الأمن بالسفارة أو شخص مسؤول.

وأحيانا يتم اللجوء لحيل أكثر تعقيدا تتقاطع مع الثقافة التشغيلية لدى الجهاز المقابل، عبر هندسة مشهد يضع الأساس النفسي الذي سيبني عليه الخصم قراءته لشخصية العميل. وتهدف تلك الحيل لطمأنة الجهاز المعادي بأنه هو الذي بدأ الاتصال من جهته بعد رصده عميلا محتملا.

ومن أمثلة ذلك إرسال شخص أميركي لدراسة اللغة الصينية داخل الصين أو في مركز ثقافي صيني، وخلال النقاشات يبدي تبرمه من السياسات الأميركية، أو أن يشتكي دبلوماسي أو ضابط أميركي وهو في حالة سكر أثناء حضوره أنشطة اجتماعية في وجود أشخاص من جنسيات أجنبية، من سوء أوضاعه المالية، ويبدي حاجته للمال، ويتسخط من عدم كفاية الراتب أو يتبرم من طريقة تعامل رؤسائه في العمل معه إلى غير ذلك من إشارات جاذبة تلتقطها الجهات المستهدفة.

وفي المقابل تتشكك أجهزة الاستخبارات تجاه العملاء المفاجئين، وعادة ما يكون لديها ضابط مكشوف الهوية مُخصص لمقابلة العملاء المفاجئين وتقييمهم. وفي حال التقييم الإيجابي ينتقل الملف لمشغل آخر وتبدأ العملية المزدوجة فعليا.

اختبارات الولاء

يتطلب تشغيل العميل المزدوج إدارة دقيقة تبدأ من اختيار نوع المعلومات التي يمكن تقديمها للخصم دون أن يسبب تسريبها ضررا فعليا. ولهذا تُراجع كل مادة معلوماتية قبل تمريرها بحيث تبدو مهمة للخصم على أن تكون خسارتها محتملة للجهاز المشغِّل.

ويراعى عندئذ تحديد صلاحيات مقنعة للعميل؛ فلا يكون في منصب شديد الحساسية مما يدفع الخصم لطلب وتيرة معلومات مكثفة وشديدة السرية تكشف العملية سريعا، ولا يكون في مستوى منخفض يثير الشك في قدرته على الوصول. ويترافق ذلك مع التخطيط لكل اجتماع قادم لاستباق أي طارئ محتمل.

إعلان

وإن أفضل مؤشر للخصم على حسن نية العميل وصدقه هو أن ينتج بشكل متواصل معلومات استخباراتية قيّمة وقابلة للتحقق تضر بمصالح الجهة التي ينتمي لها. وفي حال تراجع الإنتاج، وظهور الوعود والأعذار من قبيل الحديث عن الانتقال قريبا إلى وظيفة أفضل، أو وجود صعوبة الوصول إلى الملفات، عادة ما يستخدم الجهاز المقابل اختبارات لقياس صدقية العميل؛ مثل طلب مستند يفترض أن الوصول إليه لا يثير الشك.

وإذا فشل العميل في هذه المهمة، تنتقل العملية إلى مستوى آخر عبر عمل فخاخ له، مثل طلب نقل طرد مغلق إلى مكان ما، مما سيكشف أي محاولة منه لفتحه أو العبث به، وقد تظهر مؤشرات أخرى تُشكك في العميل مثل الإلحاح غير المبرر منه للحصول على معدات أو قنوات اتصال خاصة أو حضور دورات تدريبية معينة، وهو سلوك يرتبط عادة بجهاز خارجي يحاول الاستفادة من العملية.

وفي تلك العمليات يبرز خطر تغير ولاء العميل وانتقاله للعمل فعليا لصالح الخصم، ولهذا يوصي أولسون بأن يخضع العميل المزدوج لرقابة داخلية لا تقل صرامة عن رقابة الخصم له، وأن تكون المعلومات التي تصل إليه محدودة وغير كافية لإلحاق ضرر كبير في حال تغيّر ولاؤه.

مصدر الصورة العميل المزدوج هو أعقد نمط في العمل الاستخباري (بيكسلز)

من يدير العميل المزدوج؟

يشرح أولسون أن تشغيل العميل المزدوج ليس مهمة فردية يقوم بها ضابط واحد، بل عملية متعددة الطبقات تشترك فيها مجموعة من الاختصاصين الذين تتوزع مهامهم بين التحليل والتشغيل والمراجعة الأمنية والاستخبارات المضادة. ويؤكد أن أي عملية مزدوجة لا تنجح إلا إذا وُضعت ضمن شبكة إشراف صارمة تكفل عدم خروج العميل عن النطاق المرسوم له، وعدم اتخاذ أي خطوة يمكن أن تمنح الخصم مفاتيح لفهم ما يجري.

ومن ثم تُدار العملية من خلال "فريق تشغيل" يتضمن ضابط تشغيل مباشر، ومحللا يتابع ردود الخصم، ومسؤول أمن داخلي يراقب تصرفات العميل، ومستشارا نفسيا يقيّم استقرار العميل وقدرته على الاستمرار في العملية.

وعقب كل لقاء بين العميل ومشغله المعادي، يعيد الضابط المسؤول بناء تفاصيل اللقاء لحظة بلحظة، بينما يفحص المحللون الأسئلة التي طرحها المشغل لتحديد مستوى فهمه للمعلومات التي تلقاها من العميل. وفي الخلفية، يراقب مسؤولو الأمن الداخلي التزام العميل بالقصة التي تم تدريبه عليها، ويبحثون عن أي مؤشرات على التوتر أو الانحراف.

أهداف التجسس المزدوج

تتعدد أهداف أسلوب "العملاء المزدوجين" بحسب أولسون، لكن يمكن تلخيصها في 10 عناصر رئيسية تشمل:


* نشر معلومات مضللة.
* اختبار الأسلوب العملياتي للخصم.
* تحديد ضباط استخباراته.
* التعرف على أولويات جمعه للمعلومات.
* الحصول على معلومات استخبارية إيجابية.
* تعطيل العمليات المعادية.
* استنزاف موارد الخصم المالية.
* التأثير على سمعة الخصم.
* اختبار الدول الأخرى للتعرف على مدى شفافيتها في العلاقات الثنائية.
* في النهاية محاولة دفع ضابط الحالة المعادي إلى التفكير في الانشقاق.

ويعدّ نشر المعلومة المضللة أحد الأساليب الأكثر حساسية في التجسس المزدوج لأن المعلومة التي ينكشف زيفها ستُسقط العملية بالكامل، والنجاح في التضليل يتطلب بيئة تسمح بتمرير رواية للخصم دون أن يكشف تناقضاتها أو يشك فيها. فالضابط المعادي غالبا ما يملك قدرة على التحقق من المعلومات، ولهذا يندر استخدام التضليل المباشر سوى في حالات يكون فيها العائد المأمول مرتفعا، أو تكون مسارات التحقق محدودة.

ومن أبرز أمثلة ذلك نجاح الاستخبارات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية بعد كسرها للشفرات الألمانية في اعتقال كل الجواسيس الألمان داخل بريطانيا، ودفع العديد منهم للتعاون كعملاء مزدوجين، واستخدامهم لتمرير مزيج من المعلومات الاستخباراتية الحقيقية والكاذبة إلى مشغليهم الألمان لإقناعهم بأن الحلفاء في فرنسا يجهزون دفاعاتهم في بادو كاليه وليس في نورماندي، مما ساهم في نجاح إنزال الحلفاء في نورماندي عام 1944.

كذلك يعد تحديد الأسلوب العملياتي للخصم من أبرز مزايا عمليات العميل المزدوج. فلكل جهاز استخبارات أنماط عمل يُدرب عليها ضباطه، ومن خلال التعرف عليها يمكن تفكيك شبكاته الاستخبارية.

فمن خلال لقاءات ضابط الحالة المعادي مع العميل المزدوج يمكن فهم نوعية الأماكن التي يستخدمها عادة لعقد لقاءاته مثل المقاهي أو الحدائق أو المنازل الآمنة أو السيارات والمطاعم والميادين المزدحمة أو المناطق الهادئة، كما يتم التعرف على معدل اللقاءات التي يعقدها الضابط مع عملائه مثلا هل هي نصف شهرية أم شهرية أم أكثر من ذلك؟ وماهية المعدات التي يقدمها للعملاء للتصوير والتسجيل أو للاتصالات ونقل المعلومات، ونوعية التدريب الذي يقدمونه للعملاء، وهل يتم داخل البلد أم خارجها، ولو في الخارج ففي أي البلاد عادة.

إعلان

هذه التفاصيل التي تبدو صغيرة في ظاهرها، تكشف بمرور الوقت أنماطا ثابتة، وتسمح ببناء خريطة لأسلوب الخصم. ويقدم أولسون مثالا توضيحيا قائلا: لنفترض أن مكتب التحقيقات الفدرالي دبّر عملية صغيرة لعميل مزدوج في كاليفورنيا يعمل مهندس حاسوب في شركة تكنولوجيا متقدمة في وادي السيليكون .

يتولى القضية ضابطٌ من جهاز المخابرات العسكرية الروسية يعمل متخفيا انطلاقا من القنصلية الروسية في سان فرانسيسكو. تُعقد الاجتماعات بين العميل المزدوج وضابطه الروسي في مطاعم ومقاه صغيرة في الضواحي الجنوبية لسان فرانسيسكو، فيتعرف مكتب التحقيقات الفدرالي إلى هوية الضابط الروسي، ويتتبع تحركاته من خلال المراقبة ونقاط الرصد.

وبمرور الوقت، يتضح أن مدة كشف مراقبته تستغرق ساعتين في المتوسط، وأنه عندما يلتقي الضابط بعميله المزدوج في الساعة الثالثة في مقهى محدد، يغادر القنصلية قبلها الساعة الواحدة ظهرا، وبالتالي سيراقبه مكتب التحقيقات الفدرالي عند مغادرته القنصلية ثم يتركه لمدة ساعتين ليعتقد أنه يتحرك بحرية خلالها ثم يبدأ بعد ساعتين في متابعته من كثب بعد رصد سيارته في المنطقة المرجح وجوده فيها.

ففي هذا المثال يسمح الإيقاع المتكرر الذي يتبعه الضابط الروسي باستنتاجات دقيقة حول الزمن الذي يتطلبه لتفادي المراقبة، والأماكن التي يميل لاختيارها للقاء عملائه، والطريقة التي يحاول من خلالها بناء الغطاء لهم. ومن خلال هذه التفاصيل يصبح بالإمكان التنبؤ بحركته إلى حد كبير، ثم استخدام هذا النمط للعثور على عملائه الآخرين غير المعروفين.

مصدر الصورة تسهم عمليات التجسس المزدوج في إهدار وقت الخصم حيث تقلل من الوقت المتاح لها لتنفيذ عمليات حقيقية، كما تستنزف أموال الخصم (بيكسلز)

ويمثل التعرف على "ضباط الحالة" لدى الخصم هدفا مركزيا، وهم الضباط الذين يشرفون على تشغيل العميل من طرف الجهاز المقابل. فالأجهزة الأجنبية تستثمر في بناء أغطية محكمة لضباطها تبرر وجودهم في البلاد التي يعملون بها، سواء عبر البعثات الدبلوماسية أو التجارية أو الأكاديمية أو الإعلامية، وهنا يلعب العميل المزدوج دور الطعم لجذب الهدف وتحديد هويته، تمهيدا لمراقبته، ثم مطابقة صفاته مع قواعد البيانات الخاصة بالدبلوماسيين أو الطواقم الرسمية.

وبحسب أولسون، فإن عمليات العملاء المزدوجين التي تستمر لفترات طويلة تؤدي إلى مزيد من الكشف عن هوية أفراد الاستخبارات المعادين، بحجم يصل إلى ما بين 20 و30 ضابطا، إذ يتناوب ضباط الحالة بانتظام على مهام متنوعة لتدريب العميل أو النقاش معه حول تفاصيل فنية تحتاج متخصصين، فعادة ما يدير ضابط الحالة الرئيسي الجوانب التشغيلية اليومية للعملية، ولكنه قد لا يمتلك المعرفة المتعمقة اللازمة لاستجواب العميل المزدوج حول موضوع فني معقد. ومع امتداد العملية، وتبدّل الضباط بحسب تنوع المهام، يبدأ الجهاز المحلي تكوين تصور متكامل عن الشبكة الكاملة لضباط الخصم داخل البلد.

كذلك تساعد عمليات العملاء المزدوجين في تحديد "متطلبات جمع المعلومات لدى الخصم"، فتحديد أجهزة الاستخبارات للمجالات المطلوب جمع معلومات عنها أمر يتم بشكل منهجي بعيدا عن العشوائية، وبالتالي نوعية المعلومات التي يطلبها الجهاز المعادي من العميل المزدوج، والمعلومات التي لا يطلبها، تحدد مجالات اهتمام الخصم، والأولويات لديه.

وأحيانا، توقن أجهزة الاستخبارات الأجنبية بمصداقية عميل مزدوج لدرجة أنها تشاركه معلومات استخباراتية إيجابية بهدف تزويده بمعلومات أساسية لمساعدته في جهود جمع المعلومات. أو قد تصبح علاقة ضابط الحالة بالعميل ودية لدرجة تدفعه للتباهي أمامه بإنجازاته السابقة أو الحالية.

كذلك تسهم عمليات التجسس المزدوج في إهدار وقت الخصم حيث تقلل من الوقت المتاح لها لتنفيذ عمليات حقيقية، كما تستنزف أموال الخصم. ويمتد استخدامها ليشمل اختبار الدول الأخرى الصديقة، فالعرض الخداعي الذي يُقدَّم لجهاز استخبارات صديق من طرف عميل يعرض خدماته مقابل المال مثلا، يهدف لتقديم طُعم لكشف مدى التزام الأصدقاء واستعدادهم للتعاون.

فالدول الصديقة التي تبلغك فورا بمحاولة شخص من بلدك التجسس لحسابها تكتسب درجة ثقة أعلى، أما التي تتجاهل التبليغ ولا تستجيب للعميل فتحوز لديك درجة أقل، أما التي تتفاعل مع العرض فتكشف عن زيف صداقتها.

أما عرض تجنيد ضابط الحالة المعادي فهو الهدف الختامي في أسلوب العملاء المزدوجين، فالعلاقة بين الضابط والعميل، التي تتشكل عبر لقاءات متعددة، توفر مساحة نفسية تتيح للعميل المدرب أن يعرض على الضابط الانضمام إلى الجهة المشغّلة.

ورغم أن النسبة الكبرى من هذه العروض بحسب أولسون تنتهي بالرفض، فإن مجرد تقديم العرض يترك آثارا مدمرة على ضابط الحالة؛ حيث يدرك أنه وقع في عملية محكمة، وأنه قد يصبح محل سخط رؤسائه، وربما يُفصل من عمله لتعرضه للخداع. وفي هذا الوضع لا يكون التجنيد هو الهدف بقدر ما يكون ضرب الجهاز الخصم من الداخل وتشويه صورة ضباطه وإفقادهم الثقة بالعملاء الحقيقيين الذين يشرفون على تشغيلهم.

كيف ينهار العميل المزدوج؟

إن أبرز خطر على العميل المزدوج هو ذاته، فالعميل يعيش حالة ازدواج نفسي مستمرة حيث يتواصل مع جهة خارجية، وفي الوقت نفسه يلتزم بخطاب وطني أمام جهازه المحلي. وهذا الانقسام قد يتحول، عند بعض الأشخاص، إلى نقطة انهيار تظهر في شكل قلق شديد، أو تردد في تنفيذ التعليمات، أو رغبة في الهرب من العملية بالكامل.

وفي بعض الحالات قد يعيش العميل معركة داخلية بين انتمائه الوطني أو الديني أو الأيدولوجي أو العرقي وبين دوره العملياتي. وفضلا عن ذلك، يأتي خطر انشقاق ضابط الحالة ضمن الأخطار المفاجئة وغير المتوقعة، كما في مثال ضابط الاستخبارات الكوبي فلورنتينو لومبارد.

إن العميل المزدوج هو أعقد نمط في العمل الاستخباري، إذ يتطلب تجنيدا دقيقا، وبناء قصة محكمة، وإدارة نفسية عميقة، ومراقبة مستمرة، وقدرة على تحليل سلوك الخصم من خلال ردوده، كما تحتاج العملية إلى جهاز يمتلك صبرا ومرونة وقدرة على التحليل، فالنجاحات في هذا المجال تتيح رؤية من داخل عقل الخصم، ومعرفة بطريقة بنائه لقراراته، وقدرة على التأثير في قراءته للواقع، وهي مكتسبات لا تُقدر بثمن في الصراعات.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا