في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تقدم سارة باين، أستاذة التاريخ والإستراتيجية العليا في كلية الحرب البحرية الأميركية منظورا لفهم الصراع العالمي الحالي بوصفه جولة أحدث من الصراع التاريخي بين القوى البرية "القارية" والقوى البحرية.
تعد الأرض هي عملة القوة من وجهة نظر القاريين لذا فإنهم يميلون دائما لتوسيع حيازتهم من الأراضي كما فعلت روسيا مع أوكرانيا، في المقابل يعد المال أو الثروة هو عملة القوة للنظام البحري، الذي تقوده الولايات المتحدة وقوامه الرئيسي حرية الملاحة والتجارة الحرة.
تقول باين، في مقالها المنشور بمجلة فورين أفيرز، إن الصراعات الكبرى خلال القرنين الماضيين حسمت التفوق لصالح البحريين، منذ انتصار بريطانيا (البحرية) على فرنسا النابليونية (القارية) وهزيمة ألمانيا خلال الحربين العالميتين وكسر الطموحات القارية لليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي تاركا الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على العالم. هذا التفوق، دفع حتى الدول القارية التقليدية مثل الصين إلى الاندماج في النظام البحري العالمي حتى وإن ظلت تسلك سلوكا قاريا توسعيا.
المشكلة الرئيسية -حسب الكاتبة- أن السنوات الماضية شهدت انتقادات متزايدة للمنظور البحري العالمي ليس فقط من قبل القوى القارية مثل روسيا أو الصين ولكن حتى من داخل الولايات المتحدة التي ترتد إلى نموذج قاري توسعي وتلّوح بالاستيلاء على أراضي جيرانها مثل كندا وغرينلاند وبنما.
وتحذر من أن هذا التوجه -إذا استمر- من شأنه أن ينتهي بالولايات المتحدة دولة وحيدة ومنبوذة بل وضعيفة وأن تتخلى طوعا عن المقومات المسؤولة عن قوتها وازدهارها من الأساس.
ويجدر التنويه أن المقال يعبر عن رؤية تتبنى القيم الغربية في مصطلحاته السياسية وقراءته للتاريخ، وبالتالي يحتاج القارئ لعين ناقدة، ومع ذلك فإن هذا المقال يحوز أهميته المعرفية من كونه بوابة لفهم الصراع على النظام العالمي الحالي من خلال الجغرافيا السياسية.
تعيد المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى تعريف العلاقات الدولية في عالم اليوم، لكنّ الخطوط العريضة لتلك المنافسة تظل موضع جدل. فمن ناحية، يستدعي بعض المراقبين السوابق الأيديولوجية للحرب الباردة، في حين يركز آخرون على التوازنات العسكرية المتغيرة، وهناك فريق ثالث يسلط الضوء على الطبيعة الشخصية للقادة العالميين وخيارتهم.
لكن الحقيقة هي أن الصراعات المعاصرة حول النظام الدولي تنبع من خلاف طويل الأمد -وإن كان غير معترف به بما يكفي- حول مصادر قوة الدول وازدهارها، وهو ما يقودنا إلى الجغرافيا التي أنتجت منظورين عالميين متعارضين: أحدهما قاري (يتمحور حول الأرض) والآخر بحري (يدور حول السيطرة على البحار).
في العالم القاري، تُعدّ الأرض هي عملة القوة. تعيش معظم الدول، بحكم موقعها الجغرافي، في عالم قاري بمحاذاة جيران متعددين، هؤلاء الجيران كانوا على مدار التاريخ هم الخصوم الرئيسيون بعضهم لبعض.
أولئك الذين لديهم ما يكفي من القوة لغزو الآخرين -القوى المهيمنة القارية مثل الصين وروسيا- يعتقدون أنه يجب تقسيم النظام الدولي فيما بينهم إلى مناطق نفوذ ضخمة، وهم يضخون الموارد في جيوشهم لحماية حدودهم، ويقهرون جيرانهم في حروبٍ تستنزف ثرواتهم، ويرسّخون حكمًا استبداديًّا في الداخل لإعطاء الأولوية للاحتياجات العسكرية على حساب الاحتياجات المدنية.
والنتيجة حلقة مفرغة نظرا إلى أن استمرار القمع الداخلي يتطلب من الطغاة وجود عدو كبير، واصطناع تهديدات أمنية تُؤدي إلى المزيد من الحروب.
على النقيض تماما، تتمتع الدول ذات الخنادق المحيطية (أي المحاطة بالبحار والمحيطات) بأمن نسبي من الغزو وبالتالي، يمكنها التركيز على مضاعفة ثرواتها بدلًا من محاربة جيرانها.
ترى هذه الدول البحرية أن المال وليس الأرض هو مصدر القوة لذا فإنها تعمل على تعزيز ثرواتها من خلال التجارة الدولية والصناعة، مما يقلل من وطأة الموازنة الصعبة بين الاحتياجات العسكرية والمدنية.
وبينما تنجذب القوى المهيمنة القارية نحو إستراتيجيات "اللعبة الصفرية" (Finite game) حيث يأخذ الفائز كل شي ويخسر المهزوم كل شي يفضل أصحاب المصلحة في النظام البحري "لعبة المنافع المتبادلة" (Infinite game) المتمثلة في مضاعفة الثروة وتبادل المنافع، لذا فإنهم ينظرون إلى جيرانهم كشركاء تجاريين، لا أعداء.
تعود جذور النظرة البحرية إلى العالم إلى زمان الأثينيين القدماء الذين اعتمدت إمبراطوريتهم على مراكمة الثروة من التجارة الساحلية. ترغب الدول ذات التوجه البحري في معاملة المحيطات كمشاعات، حتى يتمكن الجميع من مشاركتها والتجارة خلالها بأمان.
وليس من قبيل المصادفة أن هوغو غروتيوس (القاضي والفيلسوف واللاهوتي)، الأب المؤسس للقانون الدولي، جاء من الجمهورية الهولندية، وهي إمبراطورية تجارية (بحرية). ومنذ الحرب العالمية الثانية، طوّرت الدول ذات التوجه التجاري مؤسسات إقليمية وعالمية لتسهيل التجارة، وخفض تكاليف المعاملات، وتنمية الثروة، ونسّقوا جهود خفر سواحلهم وقواتهم البحرية للقضاء على القرصنة لضمان مرور التجارة.
وقد نتج عن ذلك نظام بحري متطور قائم على القواعد، يضم عشرات الأعضاء الذين يطبقون معًا القواعد التي تحميهم جميعًا.
تعد المنافسة الدائرة في عالم اليوم النسخة الأحدث من الصراع بين القاريين والبحريين. فمنذ الحرب العالمية الثانية، عكست إستراتيجية الولايات المتحدة مكانتها بوصفها قوة بحرية، وبفضل بنيتها الاقتصادية، كان لدى أميركا مصلحة في الحفاظ على التجارة وحرية التبادل التجاري، وبسبب موقعها الجغرافي وقوتها، كان بإمكانها منع بعض الدول من تقويض سيادة الدول الأخرى.
في الوقت نفسه، تسعى الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا إلى تقويض النظام القائم على القواعد لأن قادتها يعتبرون المجتمعات الأكثر ليبرالية تهديدًا وجوديًّا لحكمهم ورؤاهم الأمنية الوطنية.
ويمكن للولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب الباردة الثانية، كما انتصرت في الحرب الباردة الأولى، عبر الالتزام بإستراتيجيات القوة البحرية الناجحة. ولكن إذا ارتدت البلاد إلى نموذج قاري -من خلال إقامة الحواجز وتهديد الجيران وتقويض المؤسسات العالمية- فمن المرجح أن تفشل، وحينها ربما لا تتمكن أبدا من التعافي.
إبان الحروب النابليونية، طورت المملكة المتحدة إستراتيجية بحرية حديثة لمواجهة القوى القارية مكنت لندن من أن تصبح القوة المهيمنة في العالم، ليس عن طريق نشر جيشها للقضاء على منافسيها، بل بإثراء نفسها من التجارة والصناعة، بينما كانت الدول الأوروبية الأخرى يُدمِّر بعضها بعضا عسكريا. كان على جميع الدول القارية الاحتفاظ بجيوش ضخمة إما لغزو جيرانها أو لردعهم وتجنب الغزو، وغالبًا ما نظمت هذه الدول اقتصاداتها وفقًا لاحتياجات جيشها، لا أولويات تجارها.
لكن المملكة المتحدة، المحمية من كل جانب بالمياه وبأسطولها البحري المهيمن، كانت أقل خوفًا من الغزو، لذا فإنها لم تكن بحاجة إلى قوة برية كبيرة ومكلفة، ومزعزعة سياسيا (ربما تقود انقلابا). وقد سمح لها ذلك الوضع بالتركيز على مضاعفة ثروتها من خلال التجارة، معتمدةً على أسطولها البحري للدفاع عن ممرات الشحن.
كانت بريطانيا عضوا ثابتا في عدد من التحالفات التي حاربت فرنسا. وبعد أن هزمت البحرية الملكية نابليون في معركة ترافالغار (1805- قبالة سواحل إسبانيا)، لجأ القائد الفرنسي إلى إستراتيجية اقتصادية، حيث فرض حصارًا واسع النطاق على التجارة البريطانية ضمن خطة أسماها "فرنسا أولًا".
لكن هذا الحصار أضر باقتصادات فرنسا وحلفائها أكثر بكثير مما أضر بلندن، التي كانت تتمتع بإمكانية الوصول البحري إلى أسواق بديلة في جميع أنحاء العالم وقد دفع الحصار نابليون إلى شن غزوه المدمر لروسيا، التي استمرت في التجارة مع البريطانيين.
وبدلًا من محاربة جيش نابليون الضخم بشكل مباشر، استخدمت المملكة المتحدة ثروتها المتنامية لتمويل وتسليح النمسا وبروسيا وروسيا والعديد من الدول الصغرى، التي حاصرت معًا الجزء الأكبر من قوات نابليون على الجبهة الرئيسية في وسط أو شرق أوروبا. ثم فتح البريطانيون مسرحًا جانبيا في شبه الجزيرة الأيبيرية أسماه نابليون "القرحة الإسبانية" (Spanish ulcer)، مما زاد استنزاف الفرنسيين.
أثقلت الخسائر التراكمية على هذه الجبهة والجبهة الرئيسية كاهل نابليون، مما أدى إلى هلاك جيشه عندما اجتمع عليه خصومه في وقت واحد. وقتها، عانت كل دولة أوروبية تقريبًا من أضرار الحرب الواسعة النطاق، لكن الاقتصاد البريطاني وحده خرج سالمًا (وهو ما حدث أيضا مع الولايات المتحدة التي خرجت بأقل الأضرار في كلتا الحربين العالميتين).
بعد الحروب النابليونية، أثمرت الثورة الصناعية نموا اقتصاديا مركبا تسبب في ميل الموازين أكثر لصالح القوى البحرية. وفجأة، أصبح اكتساب القوة من الصناعة والتجارة أسهل بكثير من حوزها عن طريق الحروب التي تُدمر الثروات.
واعتمد تحقيق ذلك على خطوط الاتصال الخارجية التي توفرها البحار بدلًا من الخطوط الداخلية التي استخدمتها القوى القارية، مثل فرنسا النابليونية، للدفاع عن إمبراطورياتها وتوسيعها. ونتيجة لذلك، أصبح النظام العالمي اليوم بحريًّا بطبيعته، على الرغم من أن قلة من الناس يدركونه حقا بهذه الطريقة.
واليوم يعيش حوالي نصف سكان العالم على ضفاف البحار، وتُشكل المناطق الساحلية ما يقرب من ثلثي الثروة العالمية، وتصل 90% من السلع المتداولة (مقاسة بالوزن) إلى وجهتها النهائية عبر المحيطات، وتُمثل الكابلات البحرية 99% من حركة الاتصالات الدولية، في حين تُنظم الهيئات والمعاهدات الدولية حرية التجارة.
وبينما تربط البحار كل شيء، لم يعد بإمكان دولة واحدة أن تبقيها مفتوحة، ولكن تحالف الدول الساحلية معا هو الذي يجعلها آمنة للنقل.
أفاد هذا النظام شعوب العالم وقلل من الاختناقات، مما أدى إلى خفض التكاليف. كما أن البحار الآمنة والمفتوحة سهلت النمو الاقتصادي، ورفعت مستويات المعيشة وأصبح بإمكان الناس السفر والعمل والاستثمار في الخارج.
ويُعد المليارديرات أكبر المستفيدين من النظام البحري لأنهم الأكثر عرضة للأضرار عند زوال القواعد، ولأن مصالحهم الاقتصادية عالمية بطبعها، كما أن الدول المنخرطة في النظام البحري أغنى بكثير من تلك التي تسعى إلى تقويضه.
وحتى أولئك الذين يريدون قلب هذا النظام قد استفادوا منه والمثال الأبرز على ذلك هو الصين التي لم تبدأ رحلة صعودها إلا بعد انضمامها إلى النظام البحري مع انتهاء الحرب الباردة.
أما الاقتصادان الإيراني والروسي فكانا سيصبحان أكبر بكثير من حجمها اليوم لو أن كلتا الدولتين التزمت بالقانون الدولي وانخرطت بشكل أكبر في النظام التجاري العالمي.
في العالم القاري، ترتبط القوة بالأرض والسيطرة عليها ويعد الجيران دائما مصدر خطورة وتعمل القوى المهيمنة القارية باستمرار على زعزعة استقرار الدول المجاورة. يحدث ذلك في الزمن الحديث عن طريق إغراقها بأخبار كاذبة لتأجيج الاستياء الداخلي والخلافات الإقليمية.
وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى الجيران الضعفاء كمصدر للتهديد إذ يمكن أن ينتشر الإرهاب والفوضى عبر الحدود المشتركة. والنتيجة النهائية أن الدول القارية (القوية) غالبا ما تغزو جيرانها وتبتلعهم، وتقضي على التهديدات المحتملة عبر مسحها نهائيا من الخريطة.
في سعيها لزيادة حجمها وقوتها، تتبع القوى المهيمنة القارية الناجحة قاعدتين: تجنب خوض الحروب على جبهتين في وقت واحد، وتحييد جيرانها من القوى العظمى. لكن نظرية الأمن القارية لا تقدم أي نصيحة بشأن متى يجب التوقف عن التوسع، ولا تُفضي إلى تحالفات دائمة.
ونتيجة لذلك، غالبًا ما يجد القاريون أنفسهم غارقين في التوسع، ومعزولين وفي النهاية مُعرضين لخطر الانهيار بسبب الاستنزاف المستمر للثروات بفعل الحرب.
على سبيل المثال، كان بإمكان ألمانيا أن تُهيمن اقتصاديًّا على القارة الأوروبية خلال القرن العشرين، بالنظر لمعدل نموها الاقتصادي الأسرع مقارنةً بجيرانها لكنها خاضت حربين عالميتين توسعيتين انتهكت في كلتيهما قواعد نظرية الأمن القارية بالقتال على جبهات متعددة ضد قوى عظمى مختلفة.
هذه الحروب، بدلًا من ترسيخ هيمنة ألمانيا، أخّرت صعودها لأجيال وخلفت تكلفة باهظة في الأرواح والثروات في جميع أنحاء أوروبا.
وكذلك، ازدهرت اليابان في ظل نظام تجاري بحري ولكنها سارعت في ثلاثينيات القرن العشرين إلى تبني نموذج قاري وبناء إمبراطورية واسعة في البر الرئيسي الآسيوي.
وكما حدث لألمانيا، أسفر سعيها في البداية عن امتلاك أراضٍ أوسع، ولكنه أنتج أعداء متعددين وتوسعًا عسكريًّا واقتصاديًّا مفرطًا دمّر اليابان والدول التي غزتها.
وبعد الحرب، عادت اليابان إلى نموذج بحري قائم على العمل من خلال المنظمات الدولية وبموجب القانون الدولي وقد أنتج هذا المعجزة الاقتصادية اليابانية، حيث سرعان ما أصبحت هذه الدولة المُدمّرة إحدى أغنى دول العالم (كما شهدت هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان معجزات اقتصادية خلال الحرب الباردة بفضل النظام البحري).
كان التوسع المفرط عاملًا محوريا أيضا في سقوط الاتحاد السوفياتي . لم تكتفِ الإمبراطورية السوفياتية بابتلاع أوروبا الشرقية في نهاية الحرب العالمية الثانية، بل إنها فرضت نموذجا اقتصاديا يُفضي إلى الحكم الدكتاتوري، دون أدنى مراعاة للنمو الاقتصادي. ثم وسّعت نطاق هذا النموذج ليشمل أكبر قدر ممكن من العالم النامي، لكن الاقتصاد السوفياتي الخامل لم يستطع تحمّل مغامرات موسكو الإمبريالية ومشاريعها غير العملية.
في الحرب العالمية الأولى ، انتهجت كل قوة أوروبية، بما فيها المملكة المتحدة، إستراتيجيات قارية تطلبت استخدام جيوش ضخمة لتأسيس إمبراطوريات متنوعة ذات أراضٍ متداخلة. كان لكل دولة خصوم رئيسيون مختلفون ومسارح رئيسية مختلفة، حتى داخل التحالف الواحد، مما أدى إلى سلسلة من الحروب المتوازية.
لقد عانت القوى الأوروبية، بما فيها المملكة المتحدة، لأنها سمحت لضباط الجيش بالإشراف على المجهود الحربي دون مساهمة كافية من القادة المدنيين الذين كانت لديهم رؤى ثاقبة حول الأسس الاقتصادية للقوة.
يمكن القول إنه لا توجد دولة أوروبية تعافت تماما من خسائرها في الحرب العالمية الأولى. دمرت الحرب الإمبراطوريات القارية التي أصرت على خوضها وهي النمسا والمجر وألمانيا وروسيا.
وعلى الرغم من انتصارهما، كانت فرنسا والمملكة المتحدة أسوأ حالًا بعد الحرب، كما خرجت الولايات المتحدة بنهج انعزالي ممهدة الطريق لأصحاب مبدأ "أميركا أولًا" الأوائل، الذين فرضوا تعريفات جمركية عمّقت الكساد الكبير ومهّدت الطريق لحرب عالمية جديدة.
على النقيض تماما، خلال فترة السلام الطويلة بين الحروب النابليونية والحرب العالمية الأولى، تضاعف رخاء أوروبا. وكذلك، عندما اتبعت الولايات المتحدة النموذج البحري للفوز في الحرب العالمية الثانية، تلا ذلك ازدهار غير مسبوق.
وعلى خلاف ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، لم تتراجع واشنطن إلى الانعزالية بل تولّت زمام القيادة بمساعدة شركائها على إعادة البناء والعمل كضامن لنظام دولي أنشأته بالتعاون مع حلفائها بعد الحرب. حققت هذه المؤسسات نجاحا في أوروبا حتى غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا.
من المهم التأكيد على أن معظم دول العالم قارية بحكم الجغرافيا حيث تفتقر إلى خندق محيطي يعزلها تمامًا عن التهديدات، ويعني ذلك أن النظام البحري القائم على القواعد وحده هو الذي يوفر لهذه الدول الحماية الكاملة.
تدمج المؤسسات وأنظمة التحالف القدرات المتنوعة للدول لاحتواء تهديدات القلة وتعمل كـ"بوليصة تأمين" للنظام القائم على القواعد. وفي حين أن ذلك لا يلغي الأخطار تمامًا، فإنه يقللها إلى أقصى درجة ممكنة.
لكن العالم لا يزال يضم العديد من القاريين التقليديين، ومنهم الرئيس الروسي بوتين الذي أفصح بوضوح عن أنه ينوي توسيع حدود روسيا. وهكذا تعد السيطرة على أوكرانيا مجرد بداية فقط أما القائمة الكاملة فلخصها بوتين بقوله إن هناك قاعدة قديمة مفادها أن "أي مكان تطؤُه قدم جندي روسي، فهو ملكنا".
يشمل ذلك على أقل تقدير أوروبا الوسطى والشرقية، التي احتلتها القوات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية وربما يتوسع إلى باريس التي وصلت إليها القوات الروسية في نهاية الحروب النابليونية.
وتماما كما فعلت خلال الحرب الباردة، تسعى موسكو اليوم إلى تفكيك الغرب من الداخل والخارج. لقد برع الروس في الدعاية منذ زمان الثورة البلشفية، واستخدموها بنجاح لتسويق الشيوعية حول العالم، مما كلف العديد من الدول عقودًا من تراجع النمو. والآن، تستخدم روسيا الدعاية لنشر "وهم" أن الناتو هو الذي يهدد روسيا وليس العكس.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير من قدرة روسيا على بث الدعاية في الخارج، وهو ما تفعله من خلال تأجيج التوترات على جانبي العديد من القضايا الخلافية.
على سبيل المثال، سعت موسكو إلى تحويل الحرب في أوكرانيا إلى قضية خلافية تفصل الولايات المتحدة عن أوروبا، وتفرق الدول الأوروبية المختلفة، مما يُضعف كلًّا من الناتو والاتحاد الأوروبي .
كما ساهمت في الترويج لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أدى إلى تآكل علاقات المملكة المتحدة مع جيرانها في القارة العجوز.
وعملت روسيا كذلك على خلق تدفقات هائلة من المهاجرين بدعمها للديكتاتور بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية (الثورة السورية*)، والآن بزعزعة استقرار أفريقيا، مما أدى إلى تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وقد أدت هذه التدفقات إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير، مما سهل صعود اليمين الانعزالي في القارة.
بالتزامن تسعى قوى قارية أخرى إلى قلب النظام العالمي الحالي. مثلا، تهدف كوريا الشمالية إلى السيطرة على شبه الجزيرة الكورية بأكملها، والقضاء على كوريا الجنوبية. أما مسرح إيران الرئيسي فهو الشرق الأوسط، حيث تسعى طهران إلى بسط نفوذها في العراق ولبنان وسوريا.
ثم هناك الصين التي ربما يوحي قرارها بالاندماج في النظام العالمي الحالي سعيا وراء الثروة بأنها تتبنى منظورًا بحريا حتى إنها بنت أسطولًا بحريًّا ضخمًا.
لكن بكين لا تستطيع نشر سفنها بفعالية في زمن الحرب بسبب البحار الضيقة والضحلة والمزدحمة بالجزر التي تحيط بسواحلها. هذا يجعلها أشبه بألمانيا، التي بنت أساطيل بحرية ضخمة لم تستطع استخدامها بشكل موثوق به في أي من الحربين العالميتين.
وقتها، حاصرت المملكة المتحدة بحر الشمال وبحر البلطيق الضيقين، مما أدى إلى القضاء على حركة الملاحة الألمانية وقصرها على الغواصات حتى إن برلين كانت بحاجة إلى السواحل الفرنسية والنرويجية الطويلة لتوفير مخارج أكثر موثوقية لغواصاتها، لكن ذلك لم يكن كافيًا لبحريتها، فضلًا عن أسطولها التجاري.
واليوم تعتمد الصين الآن على التجارة والواردات أكثر من ألمانيا آنذاك، وخاصة في مجالي الطاقة والغذاء، ومن المرجح أن تؤدي الاختناقات الاقتصادية الناجمة عن توقف تجارتها المحيطية إلى إضعاف اقتصادها.
وكما أثبتت أوكرانيا التي نجحت في إغراق سفن روسية، يمكن حتى للطائرات المسيرة (الرخيصة) إغلاق البحار الضيقة. لدى الصين 13 جارا بريا و7 جيران بحريين، ولا يخلو الأمر من خلافات معهم. ويمكن لهؤلاء الجيران -باستخدام الغواصات والمدفعية الساحلية والطائرات المسيرة والطائرات المقاتلة- إغلاق حركة المرور التجارية للصين وجعل الحركة البحرية في محيطها محفوفة بالأخطار.
على النقيض لا يحتاج العديد من جيرانها الساحليين القريبين إلى عبور بحر الصين الجنوبي للوصول إلى المحيط المفتوح، فإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وتايوان، جميعها لديها سواحل بديلة على البحار المفتوحة، مما يجعل حصارها أمرًا صعبًا.
نتيجة لذلك، فإن الصين شأنها شأن روسيا لا تزال تمتلك منظورا قاريا، فبالإضافة إلى المطالبات الإقليمية بجزر تابعة لليابان والفلبين، وتهديدها باستخدام القوة للاستيلاء على تايوان، تسعى بكين إلى الحصول على أراضٍ من بوتان والهند ونيبال.
وعندما يعرف المواطنون الصينيون أراضيهم التاريخية، فإنهم يذهبون إما إلى أراضي سلالة يوان المغولية، التي امتدت حتى المجر، أو إمبراطورية مانشو تشينغ، التي شملت الأراضي التي تنتزعها مبادرة الحزام والطريق الآن من دائرة النفوذ الروسي.
ولا يزال الصينيون يحملون اسمين لأنفسهم، إما "المملكة المركزية" أو الاسم الأكثر بريقا "تيان خا" الذي يعني "كل ما تحت السماء" ويشير إلى نظام عالمي متكامل يشمل أراضي الصين وجميع الأراضي التي تغزوها.
ولكن على عكس موسكو، لم تشنّ بكين بعد حروبا عدوانية صريحة لكنها تدير حربًا مالية بقروضها "الجشعة" تحت إطار مبادرة الحزام والطريق، التي تُغرق المستفيدين منها في ديون هائلة. كما تشنّ حروبا إلكترونية، وتخترق البنية التحتية الحيوية للدول الأخرى وتسرق أسرارها.
وتُشارك في حرب الموارد من خلال الحد من صادرات المعادن النادرة، كما تخوض حرب مخدرات من خلال إغراق الولايات المتحدة بالفنتانيل. حتى إنها انخرطت في حروب غير نظامية، بغارات على الأراضي الهندية أسفرت عن مقتل جنود هنود، وتعد هذه وصفة "قارية" للتوسع المفرط.
لمواجهة القاريين، لا تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إعادة اختراع العجلة، فالإستراتيجية التي انتصرت بها خلال الحرب الباردة لا تزال صالحة اليوم. تبدأ هذه الإستراتيجية بإدراك أن هذا الصراع -كسابقه- سيطول أمده.
وبدلًا من محاولة إيجاد حل سريع، كان من الممكن أن يُشعل حربًا نووية، أدار المنتصرون الحرب الباردة الأولى لأجيال عديدة، وتنطبق النصيحة نفسها اليوم: يجب على القوى البحرية التحلي بالصبر والحفاظ على هدوء الصراع الحالي.
وينبغي لها تجنب "الحروب الساخنة" في المناطق التي تفتقر إلى منافذ بحرية كافية، وفي الدول المحاطة بخصوم معادين يُحتمل تدخلهم، وتنطبق هذه الخصائص على أفغانستان والعراق، وتساعد في تفسير تدخلات واشنطن الفاشلة هناك.
وبدلا من خوض حروب "ساخنة" فاشلة، يجب على الولايات المتحدة وشركائها الاستفادة من قوة العالم البحري الهائلة في مواجهة نقطة الضعف الكبرى للقاريين وهي قدراتهم المتفاوتة على خلق الثروات.
ينبغي عليهم استبعاد القاريين من فوائد النظام البحري بفرض عقوبات عليهم حتى يكفوا عن انتهاك القانون الدولي، ويضعوا الحرب جانبا، ويتبنوا الدبلوماسية. وعلى خلاف التعريفات الجمركية المصممة أساسا لحماية المنتجين المحليين تهدف العقوبات إلى تجريم معاملات بعينها ومعاقبة "الجهات الخبيثة".
وحتى العقوبات البسيطة التي تُقلّص معدلات النمو بنقطة مئوية أو نقطتين، يُمكن أن تُؤدي إلى آثار مُركّبة مُدمّرة على المدى الطويل كما تُوضّح مُقارنة كوريا الشمالية الخاضعة للعقوبات وكوريا الجنوبية غير الخاضعة لها. تُعدّ العقوبات شكلًا من أشكال "العلاج الكيميائي الاقتصادي"، وقد لا تُزيل الورم، لكنها ستُبطئ نموه، كما أنها فعّالة بشكل خاص في إعاقة التطور التكنولوجي، كما حدث مع السوفيات.
في الوقت ذاته، ينبغي لواشنطن وشركائها استيعاب الدول غير المُعادية. لقد أدرك المنتصرون في الحرب الباردة أن التحالفات تراكمية بطبعها، فالشركاء يُضيفون قدرات جديدة بعضهم لبعض. لذا، ينبغي للولايات المتحدة تعزيز شبكتها من التحالفات وتوسيعها، وينبغي أن تُركز على الحفاظ ليس فقط على ازدهارها، بل أيضًا على ازدهار شركائها.
كما يتعين عليها أن تُساعد الدول الحليفة المُحاصرة بالقاريين، غير القادرة على المقاومة بمفردها. وكما سلّح الغرب أعداء موسكو حتى انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان ثم انهياره، يجب على الغرب الآن مساعدة أوكرانيا مهما طال الزمن. فكلما طال أمد الصراع في أوكرانيا، ضعفت موسكو، مما يُعرّضها لاحتمال "الافتراس" الصيني.
وفي حال سقط النظام الحالي في روسيا فإن صراع الخلافة الناتج عن ذلك سيُجبرها على تقليص التزاماتها الخارجية كما حدث مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الكورية ، عندما أدى موت جوزيف ستالين إلى انتهاء الصراع بسرعة.
وإذا كفّ أيّ من القاريين عن طمعه في أراضي الدول الأخرى، وساهم بدلًا من ذلك في تحسين القوانين والمؤسسات الدولية، فعلى الولايات المتحدة وشركائها الترحيب به في النظام القائم على القواعد، ولكن إذا لم تتغير هذه الدول، فالاحتواء هو الحل.
لقد تفوقت واشنطن في مواجهتها السابقة مع موسكو ليس بنصر عسكري كبير، بل بالازدهار الاقتصادي بينما عانى الاتحاد السوفياتي من تدهور اقتصادي من صنع أيديه. وفي ثمانينيات القرن الماضي، بينما كان السوفيات ينتظرون في طوابير للحصول على السلع الأساسية، كان الأميركيون يقضون إجازات عائلية باهظة.
وينبغي أن يكون هدف أميركا الحالي هو الحفاظ على ازدهار الديمقراطيات الأخرى وشركائها مع إضعاف القاريين. صحيح أن هذه القوى الأخيرة لن تختفي في أي وقت قريب، ولكن إذا لم تتمكن من مواكبة معدلات النمو الاقتصادي لأولئك الذين يدعمون النظام البحري، فإن التهديد النسبي الذي تشكله سوف يتقلص مع الوقت.
لم تكن أخطار الصدام بين النظام القاري والنظام البحري القائم على القواعد بهذا القدر من الارتفاع من قبل. ففي عالم اليوم هناك العديد من القوى النووية المتحفزة، والولايات المتحدة تتراجع بشكل متزايد عن دور الضامن النهائي للنظام العالمي من خلال دعم حلفائها وتوسيع مظلتها النووية.
وإذا اتسعت الصراعات في أوكرانيا، وفي أنحاء أفريقيا، وبين إسرائيل وإيران، واندمجت، فلربما تندلع حرب عالمية ثالثة كارثية. وعلى عكس الحروب السابقة، سيكون الجميع عرضة للضربات النووية وتداعياتها السامة.
لقد اتخذت الولايات المتحدة بالفعل خطوات كبيرة لهزيمة خصومها القاريين، ففرضت عقوبات صارمة وضوابط على الصادرات، وموّلت وسلحت الدول التي تواجه خصومًا مشتركين.
لكن منتقدي النظام القائم على القواعد يكتسبون قوة، وحتى كبار المسؤولين الأميركيين أصبحوا ينتقدون النظام الحالي. وخلال العام الماضي، بدا أن الولايات المتحدة انتهجت نهجا قاريا رغم أنها ستظل دائما تمتلك خنادقها المائية الطبيعية -المحيطين الأطلسي والهادي- لحماية برها الرئيسي. لكنها تشترك أيضًا في حدود طويلة مع كندا والمكسيك، وواشنطن تخوض صراعات مع كليهما.
انتقدت الولايات المتحدة بشدة العديد من الديمقراطيات الصديقة، وفرضت رسومًا جمركية على شركائها التجاريين، وشلت المؤسسات الدولية التي تُسهّل النمو الاقتصادي العالمي كما لوحت برغبتها في ضم كندا، والاستيلاء على غرينلاند من الدنمارك، واستعادة قناة بنما، وهي تصرفات من شأنها أن تُمزق التحالفات الغربية على المدى الطويل، وربما تحول الولايات المتحدة من قوة محورية إلى قوة هامشية، حيث يُشكّل شركاؤها السابقون تحالفات جديدة بدونها.
سيستغرق هذا التحول وقتًا، لكن إن حدث، فستكون التغييرات دائمة. سيزداد الأوروبيون قوةً معًا، تاركين الولايات المتحدة أضعف وأكثر عزلة. وفي أسوأ السيناريوهات، قد تصبح واشنطن خصمًا رئيسيًّا مشتركًا للصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، دون أن يبقى لها حلفاء لمساعدتها.
ولكن حتى لو لم يحدث ذلك، فقد تضطر إلى منافسة بكين بمفردها وساعتها لن تكون قادرة على تحقيق النصر. يبلغ عدد سكان الصين ثلاثة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة تقريبًا، ولديها قاعدة تصنيع أكبر بكثير كما أنها تمتلك أسلحة نووية يمكنها الوصول إلى الأراضي الأميركية، وقد لا يكون لديها أي تحفظات أخلاقية بشأن استخدامها. وساعتها ربما تصبح الولايات المتحدة أيضا أقل قلقًا بشأن نشر ترسانتها، مما يهدد بنشوب كارثة عالمية.
بالنسبة لواشنطن، فإن انتهاءها إلى مصير مشؤوم من الهزيمة والعزلة سيكون خاتمة مأساوية للعقود الثمانية الماضية. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كسبت الولايات المتحدة أصدقاءَ حول العالم، لكن هذا الرأسمال الأخلاقي، المُكتسب بتكلفة باهظة، يتبدد الآن.
وكما هو الحال مع فرنسا نابليون، فإن العودة الأخيرة إلى مبدأ "أميركا أولًا" تُثير حفيظة الحلفاء في كل مكان في وقت يتلذذ فيه أعداء واشنطن برؤيتها تتدهور.
لقد استخفّ الكثير من الأميركيين بمزايا النظام البحري، وركزوا على عيوبه، مُبددين بذلك مزاياهم الجغرافية والتاريخية العديدة، لكنهم لن يدركوا ما فقدوه إلا إذا تلاشى هذا النظام. وساعتها ستنطبق عليهم مرثية الزعيم الأثيني بريكليس عشية سلسلة من الأخطاء الأثينية التي أنهت تفوق المدينة إلى الأبد: "أخشى أخطاءنا أكثر من خشيتي لدسائس أعدائنا".
———————-
* إضافة المترجم
هذا المقال مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري