تتصاعد نذر المواجهة بين إيران وإسرائيل على نحوٍ يشي بأن المنطقة تقترب من مرحلة جديدة من الصراع، تتداخل فيها الحسابات النووية بالردع العسكري، وتتقاطع عندها خطوط النار بين البحر والجو والسياسة.
فبينما تكثف تل أبيب تهديداتها وتُسرّب معلومات عن استعداداتٍ لحرب “قد تكون وشيكة”، تردّ طهران بإشارات هادئة ظاهرياً، لكنها مشبعة بمعاني التحفّز والجهوزية، كان أبرزها الكشف عن " أسطول الشبح" من الطائرات الإيرانية المسيّرة، والحديث عن مدن صواريخ تحت الأرض، إلى جانب استعراض متدرّج لقدراتها الدفاعية.
في هذا السياق، جاءت تصريحات الدبلوماسي الإيراني السابق محمد مهدي شريعتمدار في التاسعة لتُضيء جانباً من الرؤية الإيرانية الرسمية حيال التوتر المتصاعد، وتكشف كيف تُعيد طهران تعريف معادلة الردع، بعيداً عن العنتريات العسكرية، ولكن أيضاً دون تراجع عن سياسة “الصبر الحذر”.
قلق متبادل.. وتبدّل في قواعد اللعبة
منذ شهور، تدور في الكواليس العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية تقديرات متزايدة عن "تآكل عنصر المفاجأة". تصريحات متتالية من قادة المؤسسة الأمنية، بينهم وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان، تعكس خشية من ضربة استباقية إيرانية محتملة، في ظلّ تحركاتٍ عسكرية غير مسبوقة في المنطقة.
وكشفت مجلة نيوزويك عن نشر دفعة كبيرة من طائرات التزود بالوقود الأميركية من طراز KC-135 في قاعدة العديد بقطر، وهو ما قرأه المراقبون كإشارة إلى استعداد واشنطن لاحتمال انزلاق الأمور نحو مواجهة واسعة.
في المقابل، خرجت إيران لتُعلن انتهاء صلاحية اتفاقها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتُحذّر عبر وزير خارجيتها عباس عراقجي من أن التهديدات العسكرية “لن تنتج حلا”.
لكن خلف هذه التحركات التقنية والديبلوماسية، كانت هناك حرب أخرى تُخاض في الظل: حرب الطائرات المسيرة، أو ما يُعرف اليوم بـ"أسطول الشبح" الإيراني.
أسطول الشبح.. الهندسة المقلوبة للردع
صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية كشفت في تقريرٍ لافت أن إيران طوّرت طائرات مسيّرة “تحاكي” القاذفة الأميركية الشهيرة B-2، ولكن بنسخةٍ مصغّرة، بعد أن استولت عام 2011 على طائرة تجسس أميركية من طراز RQ-170 كانت في مهمة فوق أفغانستان وانحرفت إلى الأجواء الإيرانية.
ذلك الحادث، كما يصفه محللون غربيون، كان نقطة التحول في مسار تطوير الصناعات الجوية الإيرانية. فمن طائرة ساقطة في صحراء كاشمر، ولِد برنامج كامل لبناء منظومة "طائرات مسيرة شبحية" هجومية وتجسسية وانتحارية.
وتشير تقارير غربية إلى أن هذه الطائرات جُرّبت في "قتالٍ حقيقي" عبر جبهاتٍ إقليمية متعددة، إلا أنها غابت بشكلٍ ملحوظ عن آخر المواجهات مع إسرائيل.
الغياب في حدّ ذاته أثار تساؤلاتٍ في تل أبيب. بعض الخبراء حذّروا من أن "إطلاقها بشكلٍ جماعي سيُربك منظومات الدفاع الإسرائيلية ويُشتّت قدراتها عبر جبهاتٍ متزامنة"، خصوصاً إذا ترافق مع هجماتٍ صاروخية من ميليشيات حليفة لإيران في المنطقة.
إيران لا تريد الحرب.. لكنها لن تتراجع
بدا حديث الدبلوماسي الإيراني السابق محمد مهدي شريعتمدار أقرب إلى عرضٍ هادئ لاستراتيجية "الردع الصبور" التي تتبناها طهران.
قال شريعتمدار بوضوح: " إيران لا تريد الحرب، لكنها في الوقت نفسه لا يمكن أن تتجاهل وجوب الجهوزية الكاملة للرد على أي حملة محتملة أو مرتقبة من العدو الإسرائيلي أو أي جهة أخرى".
هذه العبارة، وإن بدت دبلوماسية في ظاهرها، تعكس فلسفة أعمق تقوم على مبدأ "الدفاع الوقائي" لا "الهجوم الوقائي". إيران، وفق شريعتمدار، لا تُبادر بالحرب، لكنها تُحضّر لليوم الذي تُجبر فيه على الرد.
وخلال العامين الماضيين، كما أضاف، "كانت إسرائيل تسعى إلى فتح حرب مفتوحة بتدخل أميركي مباشر، لكن إيران ومحور المقاومة لم يسمحا بذلك".
ذلك يعني أن طهران ترى في كل تصعيدٍ محدود فرصة لإعادة تثبيت معادلات الردع دون أن تنزلق إلى مواجهة شاملة. وهي سياسة براغماتية قائمة على "ضبط الإيقاع العسكري"، لكنها تُبقي المنطقة على حافة الانفجار.
صمت استراتيجي.. وإعادة ترتيب الأولويات
من بين أكثر النقاط اللافتة في حديث شريعتمدار قوله إنّ "الكثير من المعلومات عن القدرات الدفاعية والصاروخية الإيرانية لم يُعلن عنها كما في السابق".
يصف ذلك بـ"الصمت الاستراتيجي"، في إشارة إلى أن طهران قررت تقليل الضجيج الإعلامي حول برامجها العسكرية، لتجعل خصومها في حالة شكّ دائم.
هذا التكتيك يخدم، بحسب محللين، غرضين متوازيين: الردع النفسي عبر الغموض، وتخفيف الضغوط الدولية التي ترافق عادةً أي استعراضٍ عسكري إيراني.
كما أشار شريعتمدار إلى أن "إيران تعرف تماماً أن إسرائيل والولايات المتحدة تُدركان قدراتها"، مضيفاً أن أي مواجهة جديدة "ستكون ضربة إيران فيها أقوى من السابق، ولن تقبل بوقف إطلاق النار".
هذا التلميح لا يحمل فقط تحذيراً عسكرياً، بل يكشف عن تحوّل في العقل الأمني الإيراني من سياسة "الرد المتدرّج" إلى ما يمكن وصفه بـ"الردّ المكثّف".
اتفاقيات معلقة.. وثقة مفقودة
الملف النووي لم يغب عن حديث شريعتمدار، الذي استعاد تفاصيل انهيار الاتفاق النووي بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب منه عام 2018. أوضح أن "الاتفاق لم تنتهِ صلاحيته أبداً، وأن انسحاب واشنطن كان خرقاً لا يُبرّر في القانون الدولي"، معتبراً أن إيران "بقيت ملتزمة بالاتفاق ومنحت الأوروبيين الفرصة للتعويض، لكنهم فشلوا".
وفي استعراضٍ لتجارب المفاوضات السابقة، قال: "إيران تفاوضت مع الأمريكيين، مع الأوروبيين، ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكنها في كل مرة كانت تواجه بالرفض أو بالهجوم".
وأضاف أن المعلومات حول المنشآت النووية الإيرانية "سُربت عبر الوكالة إلى إسرائيل واستخدمت لاحقاً في الهجمات".
من وجهة نظر طهران، كما عكسها شريعتمدار، فإن المشكلة ليست في نوايا إيران، بل في "سوء تقدير" الطرف الآخر لمدى قدراتها واستعداده لتحمّل التبعات. فإيران، كما يقول، "أثبتت حسن نواياها وقدّمت مقترحات بنّاءة، لكنها لن تتنازل عن مصالحها الوطنية".
من الاتفاق إلى التحشيد.. واشنطن شريك في التصعيد
الخطاب الإيراني الرسمي يحمل الولايات المتحدة مسؤولية "الخطأ الأول"، المتمثل في الانسحاب من الاتفاق النووي، وما تبعه من عودة العقوبات وتشديد الحصار المالي والاقتصادي.
وفي نظر شريعتمدار، كان ذلك الشرارة التي أشعلت دوامة التصعيد الراهنة، إذ دفعت إيران إلى تسريع تطوير قدراتها الذاتية في مجالات الدفاع والطاقة والردع الإقليمي.
اليوم، بينما تُعيد واشنطن نشر قواتها في المنطقة، ترى طهران أن "التحشيد العسكري" لا يهدف فقط لردعها، بل لترميم صورة الردع الأميركي المتآكلة بعد حروبٍ فاشلة في المنطقة.
ومع ذلك، تقول طهران إنّ الردّ الأميركي المحتمل "سيكلّف إسرائيل والولايات المتحدة أثماناً باهظة"، لأن أي اشتباك جديد لن يكون محدوداً كما في السابق.
بين النفوذ والمصالح الوطنية
في ختام حديثه، ذهب شريعتمدار إلى نقطةٍ لافتة حين قال إنّ "حتى لو تقلّص نفوذ إيران في المنطقة، فذلك لا يعني تراجع قوتها، بل قد يشكّل فرصةً لتركيزها على مصالحها الوطنية".
بهذا الطرح، يلمّح إلى أن طهران قد تُعيد رسم سياستها الخارجية لتوازن بين الانخراط الإقليمي والحفاظ على استقرارها الداخلي، بعد عقدٍ من الانهاك الاقتصادي والسياسي.
لكن هذه "الراحة" من أعباء النفوذ لا تعني الانكفاء، بل إعادة التموضع. فإيران التي راكمت خبرةً قتالية وتكنولوجية عبر حلفائها، باتت تمتلك اليوم أوراقاً تجعلها شريكاً صعب التهميش في أي معادلة أمنية تخصّ المنطقة.
الردع عبر الغموض.. ورسائل تحت الأرض
الرسالة الأوضح من كل هذه التصريحات والمواقف، هي أن طهران لا تسعى للمواجهة لكنها تُحضر لها.
نشر "القوة الجوفضائية" التابعة للحرس الثوري مشاهد نادرة من " مدن الصواريخ" تحت الأرض، لم يكن استعراضاً دعائياً بقدر ما هو تذكير بأن الردع الإيراني لا يُقاس بالبيانات السياسية، بل بالقدرة على البقاء والردّ.
هذه اللقطات، التي عُرضت تزامناً مع التصعيد الإسرائيلي، مثّلت جزءاً من "الحرب النفسية" المتبادلة. لكنها أيضاً أكدت أن إيران تريد أن تبقى في موضع الغموض المحسوب: تُظهر ما يكفي لتردع، وتُخفي ما يكفي لتربك.
التحليل الأوسع يُظهر أن المنطقة تعيش مرحلة انتقالية في ميزان القوى. فبينما تُراهن إسرائيل على التحالف مع واشنطن وتكثيف التطبيع العربي لتطويق طهران، تراهن إيران على "زمن الردع الذكي" القائم على التكنولوجيا المحلية، وشبكات النفوذ غير المباشرة.