في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في مشهد غير مسبوق يعيد خلط أوراق الحرب الأوكرانية الروسية، نفذت كييف هجوما نوعيا استهدف الثالوث النووي الروسي في عمق سيبيريا، محققة ضربة توصف بأنها "الأبعد جغرافيا" منذ اندلاع الصراع.
العملية، التي تقدر خسائرها بمليارات الدولارات، لم تكن مجرد نجاح عسكري تكتيكي، بل رسالة استراتيجية وضعت الكرملين أمام تحد مباشر لمعادلات الردع التقليدية.
وبينما تتجه الأنظار إلى مفاوضات إسطنبول، بات السؤال الأكثر إلحاحا: كيف سيرد بوتين؟
أوكرانيا تقصف في العمق
نفذت أوكرانيا هجوما "مبتكرا" باستخدام طائرات مسيرة، اخترقت المجال الروسي انطلاقا من داخل الأراضي الروسية نفسها، في محاولة لتجنب الدفاعات الجوية الروسية المحيطة بالحدود.
الضربات استهدفت مطارات عسكرية ومنشآت يعتقد أنها على صلة بالثالوث النووي الروسي، فيما وصفت مصادر أوكرانية العملية بأنها "واسعة النطاق"، طالت أكثر من 40 طائرة عسكرية وامتدت على مسافة تفوق 4 آلاف كيلومتر في عمق سيبيريا.
وبينما قدرت كييف الخسائر بما يتجاوز 7 مليارات دولار، فإن موسكو التزمت الصمت الميداني، مكتفية بالإقرار بوقوع الهجمات وتأكيدها اعتقال عدد من المشتبه بهم.
غير أن التحرك الأوكراني لم يتوقف عند المسيرات، إذ تزامن مع تفجيرات استهدفت جسورا وسككا حديدية في منطقتي بريانسك و كورسك، خلفت 7 قتلى وعشرات الجرحى، ما أثار تساؤلات حول طبيعة الهجوم، وأي "أجهزة غربية" ساهمت في التخطيط له.
الرد قاس.. لكن النووي غير مطروح الآن
اعتبر الكاتب والباحث السياسي بسام البني خلال حديثه إلى برنامج التاسعة على سكاي نيوز عربية أن "الرئيس الروسي عودنا على هدوئه المنظم جدا"، لكنه شدد في الوقت ذاته على أن الرد سيأتي لا محالة.
وقال: "لا أعتقد أن الرد سيكون نوويا.. لأن مستوى التصعيد لا يرقى بعد إلى تفعيل العقيدة النووية الروسية".
وبحسب البني، فإن ما حدث في كورسك و بريانسك "يعد جريمة دنيئة"، مستنكرا استهداف المدنيين، في مقابل تفهمه للهجمات التي استهدفت مواقع عسكرية، كونها تقع "ضمن قواعد الاشتباك في حرب مفتوحة بين دولتين".
ويشير البني هنا إلى التضارب في المعلومات حول ما إذا كانت أوكرانيا قد أبلغت واشنطن مسبقا بنية تنفيذ الهجوم، مستشهدا بما نشره موقع "أكسيوس"، قبل أن يسحب لاحقا تلك المعلومات. الأمر الذي اعتبره البني دليلا على وجود قناة خلفية للمشاورات بين موسكو و واشنطن، والتي قد تؤثر في توقيت وشكل الرد الروسي.
الغرب في مرمى التحليل.. وأزمة الصبر الاستراتيجي
لا يخفي البني شكوكه حول دور الغرب في هذا التصعيد، قائلا بصراحة لافتة: "لو كنت مكان بوتين، لأصدرت أوامري منذ اليوم الأول بقصف أي دولة تزود أوكرانيا بالسلاح، فور سقوط أي قذيفة على الأرض الروسية الأصلية".
ويذهب أبعد من ذلك بالقول إن "بوتين لا يفعل ذلك، ربما لصبره الاستراتيجي، لكن الشارع الروسي يريد ردا مباشرا". وهنا يحذر من أن استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا يضع موسكو أمام اختبار الإرادة، في ظل اعترافات أميركية بأن "ما يحدث هو حرب بالوكالة".
وأضاف البني: "بدون الدعم الغربي، لم تكن أوكرانيا لتصمد حتى اليوم. هذا دعم غير مسبوق بالسلاح والخرائط والصور والأقمار الصناعية.. إذن نحن أمام مواجهة عالمية، ولكن بأدوات غير تقليدية".
الطائرات المسيرة تربك الميدان الروسي
يسلط بسام البني الضوء على أهمية الطائرات المسيرة في تغيير معادلات الحرب، قائلا إن "دور الدرونات فاجأ العالم بأسره". ورغم تأكيده على أن معظمها يسقط قبل أن يصل أهدافه، فإن المفاجأة – بحسب تعبيره – "تكمن حين تأتيك الضربة من مكان لا تتوقعه، كما حدث في سيبيريا".
ويتابع: "عندما يضربون من عمق 4000 كلم، فهذه عملية إرهابية منظمة، تحتاج لتخطيط غربي وأدوات متطورة، مثل صور أقمار صناعية لا يمكن أن تكون من مصادر أوكرانية خالصة".
كما يلفت إلى أن الدفاعات الجوية الروسية متمركزة حول موسكو والمدن الحدودية، ما جعل سيبيريا هدفا مثاليا لاختبار هذا الاختراق الكبير، قائلا: "روسيا لم تكن تتوقع ضربات من الداخل بهذا العمق، وهذا ما فجر عنصر المفاجأة".
ورغم شدة الضربات، لم تتوقف المساعي الدبلوماسية، إذ أعلنت كييف عن وفد بقيادة وزير الدفاع للتوجه إلى إسطنبول، للمشاركة في جولة مفاوضات جديدة مع موسكو، مطالبة بوقف كامل وغير مشروط لإطلاق النار، وإعادة الأسرى.
غير أن بسام البني بدا متشائما بشأن فرص هذه المفاوضات، مشيرا إلى أن موسكو لن تتنازل عن أي من مطالبها، لا بل إنها ستتشبث أكثر بمواقفها، خاصة فيما يتعلق بإقامة منطقة عازلة من خاركيف إلى أوديسا.
وقال: "بعد هذا الهجوم، لن تتراجع روسيا قيد أنملة.. بل ربما تصعد أكثر لتأمين عمقها الجغرافي".
وفي قراءة لمواقف موسكو ما قبل المفاوضات، أعاد التذكير بأن روسيا طالبت منذ البداية بضمانات مكتوبة بعدم توسيع الناتو شرقا وعدم ضم أي من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، معتبرا أن التصعيد الأخير سيجعل موسكو أكثر تصلبا في هذا المطلب.
الغرب يصعد.. وبريطانيا ترسل رسالة نارية
لم يقتصر التصعيد على الميدان، بل وصل إلى التصريحات، إذ أعلن وزير الدفاع البريطاني "جون هيلي" استعداد بلاده لخوض مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا إذا تطلب الأمر، في خطوة اعتبرها مراقبون تحولا جذريا في عقيدة الردع الغربية.
وفي هذا الإطار، يرى البني أن مثل هذه التصريحات "تشير إلى تحول تدريجي نحو المواجهة المفتوحة"، محذرا من أن الرد الروسي لن يكون دبلوماسيا بعد الآن إذا ما استمرت هذه النبرة التصعيدية، خصوصا إذا تم استهداف الأراضي الروسية مرة أخرى.
بوتين على مفترق الرد.. بين القسوة والحكمة
بينما ينتظر العالم ما ستسفر عنه مفاوضات إسطنبول، تظل الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل سيختار بوتين لغة الانتقام أم يبقي على استراتيجيته الهادئة؟ هل كان الهجوم الأوكراني اختبارا لقدرة موسكو على امتصاص الصدمة، أم دفعا نحو تغيير قواعد الاشتباك؟.
يرى بسام البني أن الرد قادم لا محالة، لكن توقيته سيعتمد على نتائج التفاوض، والمشاورات غير المعلنة مع واشنطن.
يقول بحسم: "لن تنعم أوكرانيا بيوم هانئ بعد الآن". لكن، إلى أن تكتب فصول الرد الروسي، يبقى العالم على حافة الترقب، في مشهد تتداخل فيه نيران الدرونات مع شعارات الدبلوماسية، والعقائد النووية مع حسابات الأرض... والميدان لا يعرف الصمت طويلا.