حاول الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، كثيرا أن يتجنب الوصول إلى مرحلة النطق بالحكم عليه في القضية التي أدين فيها في نيويورك قبل سبعة أشهر، في الحادي والثلاثين من شهر أيار مايو عام 2024، لكن تلك المحاولات فشلت. ومع ذلك لم يتلق ترامب سوى حكم خفيف، أو لا حكم في الواقع إذ قرر القاضي المسؤول عن القضية (وان ميرشان) أن تتمثل العقوبة بحكم (بالإفراج غير المشروط). ينهي هذا الحكم هذه القضية لكنه يثبتها كسابقة في سجل ترامب الذي أصبح أول رئيس أمريكي يدان في قضية جنائية. ينفي ترامب طبعا القضية من أساسها ولكنه يتطلع الآن إلى العودة إلى البيت الأبيض.
واجه ترامب أربع قضايا كبرى كانت هذه القضية الأولى من ناحية بدء المحاكمة وانتهائها. تمثلت القضية باتهام ترامب بأنه تلاعب بسجلات ووثائق عمله ووضع بنود اتفاق غير صحيحة لتغطية دفع محاميه أموالا إلى ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز لقاء صمتها.
ولطالما ادعت دانيالز أنها ارتبطت بعلاقة قصيرة مع ترامب قبل سنوات طويلة. أما ترامب فكان ينفي دائما وجود أي علاقة مع ستورمي دانيالز وكان يقول إن القضية برمتها كانت استهدافا سياسيا. وفي النهاية خلصت هيئة المحلفين إلى إدانة ترامب في أربع وثلاثين تهمة تلاعب في السجلات إذ احتسب كل فقرة في تلك السجلات كتهمة مستقلة.
في جلسة النطق بالحكم تحدث ترامب مهاجما المدعي العام الذي بنى القضية من الأساس وهو ألفن براغ الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، أحد الحزبين الكبيرين في أمريكا بينما ينتمي ترامب كما هو معروف إلى الحزب الجمهوري.
التزم ترامب الصمت في كل جلسات المحكمة وكان يلقي التصريحات بعد الجلسات خارج قاعة المحكمة في نيويورك. لكنه اختار الحديث في جلسة النطق بالحكم مهاجما براغ والديمقراطيين، قائلا إن مجرد إصدار حكم لا يتضمن عقوبة حقيقية يثبت ما قاله هو دوما بأن القضية لامعنى ولا أساس لها سوى الاستهداف السياسي ومحاولة إسقاطه وإعاقة حملته الانتخابية ومحاولته للعودة إلى البيت الأبيض وهي الحملة التي نجحت بعد الإدانة بأشهر حينما انتخب ترامب رئيسا للولايات المتحدة في الخامس من تشرين الثاني نوفمبر 2024.
لكن ممثل الادعاء العام تحدث أيضا في جلسة النطق بالحكم واتهم ترامب بشن حملة تهدف إلى الحط من قيمة المحكمة والقضاء. أما القاضي نفسه فقد شرح أن سبب وصوله إلى هذا الحكم المخفف هو أن ذلك كان الخيار الوحيد لإنفاذ العدالة في قضية أدين بها ترامب مع مراعاة عدم التأثير على المنصب الأعلى والأرفع في الولايات المتحدة، وهو منصب الرئاسة الذي انتخب الشعب الأمريكي ترامب وأعاده إليه.
وأشار القاضي إلى أن حكم الإفراج غير المشروط يعتبر حكما من أحكام العقوبات المعترف بها من قبل السلطة التشريعية في ولاية نيويورك حيث جرت القضية والمحكمة وفقا لقوانينها.
كان الحكم المخفف متوقعا منذ أن حدد القاضي موعد النطق به قبل أيام. فقد سمح لترامب بأن يحضر الجلسة عن بعد ما يعني أنه لن يكون هناك حكم بالسجن، لأنه في حالات الحكم بالسجن يذهب المحكوم عليه مباشرة من قاعة المحكمة إلى السجن. لكن استراتيجية ترامب قامت على أساس حكم أعلى بكثير من مستوى محكمة نيويورك، وهو الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا الأمريكية، وهي السلطة القضائية الأكبر في أمريكا، والتي قضت الصيف الماضي بعد إدانة ترامب بأن الرئيس الأمريكي يتمتع بالحصانة في كل الأفعال والإجراءات التي يقدم عليها في منصب الرئيس. استند ذلك الحكم إلى مبدأ أهمية منصب الرئيس كونه رأسا للسلطة التنفيذية المنتخبة مباشرة من الشعب والمفوضة من قبله لإدارة الحكم وقراراته وفقا لمصلحة الأمة الأمريكية. سعى ترامب ومحاموه إلى توسيع ذلك الحكم والمبدأ ليلغي قضية نيويورك برمتها لكن القاضي ميرشان رفض ذلك المبدأ. بعد ذلك سعى ترامب لإيقاف النطق بالحكم لكن المحكمة العليا لم تستجب له هذه المرة وقررت إبقاء القضية والسماح بإصدار الحكم فيها مراعاة لمبدأ استقلالية النظام القضائي في الولايات.
لن يوقف الحكم ترامب إذن من دخول البيت الأبيض، وما كان حكم السجن أيضا ليوقف تنصيبه رئيسا في العشرين من يناير/كانون الثاني الحالي 2025. فالدستور الأمريكي لا يمنع تولي الرئيس الحكم إذا كان مدانا، أو حتى سجينا لكن تلك الحالة كانت ستعقد الموقف وتصعب عمل الرئيس الذي تقع عليه مسؤوليات كبرى تتطلب أن يحظى بدعم وظروف مساندة دائما، كما وأنه معرض للتعامل مع الطوارئ واتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي الأمريكي في أي لحظة من لحظات الليل والنهار.
مع نهاية هذه القضية ورغم تعبير ترامب عن استيائه وشكواه من أنه قد تعرض للظلم والاستهداف السياسي إلا أن موقعه القانوني بالنسبة للقضايا التي واجهته أصبح أقوى بكثير مما كان عليه قبل انتخابه. فقبل نهاية قضية نيويورك، انتهت عمليا قضيتان كانتا مرفوعتين ضده وفيهما تحقيق فاعل من مستشار خاص عينته وزارة العدل في إدارة خصمه جو بايدن هو المستشار جاك سميث. القضية الأولى هي قضية اتهام ترامب بالاحتفاظ بوثائق سرية بعد انتهاء رئاسته. وقد شملت التحقيقات في تلك القضية مداهمة منزل ترامب في منتجع مارالاغو في ولاية فلوريدا وتفتيش غرف نومه ونوم زوجته وهو الأمر الذي أثار غضبه كثيرا.
أما القضية الثانية فهي تحقيق سميث بدور محتمل لترامب في حادثة اجتياح أنصاره لمبنى الكونغرس أثناء جلسة التصديق على انتخاب بايدن للرئاسة مطلع عام 2021.
لكن ومع فوز ترامب بالرئاسة تم إنهاء القضيتين استباقا لوصول ترامب للرئاسة. فقد جرت القضيتان تحت سلطة الحكومة الاتحادية التي سيترأسها ترامب ويصبح قادرا على التحكم بكل قراراتها سواء بالتثبيت أو الإلغاء. أما قضية اتهام ترامب بمحاولة التأثير على انتخابات عام 2020 في ولاية جورجيا فقد أصبحت في مهب الريح بعد أن قررت السلطات القضائية إبعاد المدعية العامة فاني ويليس التي بنت القضية ضد ترامب لكن تبين بعد ذلك أنها ارتبطت بعلاقة عاطفية مع محام عينته مستشارا مساعدا في التحقيقات.
يدخل ترامب الآن إلى البيت الأبيض من غير عراقيل لوجستية أو قانونية. يدخل أيضا محملا بتفويض شعبي أقوى من ذلك الذي حمله إلى الرئاسة عام 2016. لكن رحلة الصراعات السياسية بينه وبين خصومه لن تنتهي وستبقى القضايا القانونية والإدانة التي تلقاها في قضية نيوريورك قضية قابلة، في نظر خصومه، للإثارة ولتأجيج الجدل حوله وحول شخصيته.