في منطقة نائية في كوستاريكا، رُمم مرعى ماشية سابق وحُوّل إلى غابة مطيرة خصبة، وذلك بفضل عائلة واحدة وآلاف الفراشات.
فالطريق المتجه شمالاً من سان خوسيه يتعرج عبر تلال مليئة بنباتات السراخس قبل أن يتلاشى في الضباب، وتصبح القرى أصغر والهواء أكثر كثافة ويضيق الإسفلت حتى تبتلع الغابة المطيرة الطريق.
وعندما تفتح أبواب الحافلة، أجد نفسي محاطاً باللون الأخضر.
أسير نحو بوابة خشبية مكتوب فوقها حديقة "بيريلا البيئية" وأتوقف. تقع محمية الغابات المطيرة الخاصة هذه في بلدة سارابيكي في كوستاريكا، ورغم عدم ذكرها في العديد من الكتيبات الإرشادية، إلا أنها موطن لواحدة من أكثر التجارب التي لا تُنسى في البلاد.
بعدما كان مرعى قاحلاً للماشية، أصبح هذا النُزل الصغير الذي تديره عائلة محاطاً بغابة مطيرة ولدت من جديد.
وأمضى مالكا بيريلا، ويليام كاماتشو وكريستال بارانتيس، العقود الثلاثة الماضية في زراعة الأشجار والنباتات المحلية، وهي واحدة من الأماكن القليلة في العالم التي تمارس إعادة الحياة البرية بقيادة الفراشات.
وفي الحديقة، تُربى وتُطلق العشرات من أنواع الفراشات، ما يساعد في تلقيح النباتات ونشر البذور وتحفيز الديناميكيات المعقدة التي تحتاجها الغابة الصحية. ومع عودة الغطاء النباتي ببطء، عادت معه الطيور والضفادع والزواحف والقرود والقطط البرية التي تتحرك الآن في الغابة.
في بلد يعجّ بالنزل البيئية الفاخرة، تبدو هذه الوجهة النائية مختلفة حيث يقيم الضيوف ويتناولون الطعام مع العائلة، مما يجعل التجربة شخصية بعمق. إنها بمثابة إعادة إحياء للحياة البرية بلمسة إنسانية. نموذج يوضح كيف يمكن للسياحة، عندما تكون قائمة على المعاملة بالمثل، أن تساعد الطبيعة على التعافي.
وعند البوابة، دعيت إلى الدخول على وقع أصوات الطيور القادمة من نباتات الزنجبيل الأحمر وأشجار السيكروبيا، ومشيت بضع خطوات على طول ممر يؤدي إلى مطبخ مفتوح ومنطقة تناول طعام حيث ابتسمت لي كريستال بارانتس، مديرة النُزل، وقدمت لي حلوى منزلية الصنع.
وبعد تناولها، يرفع غيرالد بارانتس (ابن شقيق كريستال) منظاراً يستخدمه لمراقبة الطيور ويبتسم قائلاً: "هل أنتِ مستعدة للمغامرة؟".
وتحت مظلة خضراء كثيفة، يهمس غيرالد "تعالي وانظري هنا".
متكئاً على ورقة نبات عريضة يظهر أمامنا ضفدع الشجرة أحمر العينين بجلد أخضر ليموني، وعيون قرمزية، وأرجل مخططة باللون الأزرق وأصابع برتقالية صغيرة تبدو مضيئة.
وخلفه مباشرة، يقف طائر الطوقان بعنق أصفر وشريط يميل إلى الأحمر على صدره ويمزق موزة بمنقاره الطويل ذي اللونين.
وأعطاني غيرالد المنظار لأشاهد نسراً رومياً مهيباً، ويبدو رأسه الأحمر الصغير واضحاً في خلفية السماء الزرقاء.
وأوضح غيرالد أن هذه الطيور تعيش في أعماق البرية بعيداً عن التجمعات البشرية.
وفي أعالي الأشجار، يغفو حيوان الكسلان ببطء، ويمتزج فراؤه البني مع الأغصان.
ويستمر غيرالد في الإشارة إلى كائنات جديدة، واحدة تلو الأخرى. ويقول إنه في المجمل، يعيش أكثر من 200 نوع من الطيور في هذه الغابة التي تبلغ مساحتها أربعة هكتارات، إلى جانب القرود والكسلان وسحلية الإغوانا والخفافيش والقطط البرية وعدد لا يحصى من الضفادع والحشرات.
كما أن الكاكاو ينمو على طول الممرات، ويمكن للزوار الانضمام إلى ورشة عمل لصنع الشوكولاتة.
ومن الصعب تصديق أن هذه الغابة المطيرة المزدهرة كانت ذات يوم حقلاً متآكلاً بسبب الشمس.
وقال غيرالد، بينما كنا نتنزه في الممرات التربية الضيقة في النزل، "في عام 1995، لم تكن بيريلا سوى أرض عشبية، مجرد أبقار وسياج".
أراد كاماتشو استعادة ما كان في السابق غابة مطيرة. لقد أحب الفراشات دائماً ورأى فيها وسيلة لإعادة الحياة إلى الأرض.
ومستخدماً مدخراته، اشترى قطعة أرض من مرعى بمساحة 400 متر مربع، وزرع أشجاراً مضيفة للفراشات وأنشأ مزرعة فراشات صغيرة ومستدامة بالشراكة مع شركة كوستاريكا لتوريد الحشرات، وبيع الشرنقة لبيوت الفراشات وحدائق الحيوان حول العالم.
وعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية، واظب على إعادة استثمار الدخل من فراشاته بشكل متواصل لشراء الأراضي الزراعية المجاورة، محولاً منطقة الرعي القاحلة ذات يوم إلى الغابة المطيرة الخصبة القائمة اليوم.
وبات كاماتشو أحد أوائل مربي الفراشات في كوستاريكا يعتمد أساليب مستدامة، ويزوره الآن مزارعون من أنحاء البلاد - الذين كانوا في الماضي يقطعون الأشجار - ليتعلموا كيف يمكن للسياحة البيئية أن تحل محل دخل الماشية.
وسرعان ما يقودني غيرالد نحو منطقة مغطاة، ففي داخل خيمة الفراشات، التي تُدعى حديقة الفراشات، ترفرف مئات الفراشات بألوان متعددة حولي، لدرجة أنني أشعر وكأنني دخلت عالماً مختلفاً.
يقول كاماتشو، بينما تطير الحشرات حوله: "لقد زرعنا من أجل الفراشات، وقامت الطيور بالباقي"، مضيفاً: "جذبت الفراشات الطيور، وأسقطت الطيور البذور، وأصبحت البذور غابة".
وباتت كوستاريكا بهدوء أكبر مُصدر للفراشات الحية في العالم، إذ تشحن قرابة نصف مليون شرنقة سنوياً إلى معارض حول العالم.
وأوضح كاماتشو أن الفراشات في بيريلا تقع في قلب عملية إعادة الحياة البرية. وبينما تتغذى وتضع البيض، فإنها تقوم بتلقيح النباتات وتجذب الطيور والزواحف آكلة الحشرات إلى المناطق المتجددة.
ويساعد وجودها على إعادة بناء الشبكة الغذائية من الأسفل إلى الأعلى، مما يخلق ظروفاً تسمح للضفادع والخفافيش والثعابين والثدييات الصغيرة بالعودة.
وفي مختبر في الهواء الطلق، يقف غيرالد بجانب لوح، ويشرح كيف انخفض إجمالي الغطاء الحرجي في كوستاريكا من 75 في المئة في عام 1940 إلى 21 في المئة فقط بحلول عام 1987.
ويقول إن غابات البلاد انتعشت منذ ذلك الحين بنحو 60 في المئة بفضل جهود إعادة التشجير والسياحة البيئية على مستوى البلاد.
وخلفه، تلمع صفوف من الشرانق مثل اليشم المصقول. يرفع غيرالد واحدة بلطف، موضحاً كيف تتصلب اليرقات المختلفة وتغير لونها.
أشاهد اللحظة التي تبدأ فيها يرقة بالتحول إلى اللون الأخضر من منتصف رأسها، لتتصلب إلى شرنقة، تحول صامت يجري أمام عيني.
منذ عام 1995، قاد كاماتشو وكريستال جولات تعليمية لآلاف السياح والطلاب من جميع أنحاء العالم، فيما تساهم الإيرادات السياحية في دعم العائلة والأرض، وتمويل المزيد من إعادة التشجير والتثقيف المجتمعي.
وعند غروب الشمس، أمشي إلى منطقة الطعام، حيث تنتظرني وجبة منزلية من كاسادو (الطبق المحلي المكون من الأرز والفاصوليا والسلطة والموز المقلي والدجاج)، وأولا دي كارني (حساء لحم بقري غني مطهو على نار هادئة مع خضروات جذرية والجزر والموز). جميعها مطهوة على نار الحطب، مما يملأ الجو برائحة الدخان والتوابل.
ومع حلول الظلام، يظهر غيرالد مرة أخرى مع مصابيح الرأس قائلاً: "دعونا نستكشف الغابة المطيرة في الليل".
وتتحول الغابة بعد حلول الظلام. الصوت يحل مكان الرؤية، نقيق الضفادع، وأجنحة الطيور تلامس الأوراق، وصوت المطر الخفيف الذي يهطل عبر الأشجار.
وتكشف المصابيح عن نمل قاطع للأوراق يسير في خطوط طويلة يحمل شفرات خضراء فوق رؤوسه، وضفادع السهام السامة وثعبان ملتف وسحلية بازيليسق الخضراء.
بينما نمضي قدماً على الطريق، يتوقف غيرالد بجانب ورقة هيليكونيا عريضة، ويقول: "انظري من الأسفل" فانحنيت لأدقق النظر إلى الداخل حيث تتجمع عائلة من خفافيش هندوراس البيضاء تحت الورقة، مع لمعان فرائها الأبيض في شعاع الضوء. لم أكن أعرف أن الخفافيش البيضاء موجودة أصلاً، وأنا سعيدة جداً.
عندما عدت إلى النزل، كنت مفتونة بغرفتي. غرف خشبية فسيحة في أكواخ محاطة بغابات. أشعر وكأنني أعيش داخل الغابة.
وفي الصباح الباكر، يوقظني صوت القردة المنخفض من مكان ما وراء الأشجار. للحظة، أستمع فقط إلى أصوات الطيور، وطنين الحشرات، وكائنات غير مرئية تحرك الأوراق.
وأتجه إلى منطقة الطعام، حيث ترشف طيور الطنان ذات الأعناق البيضاء من أماكن طعامها. وقرب هناك، تندفع طيور العسل الخضراء المبهرة بين الأغصان، بينما تومض هذه طيور اللامعة بأجسامها الزرقاء الزاهية المخططة بالأسود بين الأشجار.
وحولها، يتجمع عدد لا يحصى من الطيور الأخرى ذات الألوان الزاهية التي لم أرها من قبل لتتغذى على الموز الناضج. احتسي كوباً من القهوة الطازجة، مستمعاً إلى أصوات متعددة الطبقات.
وبينما أتناول الإفطار، وضع غيرالد شرنقة على الطاولة بجانبي قائلاً: "إنها على وشك الفقس". وفي غضون دقائق، ترتجف القشرة وتنقسم. تنزلق فراشة رطبة إلى الخارج مرتعشة أجنحتها ناعمة كالحرير.
بالعودة إلى داخل حديقة الفراشات، تفتح فراشة مورفو زرقاء، انبثقت حديثاً، أجنحتها المضيئة ببطء، ثم ترتفع نحو المظلة، وميض من اللون يختفي في الخضار.
من الصعب تصديق أن هذا العالم بأكمله بدأ بفكرة واحدة: أن الزراعة من أجل الفراشات يمكنها يوماً ما إعادة الغابة. فعل صغير أثار تحولات كبيرة، تأثير فراشة حقيقي.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة